(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الرابعة من الجزء الثاني– بعنوان: (انقلاب أم ثورة).. بقلم الأستاذ “ياسين الحافظ”
(3)
انقلاب أم ثورة
ينشأ الموقف الثوري بتوفر شرطين؛ الأول أن يكون الشعب ناقماً على الحكم، والثاني أن يكون الحاكم عاجزاً عن الاستمرار في الحكم. وقد توفرت مثل هذه الحالة في القطر المصري عام 1952.
ولكن هل كانت أحداث تموز/ يوليو 1952 مجرد تفجير كاذب للنقمة الشعبية? هل كانت تلك الاحداث مجرد انقلاب عسكري على غرار انقلابات أمريكا اللاتينية أو انقلابات القطر السوري? الانقلاب هو التحرك الخادع على سطح الحياة، هو النبش الخفيف على قشرة الحياة الاقتصادية والسياسية مع بقاء أسس المجتمع القديم ونظمه الأساسية.
أما الثورة فهي التحرك الجذري في جوف المجتمع، هي الحرث العميق في أسس الحياة الاقتصادية والاجتماعية، هي نقل المجتمع من مرحلة إلى مرحلة، هي دفن طبقة من المجتمع تجاوزها التطور وتخطاها التاريخ.
من جديد لنتساءل: هل كانت احداث تموز لعام ٩٥٢ مجرد انقلاب أم ثورة ؟ لكي تكون اجابتنا على هذا السؤال محددة ودقيقة ، لابد أن نستعيد الاحداث الهامة والكبرى التي صنعتها حركة ٢٣ تموز في القطر المصري :
عام ١٩٥٢؛
– لیل ۲۲- ۲۳ تموز/ يوليو تحرك الجيش بقيادة تشكيل الضباط الأحرار وحاصر السراي الملكي وتمت إقالة الحكومة.
– خلع فاروق باعتباره الركيزة الأولى للاستعمار والرجعية .
– صدور قانون الاصلاح الزراعي، (الحد الأعلى للملكية مئتي فدان).
– مصر تطلب أسلحة من أمريكا، أمريكا تطلب من مصر توقيع اتفاقية للأمن المتبادل معها، مصر ترفض الاتفاقية وأمريكا تمتنع عن تسليح الجيش المصري.
– إنشاء المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي.
– مصر تسهل دخول رؤوس الأموال الأمريكية بغرض التنمية, مصر ترفض الشروط الأمريكية للاستثمار.
– إقرار مشروع السنوات الخمس الأُوَل.
عام ١٩٥٣؛
– وضع حجر الأساس لبناء مصنعين للذخيرة.
– إلغاء النظام الملكي.
– مصادرة أموال وممتلكات الأسرة المالكة.
– اشتداد الكفاح ضد الاستعمار الإنكليزي وإصدار الأوامر بحظر التعامل وتداول المواد الغذائية مع قوات الاحتلال.
عام ١٩٥٤؛
– عبد الناصر يعلن: الاستعمار لن يخرج بالكلام بل بالقوة.
– المفاوضات تنتهي إلى إبرام اتفاقية الجلاء.
عام ١٩٥٥؛
– عبد الناصر يرفض سياسة ربط مصر والدول العربية الأخرى بدول أجنبية، ويهاجم أحلاف الدفاع عن الشرق الأوسط الأمريكية.
– عبد الناصر يهاجم حلف بغداد ويقود معركة حصره.
– انعقاد مؤتمر باندونغ، ومصر تلعب دوراً نشيطاً فيه، عبد الناصر يعلن تصميم مصر على اتباع سياسة الحياد وعدم الانحياز.
– صدور قانون بإلغاء القضاء الشرعي والملل.
– إعلان صفقة الأسلحة مع تشيكوسلوفاكيا، مصر تمارس عملياً سياسة الحياد والكفاح ضد الاستعمار.
– عقد ميثاق عسكري بين مصر وسوريا.
عام ١٩٥٦؛
– أول دستور للثورة يكرس عروبة مصر.
– اعتراف مصر بالصين الشعبية.
– جلاء آخر جندي بريطاني عن مصر.
– دالس يعلن سحب العرض بتمويل السد العالي بسبب موقف مصر في مؤتمر باندونج واعترافها بالصين الشعبية.
