أنطوان شلحت *
ألقى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الليلة الماضية خطاباً في مؤسسة “ياد فشيم” لتخليد ذكرى ضحايا الهولوكوست وصفه المحلل السياسي لصحيفة “يديعوت أحرونوت” إيتمار أيخنر بأنه أحد أكثر الخطابات الكئيبة في مسيرته السياسية إن لم يكن الأكثر كآبة على الإطلاق في حياته كلها. وفي الوقت عينه أشار إلى أن نتنياهو استبدل الخطر الإيراني الذي كان يحضر على الدوام في خطاباته التي دأب على إلقائها في يوم ذكرى ضحايا الهولوكوست، بالخطر الماثل أمام إسرائيل من المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي (6/5/2024).
وقد بدأت هذه المحكمة في الآونة الأخيرة مسارات يمكن أن تؤدي إلى إصدار مذكرات اعتقال ضد مسؤولين إسرائيليين كبار، ما أثار خشية نتنياهو وحكومته، كون الحديث سوف يدور، في حال صدور مثل هذه المذكرات، حول ما تصفه تحليلات إسرائيلية من الصعب حصرها بأنه إجراء دراماتيكي استثنائي يمكن أن يترتب عليه ضرر استراتيجي متعدد الأبعاد، سيلحق بإسرائيل ويؤثر ليس فقط في قدرتها على الاستمرار في القتال، بل أيضاً في التعاون ما بينها وبين الدول الغربية بصورة خاصة، وليس فقط في المجالات الأمنية والعسكرية.
وبحسب ما أكدت ورقة تقدير موقف صادرة عن “معهد أبحاث الأمن القومي” في جامعة تل أبيب فإن مجرّد التقارير التي تحدثت عن احتمال إصدار المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي أوامر اعتقال ضد مسؤولين في الحكومة والجيش، تثير مخاوف كبيرة في إسرائيل. ويؤكد باحثو المعهد أنه سواء أكان من المتوقع أن تصدر مثل هذه الأوامر في وقت قريب، أم أنها مجرد شائعات، فقط من باب التلويح أو الإنباء بخطوة تحدث في المستقبل، فيجب التعامل معها بجدية وعدم ركنها في الرفّ، نظراً إلى أن هذه الأوامر هي ذات صلاحية، ويمكن أن تفرض قيوداً على حركة مَن تصدر الأوامر ضدهم. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الأوامر يمكن أن تؤذي صورة إسرائيل ومكانتها الدولية، وأن تُستخدم أساساً لخطوات أُخرى من أجل عزل إسرائيل بواسطة العقوبات والمقاطعات.
من الناحية الوقائعيّة، تعمل المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي منذ العام 2002 وفق “معاهدة روما”. ومن صلاحياتها مناقشة المسؤولية الجنائية لأفراد متورطين في ارتكاب جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، وجرائم إبادة، وهجمات نُفّذت في أراضي دولة عضو في المعاهدة، أو على أيدي مواطنيها. ومن صلاحياتها إصدار أوامر اعتقال ضد مشتبه بهم، وبموجبها يتعين على الدول الأعضاء الـ124 في المحكمة احترام هذه الأوامر واعتقال الأشخاص المشتبه بهم ضمن حدودها، وإحالتهم على المحكمة في لاهاي. وعلى الرغم من أن إسرائيل ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، ولا تعترف بصلاحياتها، ففي العام 2021، فُتح تحقيق في جرائم حرب ارتُكبت في مناطق الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، بعد الاعتراف بفلسطين كدولة ذات صلاحيات. ويتطرّق هذا التحقيق إلى كل الأطراف على الأرض، من الإسرائيليين والفلسطينيين، وتحديداً منذ 13 حزيران 2014، ومن دون تحديد موعد الانتهاء منه، ولذلك يسري التحقيق على الحرب الإسرائيلية الحالية ضد قطاع غزة. ووفقاً لتقارير العديد من وسائل الإعلام الإسرائيلية اكتسب هذا التحقيق المستمر زخماً أكبر بعد الحرب الراهنة، وتُمارس على المدعي العام في المحكمة ضغوط كبيرة للمضي به قدماً.
