الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

يفكرون ثم يفكرون ونحن نجوجل

جميل مطر *

قبل سبع سنين سألتني عن الماضي. أرادتْ تتعرف على هويتها وأصولها. لم أبخل في الإجابة ولم أقصر. سألتني عن تجاربي في الحياة وعما أخفيته عن الناس وأخفيه عنها. أجبت بالمختصر والمفيد، وباللائق طبعاً. بكل الثقة في النفس وبكل الاحترام لذاتي الكبيرة أعلنت أنها مُعترضة على فقر التفاصيل التي جاءت في إجابتي وبخاصة ما يتعلق بماضيّ الشخصي وانتقلت تسأل عن المستقبل.

                                                   *     *     *

كنتُ واثقاً أن الحديث عن الماضي معها كما مع من في عمرها أمر ضروري لمصلحتها ومصلحتنا، ففي عمرها تتكوّن الهوية الأولى. تعلمت من اختلاط طويل بأصحاب هذا العمر من الجنسين أن لا هوية أولى إلا وفي جوهرها كثير من الماضي، ولا هوية ثانية أو بديلة بقيم منافسة إلا وفي جوهرها كثير عن المستقبل. لم أخفِ عنها، كما عن غيرها من شباب هذه الأيام، أنها ستتعرض قريباً للدخول في منافسة شرسة ليس لأنها اختارت، أو اخترنا لها، أن تمارس نوعاً من الهجرة التعليمية حتى وهي في مصر، ولكن لأن أدوات العلم، والمعرفة عموماً، في دول المهجر تغيرت ثم استمرت تتغير.

                                                   *     *     *

قلتُ لها إن المستقبل، في كل الأحوال، عندها وليس عندي. الشباب يصنعونه، أو يخضعون له، أو يتمردون عليه. أما نحن كبار السن والتجربة فسنكون دائماً إن استطعنا، نُراقب. نُؤيد بالصمت أو نعترض بتردد وبالهمس إن دعت الضرورة. لا أظن أن لدينا ونحن في هذا العمر المتقدم الكثير لنقدم بعضه إسهاماً منا في صنع المستقبل أو في تطويره. لا تتعجلي فتتهميني بخيانة فصيل من البشر أنتمي إليه بحكم العمر والخبرات المتنوعة. أنا لا أقلل هنا من قيمة ما نُقدم ونحن في هذا العمر المتقدم ولكني ربما أبالغ وأعظم من قوة وقدر ما تقدمون أو تحلمون بتقديمه.

                                                   *     *     *

قلتُ لها «تعالي نناقش جزئية بسيطة جداً من مستقبل لم يستأذن قبل، أو عند، الدخول إلى حياتنا المعاصرة، وعلى كل حال لم نكن لنأذن له لو استأذن. تقدمَ وهو لا يخفي أنه لا يراعي حُرمة ماضينا أو يحترم إبداعات عبقرياتنا في فنون الأيديولوجيا ودقائق الفلسفة وغير مُهتم بتنوع طرائقنا ومذاهبنا. مستقبل لا صبر لديه ولا حكمة حتى ينتظر وصولنا إليه. مستقبل لم يُكلف نفسه جهد السعي إلينا، وفي نفسي ظن كبير بأنه ربما لا يرتاح لوجودنا».

                                                   *     *     *

سألتها، «يا فتاتي، من أين أتتك هذه المعرفة الأكيدة بنوع ولون وتفاصيل هذا المستقبل الذي تتحدثين عنه بثقة كبيرة وانحياز واضح. لعلمك، أنا لم أتقابل في حياتي المتعرجة ولكن الطويلة والمكثفة بجيل في مثل جيلكم. جيل ثابت الخطى تكاد رؤاه تتوحد وغير قابل لأن تقسمه عقائد أو طوائف. جيل لن تعنيه كثيراً رؤانا وتجاربنا ونوايانا، حتى الحواديت التي ورثناها على امتداد القرون لا تشدكم إلينا. اعذريني يا صغيرتي إن قلتُ لكِ إنني أرى في عيونكم شكوكاً تتزايد في معظم ما نقول أمامكم أو لكم. أكاد أقرأ فيها وأنا أتلو عليك ما حفظناه عن جدودنا وأمهاتنا من نصائح وحكم، أقرأ فيها ما معناه (نصايحك يا جدي على عيني وراسي، بس…). كلنا ونحن في مثل عمركم تمردنا، أو بالغنا في تضخيم ذواتنا الغضة، ولكن ما أقرأه في عيون أبناء وبنات هذا الجيل وأحياناً تنطق بها شفاهكم، ليس تمرداً ولا مبالغة، أقرأ شيئاً آخراً أتردد في وصفه».

