أحمد جاسم الحسين *
لنضعَ أيدينا معاً، نعيدُ ترتيب ما أنجز بعجلة، بفعل الضغط، حين كان الضيوف على الباب، حسناً؛ خبأنا هذا التفصيل أو ذاك، صرخنا على الأولاد، أو خبأناهم، أو أرسلناهم في إجازة مفتوحة حتى يذهب الضيوف!
الآن، ذهب الضيوف فلنعدهم إلى البيت الكبير الذي يتسع للجميع، كانوا يريدون جميعاً أن يكونوا في غرفة الضيوف، لكنها لن تتسع للجميع، ولا بد من وجود معيار ما، كي لا ينزعج الإخوة الكبار من الإخوة الصغار، كل معيار فيه ظلم من نوع ما، لكنها ديمقراطية المعيار التي تنطبق على الجميع.
تلك البلادُ بلادٌ لا ضيوف فيها من دون موعد، ليت تلك البلاد تستقيل من مواعيدها فجأة، ويأتي ضيوفها من دون مواعيد، الضيوف يُعَدَّون جزءاً من نظام الحياة، فنحضّر كل شيء بتأنّ وحسابات دقيقة، لكن حين يأتي الضيوف على الوقت المحدد تماماً، تكون عفوية إكرام الضيف قد تلاشت.
ما الذي أزعجك حين كنتَ ضيفاً مرة؟ حاول ألا تكرر ما أزعجك حين تكون مضيفاً، كي تتعلم من تجاربك، وتمشي إلى الأمام.
حسنُ الضيافة علامة كرم وعفة نفس، والكرم كما تقول العرب يغطي على عيوب كبيرة. لا تنشغل بأولئك الباحثين عنها، فهؤلاء لا أمل منهم، لأنهم سينبشون في كرم الضيافة، مهما قدمت من ضيافة، مهمتهم التنبيش والإساءة لأي جهد، التصيّد ثقافة، والبحث عن السلبيات طبع وسمة شخصية، كثيرون يعدّونه ميزتهم.
حاولوا أن يجدوا ميزة إيجابية في شخصياتهم فتعذّر عليهم ذلك، لذلك وجدوا أن أفضل ميزة يمكن أن يمتازوا بها هي البحث في سير الآخرين، والتصيّد، يعزّ عليهم أن يفارقوا المربع الأول لتاريخ البشرية، لكن شتان بين تصيّد لإطعام العائلة، وتصيّد لتدمير الجميل.
الضيافة قيمة مثلها مثل الالتزام بالقانون، قلت ذلك في مناقشة مع غربي يعتز بتطبيق القانون، لكن مشكلة الضيافة اليوم أنها تتعارض مع حسابات الاقتصاد الرقمي والصناعي، مشكلة قيمة الضيافة أنها قادمة من زمان آخر، فكيف نوائم بين ترسيخ حضورها وأرقام الاقتصاد وحسابات الاستعداد، ثمة قيم إن التزم بها قسم من المجتمع يكفي ذلك، وثمة قيم لا تصحّ من دون أن يلتزم بها الجميع.
لنلتفت إلى أهل البيت قليلاً، لنقف معهم أمام “المجلى”، نعيد ترتيب الصحون، وتنظيم الكؤوس في الأماكن المناسبة لها أو مكان تموضعها وفقاً لحاجات سيدة المطبخ.
مرات عدة لا يحتاج أهل البيت للمساعدة العضلية بقدر ما يحتاجون إلى الشعور بأن هناك من يقف بجانبهم أو يقدر جهودهم، أو يلتفت إليهم، أو يعطيهم الفرصة، ويمكن أن نجربهم إن كانوا يعتقدون أن لديهم قدرات لا نلتفت إليها، لنطور حلمهم بالتجربة، قد يمشون إلى الأمام وقد يقتنعون بأن هذا مرمى قدراتهم!
استقبال الضيوف كشف لنا عن هنات ونواقص وإعادة ترتيب كثير من التفاصيل فلنقمْ به، قدر ما نستطيع، ولنسأل أهل البيت، فهم أصحاب خبرة، وقد كانوا يتابعون تفاصيل التفاصيل لإعادة تصحيح المسار، أو ليظهر البيت بأبهى حلّة أمام الضيوف المحبين وغير المحبين.
حسناً؛ هذه المرة، كان نفر من السوريين ضيوفاً في هذا المؤتمر أو ذاك، سمعوا كثيراً من السرديات والمنشورات والوقائع عن أن كثيراً من المشاركين لم يكن يهمهم سوى الصور والعشاء والإقامات الفارهة، غضّوا النظر عن كثير مما لا يتوافق مع قناعاتهم، وقالوا: سوريا الجديدة يجب أن تتسع للجميع!
