دلال البزري *
طهران دائماً في الواجهة، منذ بداية حرب غزة. بفضل وزير خارجيتها، حسين أمير عبد اللهيان، ووكليها في لبنان، حزب الله. الأول يروح ويجيء إلى لبنان، محذراً إسرائيل من أنه “إذا وصلت إلى كذا… فسوف نرد بكذا…”، رافعاً سقف تهديداته إسرائيل، والثاني يستعيد قواعد الاشتباك مع إسرائيل، ويفتح جبهته المعهودة في جنوب لبنان.
ومع الوقت، تطوّرت الهندسة الإيرانية للرّد على إسرائيل. أخذت مسافة من حركة حماس، بإعلان وكيلها حسن نصرالله عن فلسطينية عملية “الطوفان…”: “مائة بالمائة فلسطينية”. بعدما تبيّن لقادتها أنه لن يكون في وسعها خوض تلك الحرب العظمى ضد إسرائيل، التي سخّرت من أجلها مليشياتها المشرقية. ولا في وسعها ان تطبق “وحدة الساحات”، شعارها الأول. مع أن الفرصة سانحة ونادرة.
فجرَت المعركة على نحو شيءٍ من الغرابة: “حماس” تُحارب في غزّة وأهلها يُبادون، وإيران الوصية، تترجم نظرية “وحدة الساحات” على ذوْقها، فتشتّتها عبر أحصنتها القوية، مليشياتها، بالهجوم على أهداف أميركية إسرائيلية متفرّقة. من لبنان والعراق واليمن، وأحيانا سورية. ومعتمدة على قواعد اشتباك إقليمية، تردِّد معها أنها لا تريد حرباً “حقيقية”. أي أنها مقابل الحرب الشاملة على غزّة، تردّ إيران بحربٍ تتناثر فيها الشظايا هنا وهناك، فلا تحدُث إلا خسائر قليلة للعدو في معركته “الوجودية” ضد الفلسطينيين، ولا تمنعه من قتل وجرح ودفن وتدمير وتعطيش وحصار بنسَب مهولة.
ومن تجليات “قواعد الإشتباك” هذه أن إيران عندما تريد أن تضرب أعداءها الأميركيين والإسرائيليين، تكلّف مليشياتها بذلك: حزب الله اللبناني، المقاومة الإسلامية العراقية، والحوثيين في اليمن. أما عندما تكون أهدافها “محلية”، عراقية، سورية أو باكستانية، فإن حرسَها الثوري يقوم بالمهمة. لا تلوِّث يديْها بدماء أميركيين أو إسرائيليين. ولكنها تملك الأريحية الكاملة لقتل عراقيين، أكراد خصوصاً، أو سوريين، أو باكستانيين من إثنية البلوش.
هذا الذي حصل في أواسط الشهر المنصرم: صواريخ بالستيّة على أربيل، عاصمة كردستان العراقي؛ على إدلب، شمال شرقي سورية، حيث تحكم هيئة تحرير الشام؛ ثم بلوشستان الباكستانية. والبلوش أقلية مضطهدة محرومة من استقلالها ومواردها، وهي موزَّعةٌ على كلا الجانبين من الحدود الإيرانية الباكستانية. وكانت حصيلة الهجمات الثلاث قتلى مدنيين، من بينهم نساء وأطفال.
عن صواريخها البالستية على أربيل، قالت طهران، إنها استهدفت “مراكز تجسّس صهيونية” هناك، وإن هذا المنزل الذي دمّرته وقتلت صاحبه وابنته هو “المكتب الرئيسي لجهاز الموساد” في هذه المدينة، وإن العملية أتت ردّا على اغتيال قادة لـ”المحور” في لبنان وسورية. أما على إدلب، فقالت إن ضرباتها كانت “ردّاً على التفجير الانتحاري في كرمان” ضد زوّار مرقد قاسم سليماني، والذي أوقع بينهم عشرات القتلى. بما أن “الدولة الإسلامية” أعلنت مسؤوليتها عن تنفيذه، فان نيرانها كانت تقصد “الإرهابيين”. وفي باكستان، ركّزت الصواريخ الإيرانية على منطقة البلوش، حيث يتمركز “حزب العدل” الانفصالي الذي تصفه أيضا بـ”الإرهابي”، ويقع على حدودها مع باكستان.
كيف كانت ردود أفعال قادة الدول المستهدَفة أراضيها بالصواريخ الإيرانية البالستية؟… كانت باكستان الأسرع والأقوى. بعد 48 ساعة، ردّت على إيران. وأعلن جيشها أنها ضربت بالدرونات والصواريخ والذخائر، أهدافاً في بلوشستان أيضاً، تخصّ هذه المرّة أعضاء في “جيش وجبهة تحرير بلوشستان”، فكان تبريد وشبه مصالحة، وإمساكٌ عن المتابعة. لا نعلم تماماً كل حيثياتها، فالشرق الأقصى بعيد، وأفغانستان على حدود الدولتين … ولا ننسى أن باكستان تملك السلاح النووي.
