علي حبيب الله *
في المجدل، كانت بئرُ ماء يعود حفرها إلى زمن عسقلان المدينة الأم، حفرها العرب المسلمون بعد فتحهم المدينة سنة 23هـ/644م وأطلقوا عليها اسم “بئر رومية أو روميا” تيمنًا بروميا البئر التي اشتراها الخليفة ابن عفان في المدينة المنورة. ولمّا خربت عسقلان في زمن صلاح الدين وحروبه مع الصليبيين، هجرها أهلها العرب ولم يعودا إليها إلا بعد انقضاء الوجود الصليبي في البلاد مع السلطان الظاهر في عهد المماليك، وكانت عسقلان قد غدت خرائبًا ليس ما يدعوا إلى الدِعة فيها غير بئرها روميا، فهي التي منحت ماء الشرب والحياة معًا، وعندها أقام العسقلانيون مَجدلهم، القرية التي يمكن اعتبارها في حينه البنت البِكر للمدينة التاريخية الأم عسقلان.
وفي سنة 700هـ قام سيف الدين سلار أحد أمراء المماليك ببناء مسجد المجدل “الجامع الكبير” الذي سيصبح أحد أشهر المراجع لعلماء الفكر ولفقهاء وشيوخ الذِكر في تاريخ فلسطين. وما بين بئر روميا والجامع الكبير تعود حكاية عودة نبض الحياة في حجارة خرائب عسقلان التي قامت عمارًا باسم المجدل. وليس بئر روميا وحدها من كانت في انتظار أهلها، وأيضًا الشيخ عوض في مقامه المتنطع لموج البحر على حافته غرب المجدل، والذي يعود بناؤه إلى زمن الحروب الصليبية ظلَّ غفيرًا وخفيرًا يحرس خرائب مدينته المهدمة في ظل غياب أهلها عنها، ولمّا عادوا وأقاموا مجدلهم أعادوا لضريح الشيخ مجدهُ وأطلقوا عليه “خفير البلاد”.
لذا، فإن كانت عسقلان المدينة في فتحها العربي- الإسلامي هي قصة هجرة ورباط، فإن المجدل القرية في نشأتها هي حكاية عودة وارتباط. وما تزال المجدل المنكوبة منذ عام 1948 على قيد عودة أخرى.
في الاسم والموضع:
استعارت المجدل اسمها من قلعة عسقلان التاريخية التي تعني المجدل، وقد أقيمت القرية عندها في أول قيامها أيام المماليك، وعرفت بـ “مجدل عسقلان” لرابط الحبل السري الذي كان يربط المجدل البنت بعسقلان الأم أصلًا، وكذلك لتمييزها عن أي مجدل أخرى عُرفت في فلسطين قبل النكبة مثل مجدل الصادق، ومجدل طبريا، ومجدل بني فاضل في أعمال نابلس، والمجيدل قرب الناصرة… وغيرها. واسم المجدل يعود إلى “مجدل جاد” الكنعانية، وجاد هو إله الحظ عند الكنعانيين، وذلك إلى أصبحت جزء من عسقلان. والجدير ذكره بأن الصهاينة أطلقوا على المجدل بعد احتلالها في عام النكبة أطلقوا عليها اسم “مجدل جاد” إلى ألغوا اسمها هذا في سنة 1955 وألحقوها بأشقلون المدينة.
على بعد 25 كيلومترا من شمال غزة المدينة، كانت تقع المجدل قريبة من شرقي شاطئ البحر تفصلها عنه سوافي (تلال) رملية. كانت هذه المسافة ما بين المجدل وغزة تمر عبر طريق الإسفلت التي كانت تبعّد ما بينهما، وذلك لأن الطريق عبر سيف البحر بينهما كانت أقل من 17 كيلومترا، إذ يقرّب البحر المجدل من غزة بينما يُبعّد الإسفلت بينهما على ما ظل يقول المجادلة. وقد أحاطت بالمجدل قرى ولدت من خرائب عسقلان، منها قرية الجورة في الجنوب الغربي، وكذلك قرية حمامة في الناحية الشمالية الغربية، وثلاثتهن أنشئن على أنقاض المدينة الأم وأراضيها. بينما من شرقي المجدل أحاطتها قرى عراق سويدان وكرتيا والفالوجا. وقد امتدت أراضي المجدل إلى مساحة وصلت 42324 دونماُ.
