لميس أندوني *
ما حدث ليلتي 13 و19 إبريل/ نيسان كان أبعد وأخطر من مجرّد خرق الأمن القومي العربي، المُختَرَق أصلاً، إذ جرى استبدال مفهوم الأمن القومي العربي بـ “الأمن القومي الصهيوني”، وانطلقت نواة إنشاء حلف عسكري عربي إسرائيلي مبنيٍّ على أشلاء الغزّيين، كلّ عربي وإنسان كان ضحية المشروع الصهيوني. صحيحٌ أنّ مُرور المُسيّرات والصواريخ الإيرانية باتجاه إسرائيل يدلّ على غياب الاحترام لسيادات دول عربية على أراضيها، لكن هذه السيادات مرهونة أصلاً باتفاقيات أمنية عسكرية مع كلّ من أميركا وإسرائيل. فما شهدناه من صمت إلى تواطؤ، بل تعاون عربي، يثبت مجدّداً أنّ الأمن الوطني لكلّ دولة على حدة، والأمن القومي، لا وجود لهما إذا كان المطلوب إثبات الوفاء لسادة الاستعمار في واشنطن والعواصم الغربية.
لم يستطع رؤساء الغرب إخفاء ابتهاجهم بنجاح مشاركة العرب في إسقاط نحو 300 من المسيّرات والصواريخ الإيرانية فوق أراضٍ عربية، وبتعاون بعض الدول الغربية معها، مبشّرة بحلف غربي عربي إسرائيلي للدفاع عن إسرائيل. كان وزير الخارجية البريطاني، ديفيد كاميرون، أكثرهم وضوحاً، حين بدا محتفلاً بهذا “الإنجاز”، وتوظيفه مُبالغاً في أهميته الدفاعية، بقوله إنّه “لولا عرقلة الغرب وبعض العرب أسلحة الطيران الحربي الإيراني لكان هناك مئات من الجرحى والضحايا الإسرائيليين”. وقد هدفت تصريحات كاميرون إلى استعادة إسرائيل صورة “الضحية” بعد تداعي صورتها في الغرب نتيجة سلسلة مجازر حرب الإبادة ضدّ أهل غزّة، ووحشيتها في الضفّة الغربية والقدس، بادعاءات كاذبة بنجاح تدخّل الغرب، وبعض العرب في منع إيران من ارتكاب “مجزرة” ضد الإسرائيليين. فهو يعرف تماماً أنّ إيران أبلغت الولايات المتّحدة مسبقاً بعمليتها محدودة التأثير. كما أنّ إيران لم تكن تحتاج مئات المُسيّرات والصواريخ لإحداث خسائر بشرية بين الإسرائيليين، أي تعمّدت عدم حدوث ذلك، لكنّ التضليل مهم لتسويق الاستراتيجية الغربية الصهيونية لتشكيل تحالف عسكري إسرائيلي عربي، في مواجهة “الخطر الإيراني”، وتصبح إسرائيل ضامنة أمن العرب ومستقبلهم.
مجريات الأحداث تفرض سؤالين: ما تأثير استعراض القوى الإيراني على مستقبل حرب الإبادة في غزّة؟ ما تأثيره على مجمل القضية الفلسطينية؟ … لم تتحرّك إيران ولم تنفّذ الاستعراض الجوي المثير لإنقاذ غزّة، لكنّها تحرّكت ردّاً على قصف قنصليتها في دمشق، ما أغضب كثيراً من الفلسطينيين. غيرَ أنّ إيران دولة تحاول فرض سيطرتها إقليمياً، وفي الوقت نفسه، هي الوحيدة التي تدعم المقاومة المسلّحة الفلسطينية، إذ إنّ ذلك من شروط شرعيتها، منذ انتصار الثورة الإيرانية (1979)، لكنّها لن تضحّي بمصالحها لتحرير فلسطين. أمّا التوتّر الإقليمي الذي أنتجته حرب الإبادة ضد فلسطينيي غزّة، واستمرار طهران في الدعم السياسي والعملي لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، قبل الحرب وخلالها، مهما كانت دوافعه، كانت سبباً رئيساً في استهداف إسرائيل أهدافاً إيرانية في سورية وداخل إيران، فمنذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 تمكّنت إسرائيل من اغتيال 18 من القادة الميدانيين للحرس الثوري الإيراني. أيّ أنّ المواجهة الإيرانية الإسرائيلية غير منفصلة عمّا يحدث في فلسطين، وإن كان الدافع المباشر لإيران ضرورة الردّ على قصف قنصليّتها في دمشق وتغيير قواعد الاشتباك مع إسرائيل، ومن الضروري فهم هذا الرابط بين الأحداث لفهم تداعيات الغياب العربي والتخلّي عن الفلسطينيين، وحتى التخلّي عن الدفاع أو حماية سيادة الدول العربية، على القضية الفلسطينية، فالمقاومة لا تستطيع التخلّي عن الدعم الإيراني، ومن السهل القول إنّ عليها أن تعتمد على نفسها، والتواطؤ العربي الذي تكشَّف في صورة مُهينَة عمّق شعور الفلسطينيين بعزلتهم بالرغم من اتساع الدعم لهم بين الشعوب والمثقّفين في الغرب والعالم. فليس مطلوباً من الفلسطينيين معاداة إيران، حتى لو شعر كثير منهم بالخذلان، ولا الاعتماد عليها حليفاً مبدئياً. المطلوب رؤية فلسطينية تحدّد ماهية الاستفادة من التناقضات الإقليمية والدولية.
