فاطمة ياسين *
لم تهدف العقوبات الاقتصادية التي طبقتها الولايات المتحدة على سورية إلى تغيير النظام، بل ركّزت نصوصها على أن الهدف تغيير النظام سلوكه بالدرجة الأولى، والهدف الآخر التوقف نهائياً عن الممارسات التي تنال من حقوق الإنسان. وكان الهدفان جزءاً من ديباجة قرار العقوبة، التي تخفي ضمناً غاياتٍ أخرى، كتقييد حركة النظام الاقتصادية وعدم تمكينه من الحصول على مواد أولية تساعده على مداومة الحرب. ظنّت الولايات المتحدة أن تخفيض قدرة النظام الاقتصادية داخل المناطق التي يسيطر عليها ستجبره، في النهاية، على تغيير سلوكه السياسي، أو توقفه عن ممارساته التي تمتهن الإنسان وتحطّ من قيمته، ورغم أن أول عقوبة طبقتها الولايات المتحدة على سورية ترجع إلى عام 1979، إلا أن هذا النظام بقي، بفضل دعمٍ تلقاه من حلفائه، بالتركيبة والفكر نفسيهما، فلم يُبدِ منذ تولى السلطة عام 1970 أية رغبة في تخفيف قبضته الأمنية، ولم يفكّر في منح هوامش حرية، وإنْ بأضيق المجالات، لكن العقوبات كانت فعّالة في وصول سورية إلى أرقام قياسية بمستويات الفقر، وقلة الموارد، مع ما يجرّه ذلك من عوارض جانبية كالفساد والجريمة واللجوء.
في ما يوصف بأضعف الإيمان، مثَّلت العقوبات السلاح الذي أشهرته الولايات المتحدة في وجه النظام، فلم يبدِ باراك أوباما ومن بعده دونالد ترامب وجو بايدن رغبةً في تصعيد الموقف الأميركي في المنطقة ضد بشّار الأسد، ولم يشعر الرؤساء الثلاثة بأنّ مصالح الولايات المتحدة مهدّدة بشكل كبير أو حاسم، رغم التدخل الروسي القوي ومن قبله التداخل الإيراني العميق في سورية. تطور الموقف بشكل مختلف بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، وفشلت التجارب الأميركية في التحالف مع “قطب” محلي ذي كفاءة عسكرية يمكن الاعتماد عليه لمواجهة النظام، فتمسَّك الجانب الأميركي بالعقوبات، وبدأ بزيادة جرعاتها حتى وصلنا إلى لحظة قانون قيصر الذي جرى التعويل عليه لردع كل محاولة من الأطراف الأخرى في تعويم النظام أو مساعدته، خصوصاً بوجود بوادر إقليمية تنمّ عن مثل تلك المحاولات، كفتح السفارات أو الاتصال المباشر، وقد استغلّ النظام مأساة الزلزال الذي ضرب سورية قبل أكثر من سنة، ليوسع من قنوات اتصالاته ويحصل على مزيد من الموارد، بعد التساهل الذي بدر من الولايات المتحدة أمام الفاجعة.
بمساعدة عسكرية من روسيا وإيران، استمر النظام واقفاً على قدميه، وقد استفاد من ظروف دولية حوّلت الأنظار عنه، كالحرب في أوكرانيا التي شغلت الجانب الأميركي بشكل كبير، وشكّلت همّاً أساسياً للاتحاد الأوروبي، فتراجع الاهتمام بحالة النظام إلى المرتبة الثانية، ثم جاءت حرب غزّة ليختفي الحديث عن ممارسات النظام في الداخل وقصفه مناطق في شمال سورية من عموم النشرات الرئيسية للأخبار. لم يساعد ذلك في تحسين الواقع الاقتصادي للمناطق التي تقع تحت سيطرة النظام، فقد بقيت تعاني بشدة، ولكن الأسد استمرّ بالوجود مع حزمة العقوبات التي يتضوّر منها، ولا يجد بديلاً له من الانتظار مع الاستمرار بالسياسة نفسها.
ما زال الغرب يستخدم أسلوب العقوبات الذي طبّقه عشرات المرات من قبل ولم ينفع، بل تحوّل إلى ممارسة بيروقراطية لم يجد المشرّع الأميركي غيرها، لكن ما يبدو اليوم أن لدى البيت الأبيض خططاً مختلفة، فقد رفض تمرير مشروع مناهضة التطبيع مع نظام الأسد، والمشروع تمديد لقانون قيصر الذي ينتهي بنهاية هذا العام، كما يحتوي فرضَ عقوباتٍ على من يتعامل مع الأسد. برّر البيت الأبيض الرفض بأنه ما زال يمتلك أوراقاً يستطيع بها إيقاف الأسد، رغم عدم التوقيع على القانون. ويبدو بايدن محقّاً، فهو بالفعل يمتلك أدوات يستطيع بها أن يتخلّص من مخالب الأسد، لكننا لا نستطيع الجزم إن كان ينوي استخدامها بالفعل، بعد أن وجد أن العقوبات لا تؤدّي الغاية.
* كاتبة وصحفية سورية
المصدر: العربي الجديد