نشأت المجدل قرية صغيرة إلى أن أصبحت مدينة على “ظهر الجَمل”، وهذا تعبير متعارف عليه بين المجادلة لدور جِمالها في بناء المجدل(1)، إذ تكفلت قوافل جمالين المجدل بنقل حجار خرائب عسقلان وكذلك رمل الزفزف من على شاطئ البحر. وما كان لبيوت المجدل أن تقوم قومة الجمل لولا جِمالها الذي ظلت لعقودٍ طويلة تذرع الرمال ذهابًا وإيابًا ما بين عسقلان والبحر.
معالم وعوالم:
كانت المجدل تقسم إلى أربع أرباع، وهو تقليد متعارف عليه في تقسيم فضاء قرى ريف غزة، فإن لم تكن القرية تقسم إلى حارتين شرقية وغربية، قُسّمت إلى أربع حارات يُطلق على كل حارة رُبع. وكان كل ربع في عسقلان يُعرف باسم أكير الحمائل الذي نزلت فيه تاريخيا، مثل: ربع المداهنة نسبة لحمولة مدهون وهو الحارة الجنوبية في المجدل، وربع الزقاقتة نسبة لعائلة زقزت، وربع العبيدية في الناحية الغربية، ثم ربع الشقاقرة نسبة لعائلة شقور شمالي المجدل. وبعض المراجع تذكر بأن المجدل كان فيها ستة أرباع وليس أربعة(2). معظم سكان المجدل كانوا مسلمون، باستثناء بعض العائلات الصغيرة المسيحية التي عاشت فيها وأشهرها عائلة الصايغ، غير أنه لم يكن أي مرجعيات أو معالم مسيحة في البلدة.
ظلت المجدل طوال تاريخها العثماني قرية صغيرة، ثم بدأت بالنمو تدريجياُ منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واتصل ذلك النمو بصناعة النسيج الذي اشتهرت به المجدل من دون قرى ومدن فلسطين، وقد وضع النسيج وعالم الغزل والحياكة المجدل على طريق التحول من قرية إلى بلدة كبيرة ثم مدينة تجاوز تعداد سكانها العشرة آلاف نسمة قبيل النكبة، وكانت كلما كبرت المجدل ازداد عدد أنوالها (من نول النسيج)، وصل عددها سنة 1909 إلى أكثر من 500 نول، وفي عام النكبة كان في المجدل أكثر من 3 آلاف نول نسيج. أصبحت المجدل مدينة في ظل الانتداب على البلاد مع صدور قانون البلديات البريطاني سنة 1922، تولى رئاسة بلدية المجدل ستة رؤساء منذ إنشائها وحتى عام النكبة.
ولأن المجدل قامت على ذلك الإرث العسقلاني- الحربي تاريخيًا، فقد ورثت جملة من المعالم الدينية والاجتماعية إلى أن كانت فيه معرّة مقامات الأوليا وزوايا الشيوخ الصالحين، منها مقام “الشيخ عوض” على البحر، ومقام ضريح “الشيخ محمد الأنصاري”، ومقام الشيخ “مصباح الظلام أو نور الظلام” ومقام الشيخ “اسعيد”، ومقام “الشيخ شاكر” وزاوية “الشيخ العجمي”، وزاوية “التميمي” وزاوية “أبو شوشة”، والأشهر من كل تلك المقامات والزوايا كان “مشهد الحسين” في وادي النمل الواقع في الجنوب الغربي من المجدل، وكان يُخصص له زيارة خاصة ضمن مراسيم موسم “أربعة أيوب” الذي كان يُقام في أواخر نيسان من كل عام.