درجة العراق أقلّ. تكلّم كثيراً: حكومته استنكرت “الاعتداء”، وقاسم الأعرجي، مستشار الأمن القومي العراقي، كذّب الإيرانيين بأنهم استهدفوا مركز الموساد في أربيل. ووزارة الخارجية أعلنت عن عزمها رفع في مجلس الأمن ضد إيران، وكذلك عن استدعاء سفيرها في إيران لـ”التشاور”. وبقيت سورية على صمتها. أكانت حكومية، بلسان بشار الأسد، أم إدلْبية، ممثَّلة بـ”أحرار الشام”.
برّرت إيران هذه الضربات، عن طريق الناطق بالخارجية، ناصر كنعاني، الذي وصفها بأنها “حقٌّ شرعي لإيران بردع كل التهديدات التي تنال من أمنها الوطني”…. والقادة الأميركيون ردّدوا من بعده أن إيران مع ذلك “لا تريد الحرب”، وأن هذه الضربات “متهوِّرة، غير دقيقة”، وأن إيران ليست “محبوبة” في العالم… فيما الناطق باسم الحكومة الإسرائيلية علّق على هذه الضربات: “ندين أعمال إيران وندعو الأسرة الدولية أن تنهض وتتحدّى إيران وتدعو إلى السلام في المنطقة”. يجدر بالتعليق الإسرائيلي السخرية والتندّر، وكذلك الأميركي، فيما المسلك الإيراني مثير للشكوك.
لماذا؟ لأن عشية الضربات كان العراق يتفاوض مع الأميركيين لسحب جنودهم الألفين والخمسمائة من العراق. وهذا طلبٌ أقرّه البرلمان العراقي منذ عامين إثر اغتيال قاسم سليماني على أراضيه. وقد تجدّد الطلب، أخيرا، عندما اعتدت قوات أميركية على قواعد مليشيا حزب الله العراقي في بغداد أيضا. ومن بين إجراءات الانسحاب تشكيل لجنة عراقية – أميركية لمناقشة تنسيقه، واجتماع رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، مع الأمين العام للأمم المتحدة، غويتريس… فهل تشكّل ضربات إيران على أربيل درباً لتسريع الانسحاب الأميركي، أم تأجيله؟
أيضاً: بعد الضربات الإيرانية، في دافوس، في أثناء جلسة نقاش بينه وبين الصحافي الأميركي فريد زكريا بشأن الحرب على غزّة، يدافع وزير خارجية إيران عن بلاده، بأن كل أعمالها “غرضها السلام والأمن في العالم”، بشرط أن تكون أميركا “أقلّ عدوانية”… وبخصوص ماذا؟ “النووي الإيراني”، يجيب. فيتابع معاتِباً الإدارات الأميركية المتعاقبة على نقض الاتفاق النووي مع بلاده، خاتماً بأن “لا فرق بين أوباما وترامب وبايدن”…
الحقد على الأكراد لا تستطيع إيران إخفاءه. وضربة أربيل العنيفة تعيدنا إلى سنتَين مرّتا، عندما خرج ملايين الإيرانيين والإيرانيات في انتفاضة مشهودة احتجاجاً على مقتل مهسا أميني، الشابة الكردية العشرينية، على يد شرطة الأخلاق الإيرانية، بسبب حجابها “غير اللائق”. في هذه الانتفاضة، سار شعار “المرأة، الحياة، الحرية”، الذي انتشر وحمل تضامناً عالمياً مع الإيرانيات. لكن ما لم نعلمه وقتها أنه، أي الشعار، هو من وحي عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمّال الكردستاني التركي، السجين منذ دهر، والذي منح أكراد الدول الأخرى نفسَاً نسوياً لم يكن بوسع طهران غير البطش به بكل ما أوتيت من عنف. وبما أن طهران تعسّفت ضد الخمسة عشرة مليون كردي الواقعين تحت سلطتها، يبقى عليها إنهاء العمل مع أكراد العراق، بحجّة إسرائيل وأميركا. وهل يوجد حافزٌ أثمن من هذه؟
إيران دولة طفيلية بكل معنى الكلمة: النبْتة الطفيلية تجدها في الطبيعة، تتغذّى على حساب نبْتةٍ أخرى تستضيفها رغماً عنها. وهي يمكن أن تستمر حياتها كلها على هذا النحو، إلا في حالة واحدة عندما تموت النبْتة المضيفة بعد تدهور حالتها، إثر نقص الغذاء الذي تسبّبت به الطفيلية الجشعة.
هكذا هي إيران: تستضيف نفسها بمليشياتها القاتلة على دول هزيلة، ولكن أهميّتها أنها تملك كنوزاً من العطايا: من عدالة قضية فلسطين، إلى خذَلان دولها وكسلها، ووحشية إسرائيل وتواطؤ أميركا معها. ويمكن لهذه الحياة أن تستمر طويلاً. ولكن في النهاية، قد تُقتل النبْتة وينتهي عطاؤها، ويتحرّك العرب وتقرّ إسرائيل بحقوق الفلسطينيين وتتراجع أميركا عن انحيازها إليها… فماذا تفعل إيران ساعتها؟ على ماذا ستعتاش لتحقّق قنبلتها النووية؟ أو لتستعيد مجد إمبراطورها الفارسي الخالد، سايروس العظيم؟
* كاتبة وباحثة لبنانية
المصدر: العربي الجديد