بشير عبد الفتاح *
كالنار فى الهشيم، تسري الاحتجاجات والاعتصامات الطلابية من جامعة كولومبيا بنيويورك، لتجتاح مئات الجامعات الأمريكية والأوروبية. وبموازاة ترديدها شعارات مؤيدة للفلسطينيين، منددة بحرب الإبادة ضد أهالي غزة؛ تطالب بإنهاء الاعتداءات الإسرائيلية على المدنيين، ووقف الدعم الأمريكي للعدوان الإسرائيلي، وتجميد تعامل الجامعات الأمريكية مع نظيرتها الإسرائيلية، وتعليق الاستثمارات في الشركات التي تزود إسرائيل بالأسلحة، سحب الجامعات الأمريكية استثماراتها من الصناديق والشركات الداعمة للعدوان الإسرائيلي على غزة؛ والتي تناهز 50 مليار دولار، تستأثر جامعة كولومبيا وحدها بأكثر من 13 مليارًا منها. ثم العفو عن الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، الذين تم تأديبهم أو طردهم بجريرة المشاركة في الاحتجاجات والاعتصامات.
أسوة بما جرى عام 1968، حينما تأثر طلاب جامعة السوربون الفرنسية العريقة، بحراك نظرائهم الأمريكيين، فانتفضوا رفضًا للاستغلال الرأسمالي، والقيم الاستهلاكية، والتوجهات الحكومية المعادية للطبقات الشعبية والعمالية، انتقلت عدوى الحراك الطلابي الأمريكي الراهن إلى القارة العجوز. حيث شهدت العاصمة الفرنسية، تظاهرات مماثلة لطلاب يرفضون العدوان على غزة، وينددون بموقف الحكومة الفرنسية حِيالها؛ وتواطؤ الرئيس ماكرون، في جرائم الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين. كما احتشد طلاب في معهد العلوم السياسية بباريس، وكلية «ساينس بو» للعلوم السياسية العريقة، احتجاجًا على تدخل الشرطة في الحرم الجامعي لفض التظاهرات ومنع الاعتصامات؛ ورفضًا لاعتماد السلطات «نظامًا إداريًا قضائيًا» يستهدف مناصري الفلسطينيين، في حين لا يطال مؤيدي إسرائيل.
دلفت حركة «غير ملتزم» المناهضة للرئيس، بايدن، عبر مطالبة الناخبين الديمقراطيين بعدم التصويت لأي مرشح رئاسي، احتجاجًا على الحرب في غزة، إلى المشهد. معلنة انخراطها في الحراك الطلابي؛ أملًا في حشد الأصوات المناهضة لبايدن، في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، واستقطاب الطلاب وأعضاء هيئة تدريس من خلفيات متنوعة. خاصة بعدما استفزهم، بايدن، بتوقيعه قانونًا يتيح تقديم مساعدات بقيمة 26 مليار دولار لإسرائيل، التي غدت أكبر متلقِّ للمساعدات الأمريكية التراكمية على مستوى العالم. ولقد حصدت حركة «غير ملتزم»، أصواتًا ضخمة في الانتخابات التمهيدية بولايات ميشيغان، مينيسوتا وهاواى؛ وفازت بعدد 25 مندوباً. كما تستعد لملاحقة، بايدن، أثناء المؤتمر الوطني الديمقراطي بشيكاغو في آب/ أغسطس المقبل، والذي من المتوقع أن يعلن رسمياً خلاله، ترشحه لولاية رئاسية ثانية.
انطلاقاً من الدور الوظيفي، الذي تضطلع به إسرائيل في الاستراتيجية الأمريكية إزاء الشرق الأوسط؛ لم يتورع الساسة الأمريكيون عن تجاهل مبادىء الديمقراطية وقيم الحرية، التي بُني عليها النموذج الأمريكي. كما لم يترددوا في التغافل عن الأسس والدعائم، التي يرتكن عليها النظام العالمي، الذي لعبت واشنطن دوراً محورياً في تحديد معالمه وصوغ فلسفته، بعدما وضعت الحرب الكونية الثانية أوزارها.
فسياسياً، تبارى المسؤولون الأمريكيون في تكييل الدعم لإسرائيل، وانتقاد المتظاهرين. فبينما جدد الرئيس، بايدن، رفضه ما أسماه «الاحتجاجات المعادية للسامية»، منتقداً من نعتهم «أولئك الذين لا يفهمون ما يحدث مع الفلسطينيين» ؛ ندّد الرئيس السابق ، ترامب، بالاحتجاجات، التي اعتبرها «عاراً على الولايات المتحدة» ؛مشبهاً إياها بمسيرة شهيرة نظمها اليمين المتطرّف في فرجينيا عام 2017، وأدت إلى اندلاع اشتباكات عنيفة بين مناصري نظرية تفوق العرق الأبيض ومناهضي العنصرية. أما حاكم تكساس الجمهوري، جريج أبوت، الذي استدعى الشرطة لاقتحام الحرم الجامعي، لفض الاحتجاجات والاعتصامات بالقوة، واعتقال الرافضين؛ فاعتبر الاحتجاجات «معادية للسامية»، ودعا إلى طرد الطلاب المتظاهرين. بدوره، ومن داخل جامعة كولومبيا، ندد رئيس مجلس النواب، مايك جونسون، بالاحتجاجات، التي ادعى أنها تتضمن شعارات معادية للسامية، وتظهر تعاطفا مع حركة «حماس»، وتطالب بتدمير إسرائيل، بما يشكل تهديداً للطلبة اليهود. وطالب البيت الأبيض باتخاذ إجراءات حاسمة، مقترحاً الاستعانة بالحرس الوطنى والجيش لقمع التظاهرات. وهي الدعوة، التي نكأت جراح الأمريكيين بشأن حادثة مروعة وقعت عام 1970؛ وأطلق خلالها الحرس الوطنى، النار على الطلاب المتظاهرين ضد حرب فيتنام، داخل جامعة كينت بأوهايو، ما أسفر عن مقتل أربعة أشخاص.