تطورت المجدل في الأربعينيات من القرن الماضي، فصارت مخدومة بشبكة مياه وكذلك بشبكة كهرباء قبل النكبة بعامين، كما كان في المجدل مدرسة كبيرة وأطلق عليها أهالي القرية تسمية “المدرسة الكبيرة” لأنها كانت تستوعب من المرحلة الابتدائية وحتى المَترك (الثانوي) موقعها في جنوب المجدل. وأيضا مدرسة للبنات موقعها في حارة البوليس أو حارة المداهنة، وقد اتخذ منها الإنجليز مقرًا لهم في ظل الثورة الكبرى (1936- 1939) وحكاية التخطيط لتفجير مبنى المدرسة الذي تحول إلى كارثة ألمت ببلدة المجدل في ظل الثورة حكاية مشهورة ظلت عالقة في ذاكرة المجادلة إلى يوم كبارهم هذا.
ومع ذلك، بقي كتّاب المجدل القديم المعروف باسم كتّاب “الشيخ طه البردويل” قائمًا يستقبل تلاميذه ليعلمهم قراءة القرآن وفك الحرف على حصائره إلى عام النكبة وفي ظل ازدهار الحركة المدرسية في المجدل. وكان في المجدل ما عُرف في حينه بالـ “منزل” وهو بمثابة مدرسة داخلية كان يبيت فيها طلابها خصوصًا القادمين من خارج المجدل، ومن هنا أطلق عليها تسمية المنزل(3). كما أُقيم في المجدل مركز صحي كان يقصده كل أهالي المجدل والقرى المحيطة بها، أداره أطباء من الرملة ويافا وغزة ومجموعة ممرضات قدمن من بيت جالا.
عُرف عن المجادلة في قِراهم وحب إكرام ضيفهم، ومع تحول بلدتهم إلى مدينة ظلَّ أهلها يمقتون فكرة إقامة النُزل والفنادق في بلدهم، ومع كان في المجدل فندقين، أحدهما امتلكه محمود بك المدهون وفيه أربعة أسّرة، والثاني كان يعود لعبد الجبّار الزنط(4).
الذاكرة النضالية:
إذا كانت غزة المدينة العاصمة في الجنوب، فإن المجدل عاصمة الثورة والتثوير فيه. كان المجادلة مجلسيون الهوى، أي مؤيدين للمجلس الإسلامي الأعلى ومفتيه الحاج أمين الحسيني، وعندما نشأ الحزب العربي الفلسطيني في القدس برئاسة جمال الحسيني أيده معظم أهالي المجدل. كما التحق بعض المجادلة بعصبة التحرر الوطني والجمعيات العمالية التي نشطت في البلاد، خصوصاُ وأن الحياة الصناعية- الحِرفية كانت نشطة في المجدل لأن معظم أهلها من النسّاجين والصبّاغين.
كما قاطع المجادلة وقطعوا كل أشكال التواصل والتعاون مع المستوطنات اليهودية التي أقيمت قبل النكبة بمحيط بلدهم، ومن هذه المستوطنات مستوطنة “نقبا” وهي كيبوتس كان يبعد حوالي 8 كم عن المجدل باتجاه الشرق منها قرب قرية عراق سويدان. ومستوطنة “نتسانيم” المقامة على أراضي قرية حمامة على بعد أيضا 8 كم من المجدل من شمالها. وكذلك مستوطنة “بيار تعبيا” من أقدم المستوطنات في منطقة الجنوب أقيمت سنة 1887 على بعد 13 كم من المجدل، وقد نشطت هذه المستوطنة في ظل الانتداب البريطاني على البلاد، وكانت أول هدف هاجمه أهالي المجدل في أحداث البراق سنة 1929، وعبر فيه المجادلة عن موقفهم من الإنجليز والمشروع الصهيوني في البلاد.
