الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

غزة وبوصلة بعض المثقفين الغربيين

عبد الحسين شعبان *

صيحة «العار.. العار» التي رددها ياسر عرفات لحظة سماعه بمجازر صبرا وشاتيلا، تجد صداها حين يقف فيلسوف بوزن يورغن هابرماس متضامناً مع المرتكبين، ويُصدر بياناً بذلك ليعلّمنا «مبادئ التضامن» مع عدد من زملائه، أحدهم يُدعى فيلسوف التسامح راينر فورست، والثاني أحد أعمدة فلاسفة القانون كلاوس غونتر، والثالثة عالمة السياسة تدعى نيكول ديتهوف، وغيرهم.

البيان يذهب بعيداً لتبرير «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» ضدّ الفلسطينيين الأبرياء العزّل، في ممارسة حوّلت كل ما في جعبتها من سردية الهولوكوست اليهودي لتقوم بتطبيقه فعلياً على الفلسطينيين، وتطالبهم فوق كل ذلك بالاستسلام دون قيد أو شرط، عارضة عليهم خياراً وحيداً هو الموت.

لا يكتفي البيان بذلك، بل يلقي المسؤولية الكاملة على حركة المقاومة، لأنها قامت بعملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، مع أن القوانين الدولية بما فيها المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة تجيز للشعوب استخدام جميع الوسائل من أجل التحرر الوطني والدفاع عن النفس، علماً بأن إسرائيل، التي تأسست بموجب القرار 181 لعام 1947، القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين، تجاوزت قرارات الأمم المتحدة لتحتل كامل فلسطين، بما فيها الجزء الشرقي من القدس وتضمّها إليها باعتبارها عاصمة موحدة وأبدية لها، خلافاً لقرارات مجلس الأمن الدولي، وخصوصاً القرار رقم 478 الصادر في 20 آب/ أغسطس 1980، والقاضي ببطلان قرار الكنيست وعدم شرعية احتلال الأراضي وضمّها بالقوّة، كما دعا الدول إلى سحب بعثاتها الديبلوماسية من القدس.

لقد تجنّب بيان «مبادئ التضامن» أي إشارة يُفهَم منها إدانة إسرائيل، معتبراً تاريخ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 هو الفاصل في مساءلة ما حصل، دون التوقف عند الاحتلال والاستيطان والإجلاء والقمع والحصار والقضم التدريجي للأراضي الفلسطينية، فضلاً عن رفضها حل الدولتين، وتشريعها «قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل»، الصادر في 19 تموز/ يوليو 2018، والذي هو تعبير صارخ عن النهج الاستعلائي الذي قامت عليه إسرائيل ضدّ سكان البلد الأصليين.

وينفي البيان، باستخفاف لا يليق بعلماء وفلاسفة، تهمة «الإبادة الجماعية»، التي تقوم بها السلطات الإسرائيلية في غزة، تلك التي أكدتها محكمة العدل الدولية في قرارها الصادر في 26 كانون الثاني/ يناير 2024، خصوصاً برفضها تقديم المساعدة العاجلة للفلسطينيين، الذين يُقطع عنهم الماء والغذاء والدواء وأبسط مستلزمات الحياة، ناهيك عن سقوط ما يزيد على 33 ألف ضحية وأكثر من 100 ألف جريح، واضطرار نحو مليون و300 ألف إلى مغادرة ديارهم باتجاه رفح، التي تقوم الدعاية الإسرائيلية على التهديد باقتحامها في نوع من الحرب النفسية، يكون ضحاياها بالدرجة الأساسية الأطفال والنساء والشيوخ.

لقد ظل فيلسوف مثل هابرماس وعدد من زملائه، يُثقلون رؤوسنا بالحديث عن قيم الحريّة وحقوق الإنسان والديمقراطية، الأمر الذي أصابنا في موقفهم الأخير من حرب الإبادة الجماعية في الصميم، خصوصاً أننا نتشارك معهم في ذات القيم الإنسانية التي نؤمن بها.

قد يكون موقف بعض المثقفين الغربيين صادماً للمعايير الأخلاقية والإنسانية، لكنه ليس مفاجئاً، فقد سبق لجان بول سارتر أن اتخذ الموقف ذاته مع صديقته سيمون دي بوفوار، وذلك عشية وخلال عدوان حزيران/ يونيو 1967.

وكان سارتر قد قرر الخروج عن مواقف الصمت والحياد التي اتخذها، مبدياً رغبته في الاطلاع على المزيد من المعلومات بعد تأسيس منظمة التحرر الفلسطينية في عام 1965، وبدأها بزيارة مصر وغزة وإسرائيل، وكان ينوي إصدار عدد خاص من مجلة «الأزمنة الحديثة»، التي كان يدير تحريرها صديقه كلود لانزمان، وقد استُقبل في القاهرة، التي وصلها بطائرة خاصة، من قبل مثقفين مصريين كبار، مثل لطفي الخولي وأنيس منصور وحسين فوزي ولويس عوض وتوفيق الحكيم، ثم زار غزة في مطلع آذار/ مارس عام 1967 واطّلع على مخيمات اللاجئين في جباليا ودير البلح وخان يونس، وهي المناطق التي تعرّضت اليوم لحرب إبادة.

وبالرغم من مشاهدته حجم الفقر والبؤس الذي يعانيه اللاجئون، فإنه لم يكترث بذلك، بل حاول توجيه أسئلة إلى بعض الأهالي حول مستقبل إسرائيل واليهود، وهو ما كان منشغلاً به، وأظهرت سيمون دي بوفوار لاحقاً امتعاضها من تلك الزيارة، وألقت اللوم على الفلسطينيين في تردّي أوضاعهم، ودار بعدها حوار بهذا الخصوص بين الرئيس جمال عبد الناصر وسارتر، ودوّنهُ محمد حسنين هيكل في كتابه «الانفجار».

وبدلًا من إعجابه بقدرة الفلسطينيين على الصمود أبدى إعجابه بالمستوطنات الزراعية «الكيبوتسات» التي اعتبرها تجربة «اشتراكية» واعدة، مبدياً تعاطفه مع بعض الناجين من المجزرة النازية، متناسياً ضحايا الاحتلال الإسرائيلي.

أعادنا بيان هابرماس إلى موقف سارتر وبعض المثقفين الغربيين المنحازين بشكل أعمى إلى إسرائيل، وهي مواقف علينا أن نتفحصها بعمق ودقة دون أن نكفر بقيم التنوير والحداثة والحقوق الإنسانية، ودون أن ننسى أن العديد من المثقفين الغربيين في أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية وأوروبا، اتخذوا مواقف مؤيدة للحق الفلسطيني، وأصدر نحو 200 مثقف رفيعي المستوى بياناً بعنوان «فلسفة من أجل فلسطين»، انتقدوا فيه إسرائيل وتراثها الاستعماري الاحتلالي، بينهم المفكر السلوفيني سلافوي جيجك، والفيلسوفتان الأمريكيتان نانسي فريزر وجوديث بتلر، وما مواقف الجامعات الأمريكية والأوروبية اليوم إلّا خير دليل على اتساع حركة التضامن مع فلسطين واقتفاء المثقف بوصلة الحرية والحق والعدل.

* كاتب أكاديمي ومفكر عراقي

المصدر: الخليج

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.