في مسعى منه لخلط الأوراق وانتزاع مكسب دعائي يطيل بقاء حكومته، ويبيض وجه بلاده عالمياً، دخل، نتنياهو، على خط الأزمة. حيث زعم في مقطع فيديو، «أن ما تشهده الجامعات الأمريكية أمر مروع… إذ يستولي الغوغاء المعادون للسامية على الجامعات الرائدة ويطالبون بإبادة إسرائيل، ويهاجمون الطلاب وأعضاء هيئة التدريس اليهود.. على غرار ما حدث في الجامعات الألمانية إبان ثلاثينيات القرن الماضي».
أمنياً، وتأسياً بتعاطيها العنيف مع الاحتجاجات المناهضة لحرب فيتنام، وحركة تحرير السود، فيما مضى، عمدت السلطات الأمريكية إلى قمع الحراك الطلابي المتفاقم، على طريقة دول العالم الثالث. حيث اقتحمت الشرطة الحرم الجامعي، واعتقلت متظاهرين رافضين لأوامر فض التجمع وحظر التخييم. كما أغلقت إدارة الجامعة الحرم الجامعي ومنعت وسائل الإعلام من دخول ساحات الاعتصام. وهدد مسؤولون بعدم التسامح مع ما أسموه «معاداة السامية»، محذرين من استمرار الاعتقالات حتى تتفرق الحشود، ومواصلة طرد الطلاب المشاركين في الاحتجاجات «المليئة بالكراهية».
هٌرعت منظمات حقوقية أمريكية للتنديد بالانتهاكات الممنهجة ضد المتظاهرين السلميين داخل الجامعات. فلقد وصفت لجنة فيدرالية أداء الشرطة الوحشي إبان المواجهات، بأنه أعمال شغب بوليسية. كذلك، نددت منظمة «هيومن رايتس ووتش» و«اتحاد الحريات المدنية الأمريكي»، باعتقال المتظاهرين واستدعاء الشرطة لفض الاعتصامات؛ وحثا السلطات على احترام الحق في حرية التعبير، بموجب التعديل الأول من الدستور الأمريكي. ووصف الاتحاد، تعاطي الأجهزة الأمنية مع الحراك الطلابي، بأنه حملات قمع غير دستورية. بدورهم، انتقد نواب ديمقراطيون توقيف الشرطة للمتظاهرين الشباب داخل حرم الجامعة؛ واعتبروه عملًا تصعيديًا، متهورًا وخطيرًا وفشلًا فادحًا للقيادة، يُعرض حياة الناس للخطر.
من جانبهم، عبّر مشرعون ديمقراطيون عن قلقهم البالغ إزاء تقارير بشأن استخدام الشرطة قوة مفرطة في حرم الجامعات، معتبرين استخدام الشرطة أساليب مكافحة شغب متطرفة إزاء الاحتجاجات والتظاهرات السلمية، التي تظنها أعمال عنف وإرهاب، تصعيدًا مقلقًا.
وفي السياق، أدانت منظمة العفو الدولية، طريقة تعامل السلطات الأمريكية مع الاحتجاجات الطلابية الداعمة لغزة، في عدد من الجامعات. مؤكدة في بيان لها، إن إدارات الجامعات الأمريكية واجهت الاحتجاجات الداعمة لحقوق الفلسطينيين، بعرقلتها وقمعها. وبدلًا من السماح لمنظميها بممارسة حقهم في الاحتجاج وحماية ذلك الحق، وجهت جهودها لقمعه؛ حتى إنها أشركت السلطات المحلية في الأنشطة القمعية، وطالبت باعتقال المحتجين وأوقفت الطلاب المشاركين في المظاهرات السلمية عن الدراسة.
وشدد البيان على أهمية الحق في الاحتجاج بحرية بشأن ما يحدث الآن في غزة؛ خاصة مع استمرار إدارة، بايدن، في إمداد الجيش الإسرائيلي بالأسلحة، ما يجعلها متواطئة ومتورطة في الفظائع التي يرتكبها، يوميًا، ضد الفلسطينيين.
إلى الأذهان، يعيد الحراك الطلابي، الذى اجتاح جامعات أمريكية وأوربية، بمشاركة طلاب، أعضاء هيئات التدريس ومديرين تنفيذيين، شبح الحركة الطلابية المناهضة للحرب الأمريكية في فيتنام عام 1968، والتي كانت أول حرب يتابع الأمريكيون أهوالها مباشرة عبر شاشات التلفزة.
وبمستوى مُقلق من القمع، تعاملت السلطات الغربية مع الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، بعدما وصمتها بالتعاطف مع حماس، مناهضة الصهيونية ومعاداة السامية. فيما ينفي عنها منظموها، تلك الاتهامات، كونها تضمنت مشاركة أبناء الديانتين اليهودية والإسلامية، خصوصًا منظمتي «طلاب من أجل العدالة في فلسطين»، و«الصوت اليهودي من أجل السلام».
وبينما يتوسل توازنًا مستعصيًا بين تأييد إسرائيل ومناهضة معاداة السامية من جانب؛ ورفض التمييز ضد العرب والمسلمين، مع احترام حق الطلاب في التظاهر السلمى من جانب آخر؛ يتأمل، بايدن، الإفلات من تكبد الكلفة السياسية للإخفاق في تحقيق تلك المعادلة الصعبة، خلال الماراثون الرئاسي المرتقب.
* باحث أكاديمي مصري
المصدر: الشروق