عبد الله السناوي *
كأننا أمام دولة من العالم الثالث تَقهرْ وتَقمعْ شبابها.. لا قوة عظمى بَنَتْ صورتها على حريات التعبير واستقلال الجامعات.
شاهدَ العالم كله عبر الشاشات فض الاحتجاجات الطلابية بالقوة الأمنية الغليظة لإجهاض أوسع تضامن سياسي وإنساني مع غزة ضد حرب الإبادة، التي تعاني ويلاتها.
ليس ممكناً ولا متاحاً لأية دولة مصادرة المستقبل ونزع الشعور بالغضب من صدور شبابها بادعاءات غير صحيحة بأنها «معادية للسامية»، أو «مخالفة للقانون»!.. كما حاول أن يُسوّغ الرئيس الأمريكي «جو بايدن» ما جرى.
دافعَ عن حق التظاهر وإبداء الرأي ونفاهُ باللحظة ذاتها حينما اتهم الاحتجاجات بما لم يكن فيها.
لا يريد خسارة أصوات الشباب والطلاب، الذين شاركوا في انتفاضة غزة بالجامعات الأمريكية، ولا الجاليات العربية والإسلامية، وفي نفس الوقت ألا يستنزف رصيده من الأصوات الموالية لإسرائيل.
بدت مقاربته «مهمة مستحيلة»، لكنه لن يتوقف عن محاولة التوصل إلى حل ما لمعضلته باسم البحث عن السلام في الشرق الأوسط.
أخطر ما يعترضه في بحثه عن سلام ما أن قدرته على المبادرة مرتهنة بما يوافق، أو لا يوافق، عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتانياهو» المتهم الأول في جرائم الإبادة الجماعية. بتوصيف السيناتور اليساري اليهودي «بيرني ساندرز»: «إنه شيك على بياض».
أحد المخارج من ذلك المأزق إلقاء كامل المسؤولية على «حماس» وإعفاء اليمين الإسرائيلي المتطرف من أية مسؤولية، كأنه قوة سلام لا يجد شريكاً فلسطينياً!
كان مستلفتاً في جولة وزير الخارجية الأمريكي «أنتوني بلينكن» الأخيرة بالمنطقة إلحاحه على هذه الفرضية غير المتماسكة وغير المقنعة، كما لو أن هناك عرضاً سخياً فعلاً لوقف إطلاق النار لا يصح لـ«حماس» أن تتردد فى قبوله كـ«فرصة أخيرة».
كان ذلك نوعاً من الضغط الدبلوماسي رادف الضغط العسكري بتلويح «نتانياهو» المتكرر، اقتحام رفح وتوسيع نطاق المواجهات في الجنوب اللبناني.
النقطة المفصلية في المفاوضات والمساجلات الحالية: وقف نار مستدام.. أم هدنة مؤقتة تعود بعدها إسرائيل لتواصل الحرب بذريعة أو أخرى بعد أن تكون المقاومة قد خسرت ورقة الرهائن والأسرى، أقوى ما تمتلكه من أوراق تفاوض.
إدارة «بايدن» تنتظر، كما هو معلن رسمياً، صفقة الأسرى والرهائن للبدء في خطته للسلام في الشرق الأوسط. البند الأول في تلك الخطة إحكام الحصار على إيران وبناء تحالف إقليمي أمني واستراتيجي يضم إسرائيل يسبقه مباشرة التطبيع مع السعودية، التي تشترط قبل الإقدام على هذه الخطوة أن تتبدى ملامح تسوية للقضية الفلسطينية.
هذا جانب من الخطة يرحب به «نتنياهو» دون أن يكون مستعداً لدفع استحقاقاته، فكرة الدولة الفلسطينية مستبعدة مطلقاً باعتبارها تهديداً للأمن الإسرائيلي.
كان مستلفتاً فى الاحتجاجات الأمريكية الهتاف الذي يدعو لدولة فلسطينية «من البحر إلى النهر». لم يكن ذلك تزيّداً، إذا لم يكن ممكناً أن تكون هناك دولة فلسطينية كاملة السيادة على الأراضي المحتلة منذ (1967) فإنه من الطبيعي أن يعود المتضامنون مع القضية الفلسطينية إلى ما قبل (1948).. أن فلسطين كلها محتلة. هكذا تعقدت أية خطط سلام تنتوي عرضها إدارة «بايدن».