ويمكن أن نحدّد سببين رئيسين للسلوك الذي تنتهجه محكمة لاهاي في الوقت الحالي على خلفية الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة المستمرة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وهما سببان لم تغفل عنهما أغلب التحليلات الإسرائيلية.
السبب الأول، أن سلوك إسرائيل في خضم الحرب من شأنه أن يؤثر في أي إجراءات قد تتخذها هذه المحكمة ضد قادة الحكومة والجيش. كما أن سلوكها قبل الحرب في كل ما يتعلق بموضوع الانقلاب القضائي ينطوي على تأثير مستجد في هذا الصدد. فمن المعروف أن قوانين المحكمة الجنائية الدولية تنص على ما يُعرف باسم “مبدأ التتام/ التكامل” في كل ما يرتبط بإجراء تحقيقات مهنية في اتهامات بارتكاب جرائم حرب، والذي ينص على أن لا تقبل المحكمة شكاوى مقدمة لها عندما يجري التحقيق في الحادثة بصورة مهنية من خلال السلطات الرسمية المعنية في الدول موضوع الشكاوى. وما يمكن ملاحظته هنا هو أنه على خلفية الانقلاب القضائي الذي لم يتوقف هناك إشارات قوية إلى تراجع الثقة بالمنظومة القضائية الإسرائيلية وبقدرتها على أن تكون أهلاً لتطبيق “مبدأ التتام” المذكور عليها، ما يفتح المجال أمام إقدام محكمة لاهاي على التدخل واتخاذ إجراءات.
السبب الثاني، لا تستطيع إسرائيل التباهي بأنها دولة ديمقراطية لديها منظومة قضائية محترمة بينما تسمح من جهة أُخرى بصدور تصريحات من وزراء وأعضاء كنيست من الائتلاف الحكومي تتعلق بنيات إسرائيل في الحرب مثل “تسوية قطاع غزة بالأرض”، و”لا يوجد في غزة غير ضالعين في القتال”، أو القول إنه يوجد عدد كبير من المعتقلين الفلسطينيين أكبر من قدرة السجون والمعتقلات الإسرائيلية على استيعابهم والتساؤل عمّا إذا كان من الممكن “قتل عدد منهم”. ومثلما شدّد باحثو “معهد أبحاث الأمن القومي”، فإن مثل هذا الكلام الصادر عن مسؤولين رفيعي المستوى في إسرائيل ولا يدينه رئيس الحكومة بوضوح، يُستخدم أساساً للمطالبة بتسريع الإجراءات في المحكمة الجنائية الدوليّة. كما أنه يقوّض التعامل مع إسرائيل كدولة ديمقراطية تحترم القانون، ويزعزع الثقة بها، وبكل التحقيقات والتوضيحات الصادرة عنها. وبذلك تساهم الحكومة الإسرائيلية، بيديها، في تصاعُد المعركة الدولية السياسية والقضائية ضد إسرائيل.
لا بُدّ من التنويه بأنه منذ بداية العام الحالي اعتبر الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي مئير بن شبات، المقرّب من رئيس الحكومة نتنياهو، أنه بموازاة الحرب في قطاع غزة تواجه إسرائيل تحديات ومخاطر جسيمة في ست جبهات أخرى هي الضفة الغربية ولبنان وسورية واليمن وإيران، والحلبة الدولية السياسية والقضائية. ولمّح إلى أن كل ما تقوم إسرائيل به على الصعيد العسكري يعتمد على ما وصفه بأنه “الشرعية الدولية”. ويرى غيره من المحللين في إسرائيل أن الفشل في هذه الجبهة السادسة الدولية سيؤدي إلى أن تصبح إسرائيل دولة منبوذة في العالم بكل معنى الكلمة. فضلاً عن ذلك، فإن اقتصادها الذي يعدّ حسّاساً للعولمة سينهار بسبب الأضرار التي ستلحق به، وكذلك ستتصاعد المخاطر على اليهود في العالم إلى مستويات يرى البعض أنها شبيهة بما كانت عليه قبل الحرب العالمية الثانية!
* كاتب وباحث فلسطيني
المصدر: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)