                                                   *     *     *

أجابتْ، أو علقتْ، بقولها، «يا جدي، دعني أصارحك فأنتَ ربما كنتَ الوحيد بين الكبار من حولي في المدرسة وفي المجتمع في بلدي أو في بلد العلم والمعارف وفي العائلة الممتدة طولاً وعرضاً، كنتُ الوحيد الذي لم يحاول بكل النوايا الطيبة أو بغيرها فرض نوع أو آخر من الوصاية على عقلي. أصارحكِ القول بأن المسافة بين جيلي وأجيالكم كافة ليست قابلة للقياس بأي من المعايير التي تعودتم عليها. سألتني، بين ما سألتْ وهو كثير، عن حدود فهمي للتعبير المُتردد بشدة عند التعريف بالجيل الراهن من الشباب، أقصدْ (Generation Z ). التعبير في حد ذاته فضفاض وأخشى أن يُساء فهمه واستخدامه. كثيرون يتصورون أن هذا الجيل يحظى باهتمام سبق أن حظي بمثله جيل الشباب في كل زمان وكل مكان».

                                                   *     *     *

تابعتْ بالقول وبهدوء لا تعكسه طبيعتها «يا جدي، لا وجه شبه بين جيلي وأي جيل آخر، شباب أو غير شباب، ولعلك سمعت من شباب يعملون معك ما يؤكد ما أقول. رئيسي في العمل، وفارق العمر بيننا لا يزيد عن عشر سنوات، كلفني بإعداد ملف عن قضية متشعبة تقرر أن نشتغل عليها ونُعد تقريراً عنها في مدة لا تتجاوز الشهرين. انتهيتُ من إعداد الملف والتقرير عن القضية خلال أيام وسلمته له قبل نهاية الأسبوع. بدا لي غير مصدق وهو يراجع التقرير ويتصفح في صفحات الملف. سألني عن عدد الزملاء الذين اشتركوا معي في هذا العمل أجبتُ بأنني قمت به وحدي، وأضفتُ قائلة، وأي زميل لي من الشباب المُعينين حديثاً كان يستطيع أن يقوم بنفس العمل وفي حدود أيام قليلة».

                                                   *     *     *

تابعتْ «يا سيدي أنتم من جيل يقضي معظم وقت العمل يُفكر، يُفكر بحثاً عن منهج أنسب لتنفيذ المهمة ويفكر سعياً للتعرف بسرعة على خلفية الموضوع وجرياً وراء معلومات ودراسات وتقارير وأسماء الخبراء والمتخصصين فيه، يقدح ذهنه ويفكر في حل ببدائل متعددة وفي الصيغ المناسبة عند إعداد التوصيات والاقتراحات، يفكر في نفسه ومستقبله. يُفكر في تشكيل مجموعة تساعده وتُراجع معه ما عمل وما أنجز وما اقترح وما لم يقترح. سيدي، أنتم تقضون معظم الوقت المتاح لكم تُفكرون. شركتنا تدفع لنا لننتج وننجز لا لنُفكر. أنتم تُفكرون أكثر مما يجب وخارج عما يجب، جيلكم نشأ ونضج وهو يُفكر وتقدم به العمر وما يزال يُفكر».

                                                   *     *     *

أضافت «سيدي.. أنتم من جيل تُفكرون وتُفكرون ثم تُفكرون فتُنجزون بعد حين، ونحن من جيل نُجوّجل ونُدردش ونُوظف أدوات جديدة من الذكاء لننجز في التو واللحظة ولنوفر لكم ولنا وقتاً ومالاً، ولكن هذا موضوع يستحق أن نناقشه مرة أخرى خلال زيارتي القادمة لمصرنا الحبيبة. أستأذن منك لأنصرف فقد أزِفَ موعد سفري. أشوف وشك بخير يا جدى Auf wiedersehen».

* كاتب ومحلل سياسي مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.