الأخطر أن يتقبّل فلسطينيون وعرب الرؤية الأميركية للخلاف مع إيران، فطهران كما شهدنا تستطيع أن تحدّد سقف مواجهتها مع أميركا وإسرائيل، معتمدة على قوّتها وعلى رؤيةٍ قد لا تكون تقدّمية، لكنها دولة تحافظ على هيبتها ومصالحها، فيما يستمر العرب في تبعيتهم لأميركا وللغرب. لكن، مع كلّ التداعيات السلبية لانكشاف تطويع الأمن القومي العربي لصالح إسرائيل، لم تقزّم المواجهة الإيرانية الإسرائيلية القضية الفلسطينية، بل على العكس، أثبتت مرّة أخرى أنّه لا سلام من دون حلّ القضية الفلسطينية، بل إنّ استمرار الصمود والمقاومة الفلسطينية، ولا نتحدث هنا عن شكلها المسلّح حصراً، هو شرط لدعم الأمن الوطني للدول العربية، خصوصاً المحاذية للعدوّ.
بدت الدول العربية ضعيفة وهزيلة، فيما استمرّ الفلسطينيون في مواجهاتهم اليومية مع الاحتلال، بينما شعرت الشعوب العربية نفسها مكبّلةً، فمقاومة الاحتلال قراراً يفرض نفسه أسهل من تحرّك جماهيري يفتقد إلى قيادات قوية، لأسباب مفهومة، منها القمع الرسمي وخشية الانجرار نحو الفوضى في ظلّ هيمنة إسرائيلية تكشّفت في صورة مذلّة خلال جولتي المواجهة الإيرانية الإسرائيلية، والأردن أوضح مثال على ذلك. فالدولة الأردنية مشلولة نتيجة ارتباطها بمعاهدة سلام مع إسرائيل، واتفاقيات رهنت قطاعات حيوية بعدوّ صهيوني يبتزّ الأردن في أمنه وحقوقه المائية المشروعة، فيما فرضت المعاهدة العسكرية الأردنية الأميركية، التي وُقّعت خلال عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، إسقاط مُسيّرات وصواريخ إيرانية، مقابل سكوت مُطْبِق على مرور الصواريخ الإسرائيلية المتّجهة إلى إيران فوق أرضه.
المشكلة لا تكمن في التبعية الأردنية لأميركا فحسب، وإنّما في فشل النظام العربي بالحفاظ على الأمن القومي ورهنه بمصالح واشنطن، فالأردن أضحى ضعيفاً أمام الابتزاز الأميركي والإسرائيلي، فيما تدفع واشنطن دولاً عربية غنيّة نحو تطبيع تحالفي مع إسرائيل، بل وتموّله، فإن كان الذلّ العربي الرسمي زاد من وقع حرب الإبادة المُحبط للشعب العربي، إلا أنّه يجب أن يكون دافعاً للاستمرار في مناهضة التطبيع. فجزء من الشلل هو نتيجة لمعاهدات التطبيع، لكن ذلك كلّه لم ولن ينهي القضية الفلسطينية. لنتذكّر ذلك، فالتضحيات الفلسطينية مستمرّة ويجب ألّا تذهب هباء.
* كاتبة وصحفية أردنية
المصدر: العربي الجديد