المواقف الأمريكية ملتبسة ومتضاربة، تدعو إلى «حل الدولتين» وتلح عليه دون أن يكون لديها استعداد جدي لإدانة الموقف الإسرائيلي، الذي يناهضه من حيث المبدأ.
وصل التضارب ذروته باستخدام حق النقض في مجلس الأمن لإجهاض مشروع قرار بترفيع عضوية فلسطين في المنظمة الدولية بذريعة أنه قد يعرقل المفاوضات الجارية الآن للتوصل إلى وقف إطلاق نار في غزة!
لا تؤسس مثل هذه المواقف لخطة سلام ترتكز، كما هو معروف ومعلن، على بناء دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة «منزوعة السلاح»، تتوافر فيها مؤسسات وقدرات أمنية ذات مصداقية وتكون في الوقت نفسه مصممة وفق الاشتراطات الأمنية الإسرائيلية.
الكلام نفسه تردد صداه في التصورات الأمريكية لـ«اليوم التالي» بالدعوة إلى سلطة فلسطينية متجددة بذات الحسابات التي حكمت اتفاقية «أوسلو». إنها عودة إلى «سلام الأوهام»، أو جوهر الخلل الذي أفضى لما وصلت إليه القضية الفلسطينية الآن.
بأي نظر موضوعي فإن خطة «بايدن» أكثر اعتدالاً من خطة منافسه اللدود الرئيس السابق «دونالد ترامب»، لكنها تمضي في الأوهام نفسها التي أجّهضت بإجماع فلسطيني نادر. تناهض خطة «بايدن» المستوطنات، لا تعترف بشرعيتها القانونية، لكنها لا تدعو لتفكيكها! عكس خطة «ترامب» التي دعت دون مواربة إلى ضم المستوطنات للدولة العبرية.
الخطتان تدعوان لنزع سلاح «حماس» وأن تكون الدولة الفلسطينية المفترضة «منزوعة السلاح» على أن تكون إسرائيل (دولة) للشعب اليهودي وهو ما قد يعني إقراراً مسبقاً بالترحيل الجماعي للفلسطينيين من أراضي (1948).
والخطتان تعملان حسب المعلن على تحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية للفلسطينيين مقابل التخلي عن قضيتهم كقضية تحرر وطني. إنها سلام الأوهام مجدداً في أجواء الحرب على غزة وحجم التضحيات التي بُذلت ليرفع الفلسطينيون رأسهم ويعيدوا إحياء قضيتهم من جديد. نقطة البدء المفترضة لتنفيذ خطة «بايدن» للسلام ملغمة وكاشفة في الوقت نفسه.
لا تبادل أسرى ورهائن دون وقف مستدام لإطلاق النار. هذا مؤشر جدي على ما سوف يحدث تالياً من ترتيبات وحسابات وأوزان على الأرض.
يصعب على «حماس»، أيا كانت الضغوط عليها، أن تتقبل وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار مقابل إطلاق سراح الرهائن والأسرى وإدخال مساعدات إنسانية إلى القطاع المحاصر.
ويصعب على «نتنياهو» وقفاً مستداماً لإطلاق النار، يعتبره اعترافاً بالهزيمة في الحرب على غزة تعرضه للمساءلة عن مسؤوليته عما جرى في السابع من أكتوبر (2023). قال صريحاً وواضحاً إنه «سوف يقتحم رفح باتفاق أو بغير اتفاق».
من المستلفت هنا أن المصالح السياسية غلبت المصالح الاستراتيجية، كأنه بات عبئاً على إسرائيل ومستقبلها كما باتت تتهمه الأجهزة الأمنية نفسها على ما تقول الصحف العبرية.
الخطط المرتبكة لا تؤسس لسلام، إلا أن يكون أوهاماً في فراغ السياسات.
* كاتب صحفي مصري
المصدر: الشروق