التحقت المجدل بالثورة الكبرى (1936- 1939) بكامل ثقلها، وتشكلت فيها لجنة قومية ثورية كان يرأسها عبد العزيز أبو الشرخ، والتي كانت مهمتها تنظيم الإضراب في المجدل، وتكليف حمائل المجادلة بدفع بعض من أبنائها للالتحاق في صفوف الثورة. وكان من أشهر أعمال الثوار المجادلة حرق خط سكة الحديد ومحطاتها على طولها ما بين غزة ويبنا، كما هاجم المجادلة مركز البوليس في بلدهم غيرة مرة، وبقيت قصة استيلاؤهم على خيول اسطبل الخيل فيه مشهورة في كل قضاء غزة، حيث استولى الثوار المجادلة بقيادة عمران شوشر وبالتعاون مع ثوار القرى المحيطة بهم على خيول اسطبل المركز وأرسلوها إلى ثوار جبال جنين وطولكرم(5).
أقام ثوار المجدل الذين وصل عددهم أيام الثورة إلى ما يزيد عن 80 رجل مسلح ومنظم محكمة ثورية تنظم شؤون الثورة في المجدل والقرى المجاورة، وكان قاضيها في حينه الشيخ المجدلاوي محمود القدرة. اُستشهد وسُجن وأُبعد الكثيرين من المجادلة في ظل الثورة، ونسف البريطانيون ما لا يقل عن 40 بيت من بيوت المجادلة في ظل سياسة التطويق التي نفذها البريطانيون على المجدل.
أما حكاية التخطيط لتفجير مقر القوات الإنجليزية في مدرسة البنات في المجدل، فتعود إلى شهر رمضان من سنة 1938 في عز دين أيام الثورة كما يُقال. إذ قامت خلية ثورية من المجادلة على رأسها عمران شوشر واتخذت من بيت خليل عبد الفتاح العاوور ملاذا لها، وعملت فيه على تحصير لغم كبير لنسف كل مدرسة البنات التي تأوي مقر القوات الإنجليزية في المجدل، كانت الخلية في البيت مكونة من 18 شخص في حينه، وأثناء تحضيرهم اللغم حدث خلل في تركيب كبسولاته فانفجر وسقط البيت على رؤوس من فيه ما أدى إلى استشهادهم جميعًا(6). ثمانية عشر ثائرًا من خيرة ثوار المجدل في فاجعة ثورية وصل صداها إلى جميع مدن وقرى فلسطين من جنوبها إلى شمالها.
سقطت المجدل بأيدي الصهاينة في عام النكبة يوم 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1948، وذلك بعد عامٍ طويل منذ اعلان قرار التقسيم إلى يوم سقوط المجدل، تنطع فيه المجادلة والأحرار من القرى المجاورة للعصابات الصهيونية. مواجهات وندهات، دماء وشهداء، ربما كل واقعة وكمين فيها حكاية بذاتها، تمامًا كما هي مجدل بنت عسقلان حكاية عودة في نشأتها، ثم حكاية طويلة ما زالت، لن تطوى صفحتها إلا بعودةٍ أخرى… وحَكايا المجدل تطول.
……………………
إحالات:
(1) الشريف، سيد محمد، مجدل عسقلان، مقابلة شفوية، موقع فلسطين في الذاكرة: ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 13-4-2008.
(2) كناعنة شريف، والمدني رشاد، مجدل عسقلان: ضمن سلسلة القرى الفلسطينية المدمرة، مركز الوثائق والأبحاث- جامعة بير زيت، ص 22.
(3) الشريف، سيد محمد، المقابلة السابقة.
(4) كناعنة والمدني، المرجع السابق، ص12.
(5) المرجع السابق، ص115.
(6) المرجع السابق، ص123، والمقابلة السابقة أيضا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب فلسطيني وباحث في التاريخ الاجتماعي
المصدر: عرب 48