جميلٌ هذا الإيمان الجديد إن كان نابعاً عن قناعة، حقاً يليق بسوريا أن تتسع للجميع، هذا قدرها الديمغرافي، لا حلّ آخر أمامها، وكل من أراد أن يستبدّ بها لم ينجح ولن، وأبقى النار مشتعلة فترات طويلة، لا يمكن لطنجرة الضغط إلا أن تنفجر في لحظة ما. ولا يمكن للشعارات أن تحلّ بدلاً من الوقائع، لذلك تأخر إيماننا بقدرنا الديمغرافي قد أخَّر ولادة المولود الخديج، تنازعنا عليه وقسونا على عظامه ومفاصله قبل أن يتجاوز مرحلة الطفولة، وبتنا نتغنى بمراحل الرضاعة والحَبو كأنها سدرة، وما هي كذلك، لكن لأننا نبحث عن منجز قديم نتكئ عليه لا بد لنا من سردية نواجه بها ما أنجزه الآخرون.
نخاف من الأحياء والاحتفال بهم، يحتفل السوريون بالموت والموتى، يظهر أصدقاء الموتى قبل أن ندفنهم، يسعدنا أن نحتفي بالماضي بما أنه صار فيما مضى، نريد أن نطوي صفحته، ونتركه يمضي، ننسب تفاصيل كثيرة لا شاهد عليها إلا الله، يجدر بنا أن نصبح أصدقاء للأحياء. لكن من الصعب علينا أن نحصيهم ونحدد خصائصهم، لذلك ننتظر موتهم حتى نذكر تفاصيلهم وتفاصيل علاقتنا بهم.. مرحباً بأصدقائنا الموتى، والموت عند السوريين حكاية لا تنتهي، كل يوم نكتب فيه فصلاً جديداً، نفقد كبارنا ومصائرنا ورموزنا فنستعجل كتابة النعوات قبل أن يمضي اليوم الجديد، نعيد تدوير الحكاية.
كبر أولئك السوريون قبل أوانهم، واشتد عضد النهايات في نفوسهم قبل أن تتفتح ورود إنجازاتهم، ينشغلون بتلك النهايات كأنهم يسلمون بالمآلات بوصفها قدراً لا يركضون في حيز التسيير والتخيير، بل يكتفون بالزاوية التي استقبلتهم، كأنهم ليسوا هم، كأننا لسنا نحن، نحن الذين ملأ حلمنا العالم ذات يوم وإذ بنا نتعثر في أحلامنا ونكاد نقع، ونرافق أمواتنا الذين اكتشفنا فجأة كم تربطنا معهم روابط، وكم نحن مقصرون بحقهم وحق أنفسنا.
كأن الضيف صار مضيفاً والراحل مقيماً والمقيم راحلاً والميت حياً والحي ميتاً، في لحظة تشابك مشهدي سوري، يملؤها التساؤل والحديث عن الجدوى والبحث عن بدايات جديدة لأحلام هاربة من لجّتها البعيدة، التي ضيّعنا بوصلتها، فأنهكنا كثيراً من عمرنا بالبحث عنها، وما درينا قد تأتي فجأة من حيث لا ندري، ونحن في لجّة البحث عن صورنا وذكرياتنا مع أصدقائنا الموتى، الذين اكتشفنا أن هناك تشابكات تربطنا بهم أكثر مما تربطنا بالأحياء، فبات اسمنا الجديد: أصدقاء الموتى، والموتى ضيوف عادوا إلى ديارهم قبل مغيب شمس أعمارهم، في حين لا نزال نستمتع بالضيافة ونبحث عن الجدوى، خارج أنفسنا، ومن يدري، قد تكون في ذلك اليقين داخلنا، اليقين الذي جعلنا أن نكون هنا ولم نكن هناك وقد اختلط الداخل السوري بالخارج عن المجموعة التي ينتمي إليها أو يحسب عليها، ليبني هوية جديدة فيها شيء من خيارات تفكير الجديد حيث بات يفكر خارج السور الذي كان شاهقاً وشائكاً.
ما الذي جعل روّاد البدايات الجديدة يسخّرون كثيراً من وقتهم اليوم لنهاية لائقة، يستعجلونها؟ كثيرٌ من السوريين الذين كانت تشغلهم البدايات الجديدة قبل سنوات بات حلمهم اليوم أن تكون النهاية كما يأملون، يبحثون عن قبر يليق بهم، أو ينشغلون بكتابة وصية مكان الدفن، على ألا تكون مربكة للخَلَف، وجدوا أن مرحلة الضيوف قد طالت وباتوا يقولون:
إما أن نصبح من أهل البيت أو نعود إلى الديار، ديار ليلى، نقبِّل ذا الجدار وذا الجدار، وحبّ الديار شغل قلبي، وكذلك حبّ مَنْ سكن الديارا.
* كاتب سوري
المصدر: موقع تلفزيون سوريا