معقل زهور عدي
في الأيديولوجيا نجد المطلق، الشمول، الصلابة، نجد شيئاً يشبه الايمان، لذلك لا تحتمل الايديولوجيا سوى شيئين القبول أو الرفض.
الأيديولوجيا لا تحب التطور، تعتبرهُ تحريفاً، هرطقة، وفي النهاية شيئاً يشبه الخيانة.
ليست النزعة الأيديولوجية وقفاً على فكر بعينه؛ قد تدخل الفكر الاشتراكي فتُحوله إلى ايديولوجيا “الماركسية”، أو تدخل الفكر القومي فنحصل على أيديولوجيا قومية، أو تدخل التدين فتتبدى بصورة أيديولوجيا دينية لا تشمل فقط علاقة الإنسان بربه ولكن السياسة أيضاً بل كل شيء.
مشكلتنا في العقل العربي أن الأيديولوجيا العربية لا تقتصر فقط على ما سبق لكنها تحمل كل العيوب الموروثة للعقل العربي، فالأيديولوجيا العربية تحمل الفهم الظاهري للأشياء، الاستعجال في الفهم، وزيادة في الصلابة عن غيرها بفعل تدخل عناصر مستمدة من العقل القبَلي.
الأيديولوجيا العربية تمتاز بفقر معرفي إضافي، بتقديس الجُمل والعبارات، تقديس موروث من سحر اللغة التي هي من خصائص العقل العربي.
الفكر السياسي ليس الأيديولوجيا، الفكر السياسي كائن حي، قادر على فهم الأيديولوجيات ونقدها، وهو يصعد وينتكس أيضاً، قابل للتجديد، هو أكثر تواضعاً من الأيديولوجيا، فلا يُقحم نفسه في مسائل كبرى لا تهمه، مثل الحياة والموت، وما بعد الموت، وهو يستطيع تحديد حقل عمله المناسب للعصر والمرحلة السياسية بالتالي فهو ليس فكراً إطلاقياً شاملاً، لكنه فكر نسبي، واقعي. وهو في النهاية يضع نفسه بتواضع في خدمة السياسة، ينير للسياسة طريقها كي لا تتحول إلى تخبط كما يتخبط الأعمى في الطريق. أو تجريب ومراهنات كألعاب القمار.
الفكر السياسي يأخذ من الأيديولوجيات، فهو لا يعاديها بالمطلق، فقط هو لا يستطيع الاعتراف بقداستها وبما تزعمه عن نفسها من احتكار الحقيقة.
وهو يأخذ أيضاً من التجارب التاريخية، فهو من هذه الناحية يتسم بالواقعية ويحترم الأدوات المعرفية العلمية بخلاف الأيديولوجيا التي تعتبر نفسها قد أنجزت مهمة المعرفة فهي ليست مهتمة بالاشتغال بالخارج بقدر اهتمامها بالحفاظ على مقدساتها دون أن يقترب منها النقد.
السياسة بحاجة للفكر السياسي، بدونه تصبح سياسة مياومة، سياسة تشبه عمل البقاليات، صحيح أنها بدون الفكر السياسي تجد نفسها طليقة اليدين في كل وقت، لكن شعورها بالحرية سوف ينقلب إلى ندم حين تفتقد القدرة على الإنجاز، ويتحول إنجازها إلى إفلاس.
الفكر السياسي وحده يعطيها إمكانية بناء مشاريع سياسية متكاملة، تنتهي بإنجازات حقيقية، هو يمكنها من فهم عناصر الواقع الأكثر ثباتاً في مرحلة محددة لتستند لذلك الفهم في وضع خياراتها وخططها السياسية.
الفكر السياسي لا يقيد حركة السياسة بالمُطلق، هو فقط يشير إلى المساحات المتاحة لها للتحرك وفق حد معقول من الأمان والجدوى.
صحيح أن السياسة لا تستغني عن الفكر السياسي، لكن الفكر السياسي لا يصلح أيضاً ليحل محل السياسة، الفكر السياسي هو مُستشار السياسة ومُرشدها، لكن على السياسة أن تقتحم الواقع بأدواتها الخاصة التي تنتمي إليها وتحسن استخدامها.
السياسة بالضرورة أكثر مرونة من الفكر السياسي، وهي تتيح لنفسها إجراء تبدلات سريعة لكن كل ذلك ينبغي أن يتم ضمن العقلانية التي يحدد تخومها الفكر السياسي وليس خارج تلك العقلانية.
يرتاح العقل العربي للأيديولوجيا أكثر من الفكر السياسي، فالأيديولوجيا تمنحه مواضيع صلبة جاهزة تعفيه من التفكير، لكنه يحب أيضاً القفز من الأيديولوجيا الصلبة للتكتيك السياسي متجاوزاً الفكر السياسي الذي يحتاج لكثير من التفكير من جهة ويضع قيوداً على التكتيك السياسي من جهة أخرى.
هذه الحلقة المفقودة في العقل العربي في النوَسان بين الأيديولوجيا والسياسة “التكتيك السياسي” تعني في الواقع إسقاط الاستراتيجية في العمل السياسي والتي تنتمي للفكر السياسي؛ وبإسقاط الاستراتيجية من العمل السياسي يعود العمل السياسي للاستعاضة عن المشاريع بالترقيعات اليومية، بالفعل الذي هو ابن اليوم واللحظة ورد الفعل وفي النهاية للعجز والفشل في مواجهة واقع صعب ومُعقد لا يمكن التعامل معه بروح اللحظة ورد الفعل.
هنا تتخلى الأيديولوجيا عن السياسة، ولا تعود قادرة على منح السياسة أي فائدة، وتجد السياسة نفسها وحيدة أمام تحديات لا ترحم، وفي ضياع السياسة تضيع معها البلاد نحو المجهول.
المصدر: “صفحة الكاتب على وسائل التواصل”