– تأميم قناة السويس والذعر يجتاح الأوساط الاستعمارية.
– العدوان الثلاثي ضد مصر، انذار بولغانين، وقف العدوان، انسحاب قوى الاحتلال والعدوان.
عام ١٩٥٧؛
– عبد الناصر يعلن إلغاء اتفاقية الجلاء مع بريطانيا.
– عبد الناصر يعلن مصادرة رؤوس الأموال الإنكليزية والفرنسية في مصر.
– آيزنهاور يعلن مبدأه.
– عبد الناصر يهاجم مبدأ آيزنهاور ويُعلن أن الشعوب العربية هي التي تملأ الفراغ.
– الولايات المتحدة تُجمد الأموال المصرية تضامناً مع بريطانيا وفرنسا.
– الولايات المتحدة تمتنع عن تموين مصر بالقمح في حين أن احتياطي القمح لا يكفي إلا لمدة أسبوعين، الاتحاد السوفياتي ينقذ مصر من مجاعة محتملة، فشل محاولة إسقاط عبد الناصر الأمريكية عن طريق أزمة القمح.
– إنشاء المؤسسة الاقتصادية بغرض التنمية وإنشاء مجلس أعلى للتخطيط.
– نزول قوات مصرية للدفاع عن سوريا ضد الضغط والعدوان الاستعماري المحتمل.
عام ١٩٥٨؛
– إعلان الجمهورية العربية المتحدة.
– الدستور يكرس الخطوة الأولى نحو علمانية الدولة.
– إحباط مؤامرة سعود لمنع الوحدة بين مصر وسوريا.
– اندلاع الثورة بلبنان؛ أمريكا تهدد وعبد الناصر يعلن: لن نسكت على التهديد الأمريكي.
– اندلاع الثورة في العراق وإعلان الجمهورية ووضوح الاتجاه الوحدوي في الثورة، نزول القوات الأمريكية في لبنان والإنكليزية في الاردن، الهدف من الإنزال منع وحدة العراق مع الجمهورية العربية المتحدة، عبد الناصر يعلن من عرض البحر: إن أي اعتداء على الجمهورية العراقية يعتبر اعتداء على الجمهورية العربية المتحدة ويسافر إلى موسكو.
– تطبيق الإصلاح الزراعي في القطر السوري.
– البدء بوضع مشروع للسنوات الخمس في سوريا.
– انشاء وزارة للصناعة ووزارة للتخطيط في سوريا.
عام ١٩٥٩؛
– تعريب المصارف الاجنبية في سوريا.
– وضع حجر الأساس لمشروع السد العالي.
عام ١٩٦١؛
– تأميم جميع وسائل التمويل في سوريا ومصر والقسم الاعظم من وسائل الإنتاج (۸۰٪ منها).
– إنشاء المؤسسة الاقتصادية في سوريا.
– إصلاح زراعي أكثر تقدمية في مصر (الحد الأعلى للملكية مئة فدان).
***
هذا السجل الموجز للأحداث التي صنعتها حركة ٢٣ تموز/ يوليو وللتطورات التي ولّدتها تقطع بأنها ثورة، بكل ما في كلمة ثورة من معاني وأبعاد ومستويات.
لقد وُلدت بعد مخاض ثوري وبعد تحضير تنظيمي طويل دقيق، لقد كانت انفجاراً حتمياً لوضع متفجر، لذا لم تكن تحركاً خادعاً على قشرة الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للشعب العربي في مصر بل كانت تحركاً جذرياً، زعزعت أسس الحياة المصرية القديمة وهارت قسماً هاماً من بنيانها النخر المتداعي. لقد أبادت الثورة طبقة برمتها، طبقة معادية للتقدم، طبقة الإقطاعيين تخطاها التطور التاريخي. لقد نقلت الثورة ملكية الأرض من الاقطاع وسلمتها إلى جماهير الفلاحين الفقيرة. وهي أيضاً قد حطمت إلى الأبد السلطة السياسية للإقطاع، وبهذا انتزعت من الاستعمار دعامته الرئيسية. وأخيراً نقلت ملكية ثمانين بالمئة من وسائل الإنتاج إلى الملكية العامة، كما نقلت جميع وسائل التمويل إلى الملكية العامة أيضاً.
ولا ينتقص من قيمة هذه الثورة، ولا يضع سمتها الثورية موضع شبهة وتساؤل كونها لم تأت وفق النمط الكلاسيكي للثورات التاريخية، فليس للثورات قياسات محددة ونماذج معينة- كما يزعم المذهبيون الجامدون- إن طابقها الحدث فهو ثورة، وإلا فإنه ليس كذلك. الثورة «ظاهرة حيّة»، وإن هؤلاء الذين لا يتصورون الثورة إلا إذا اصطف- كما يقول لينين- جيش من العمال والفلاحين قال نحن من التقدم والديموقراطية والاشتراكية؛ بينما في مكان آخر يصطف جيش آخر يقول نحن مع الاستعمار والإقطاع والرأسمال، إن من لا يتصورون الثورة إلا وفق هذا المخطط هم أصحاب خربشات بدائية يسمونها نظريات علمية.
الثورة انفجار في إطار معين للمجتمع بالغ الاهتراء، وهي انفجار شتى العناصر المظلومة والساخطة التي تؤدي، موضوعياً، إلى زلزلة ما هو قديم ومتخلف في الحياة. حقاً لم يكن لثورة ٢٣ تموز/ يوليو خطة واضحة وشاملة، حقاً إنها لم تتقيد بقواعد محدودة، حقاً إن كلاً من فئاتها قد ساهمت في صنع الثورة وفق أوهامها وتخيلاتها ومصالحها، حقاً لقد كان طابع النضال الذي مارسته غير متجانس ومتنوعاً وغير متلاحم الأجزاء ومتنافر أو ظاهراً، إلا أن حصيلة النضال، من الناحية الموضوعة ومن الناحية العملية، كانت إيجابية وجوهره كان ثورياً.
لقد كانت ثورة ٢٣ تموز/ يوليو لسنة 1952 حاجة مباشرة ملحة، ولم تكن تجريداً نظرياً موصولاً بتلك الحاجة. هذه حقيقة ملموسة، ومن هنا ينبع الجانب السلبي في الثورة، وهنا موطن ضعفها، إلا أنها تبقى ثورة على كل حال.
إلا أن الاسلوب الثوري، الذي جاء كحاجة عملية، أخذ- بالممارسة والتجربة- يمتلئ بمضمون نظري زادَه إيضاحاً وحزماً، إذ اعتبرت الثورة الوسيلة الوحيدة في العمل. ولقد انعكست هذه الحقيقة في الميثاق الوطني الذي جاء فيه ما يلي:
«لقد أثبتت التجربة، وهي مازالت تؤكد كل يوم، أن الثورة هي الطريق الوحيد الذي يستطيع النضال العربي أن يعبُر عليه من الماضي إلى المستقبل…
فالثورة هي الوسيلة الوحيدة التي تستطيع بها الأمة العربية أن تخلص نفسها من الأغلال التي كبلتها ومن الرواسب التي أثقلت کاهلها…
والثورة هي الوسيلة الوحيدة لمغالبة التخلف الذي أُرغمت عليه الأمة العربية كنتيجة للقهر والاستغلال. فان وسائل العمل التقليدية لم تعد قادرة على أن تطوي مسافة التخلف الذي طال مداه بين الأمة العربية وبين غيرها من الأمم السابقة في التقدم. ولا بد والأمر كذلك من مواجهة جذرية للأمور تكفل تعبئة جميع الطاقات المعنوية والمادية للأمة فتحمل هذه المسؤولية…
والثورة العربية هي أداة النضال العربي الآن وصورته المعاصرة…».
إن أحداث ٢٣ تموز/ يوليو لعام 1952 قد فتحت الطريق على مصراعيه إلى الثورة، وقد استطاع الجناح الثوري في تلك الحركة أن يحولها من مجرد انقلاب إلى ثورة وانتصر دعاة الثورة الشاملة على دعاة الإصلاح لأن «احتياجات الوطن لم تكن تقضي بترميم البناء القديم المتداعي، وإنما كانت احتياجات الوطن تتطلب بناءً جديداً ثابتاً صلباً شامخاً».
……………………………..
يتبع.. الحلقة الخامسة بعنوان: (السمات الإيجابية للثورة).. بقلم الأستاذ “ياسين الحافظ”