الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الذكرى 76 للنكبة: انحسار صورة إسرائيل داخلياً وعلى الصعيد العالمي

ماجد كيالي *

كان المبرّر الأساسي لإقامة إسرائيل، بدعم الدول الغربية، هو إيجاد حلّ للمسألة اليهودية، التي تتمثل أساساً باضطهاد اليهود في أوروبا، بدلاً من حلّ تلك المسألة في البلدان الأوروبية المعنيّة، في مواطن اليهود ذاتهم، في إطار الديموقراطية الليبرالية، وحقوق المواطنة المتساوية. لكن بدلاً من حلّ تلك المسألة، تمّ خلق العديد من المسائل.

المسألة الأولى، وهي الإسرائيلية مقابل اليهودية، إذ أنّ ادعاء الصهيونية صوغ حلّ “قومي” للمسألة اليهودية، نجم عنه اقتلاع اليهود من بلدانهم وتوطينهم في أراضي شعب آخر، باستغلال الدين اليهودي، مع ترويج أساطير مثل: “شعب الله المختار؟ وعودة اليهود من “الدياسبورا” (الشتات) إلى “أرض الميعاد”، التي هي “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.

عدا عن ذلك، فقد انطوت فكرة “القومية” اليهودية على تناقض، فالقومية مفهوم سياسي حديث وتختلف عن الفكرة الدينية، وحتى لو أخذنا الطابع الخاص للديانة اليهودية فإنّ الوحدات البشرية التي تتطوّر إلى مرحلة “الأمة” تلزمها عوامل أساسية مثل الاشتراك في الثقافة والتاريخ والإقليم والاقتصاد وطريقة العيش، في حين أنّ اليهود جاؤوا من عشرات البلدان على اختلاف لغاتها وثقافاتها وتواريخها وهوياتها.

عموماً، فقد تمكّنت إسرائيل، في ما بعد، بفضل ما تسمّيه “بوتقة الصهر” خاصّتها، المتمثّلة بإحياء اللغة العبرية والاستناد إلى سردية دينية للتاريخ، لإضفاء تبرير تاريخي وأخلاقي على قيامها، مع مؤسسات مثل: الجيش والجامعات والهستدروت والأحزاب والكيبوتزات والموشاف ومتحف “الهولوكوست” والصحف وغيرها، من تخليق مجتمع يعيد إنتاج ذاته، لا سيما بعدما بات اليوم نحو 70 في المئة من اليهود فيها من مواليدها.

المفارقة أنّ النجاح الذي حقّقته الصهيونية بإنشاء إسرائيل نجم عنه نفيها، فقد انتهى دور كيانات مثل “المنظمة الصهيونية” و”المؤتمر اليهودي العالمي” و”الوكالة اليهودية”.

هكذا، ذهبت الصهيونية كـ”كيانية سياسية” وباتت صنيعتها إسرائيل كالنتاج المتجسّد لحلّ المسألة اليهودية في أوروبا، لكن هذا “الحل”، الذي ولّد المسألة الإسرائيلية، وكهوية يجري تطويرها في مجتمع يعيش في إطار دولة متعيّنة، على التاريخ والثقافة والتاريخ والسياسة ونمط الحياة المشترك، خلق ذلك التناقض بينها وبين الهوية اليهودية، وتالياً بين جمهور العلمانيين وجمهور المتدينين، وهو ما نشهد أهم فصوله في الظروف وفي الاستقطابات السياسية الراهنة في إسرائيل.

وبديهي، إنّ هذه الهوية تميّز بين يهود “اليشوف” (إسرائيل) ويهود “الدياسبورا” (الشتات)، ما يفسّر الجدل بشأن من هو اليهودي الديني أم العلماني؟ وبشأن اعتبار اليهودي الحقيقي أو الصهيوني الحقيقي، الذي يحقّ له التقرير في شؤون إسرائيل، إنما هو اليهودي الإسرائيلي، وبشأن الطلب من يهود الخارج الهجرة إلى إسرائيل لإثبات يهوديتهم أو تقديم الدعم لها من دون التقرير في شؤونها؛ وأيضاً، الجدل بشأن اعتبار إسرائيل مركزاً ليهود العالم أو أحد مراكزهم.

عليه، وبدلاً من أن تتحوّل إسرائيل إلى دولة حلّ باتت دولة مشكلة، فهنا نشأت هوية إسرائيلية مدنية ومتجسّدة مقابل هوية يهودية دينية ومتخيّلة، وهذه الدولة بدلاً من أن تصبح الملاذ الآمن ليهود العالم، إذا بها أكثر مكان يشكّل خطراً على اليهود، بل إنّها المكان الوحيد الذي يستعر فيه العداء لليهود لكونهم يهوداً، بسبب السياسات التي تنتهجها دولتهم، وهذه الدولة بدلاً من أن تحمي اليهود في العالم وتقدّم الدعم لهم، باتت هي بمثابة عبء سياسي وأمني واقتصادي وأخلاقي عليهم، وعلى الدول التي تدعمها، كما هو حاصل الآن.

المسألة الإسرائيلية ناجمة أيضاً عن الإخفاق في إقامة دولة يهودية خالصة، إذ ظلّت إسرائيل بمثابة دولة “ثنائية القومية”، مع وجود الفلسطينيين، كما لم تحافظ على كونها دولة ديموقراطية سليمة، بتمييزها ضدّهم بسبب الدين.

والمفارقة، أيضاً، أنّ تديين الصهيونية، بدل علمنتها، لم يؤثّر فقط في مفاقمة التمييز ضدّ الفلسطينيين وإنما أثّر أيضاً في التضييق على اليهود العلمانيين أنفسهم، الذين باتوا يرون أنفسهم في دولة تبدو أكثر فأكثر دولة دينية أخرى، الأمر الذي أدّى إلى تصدّع الإجماعات الإسرائيلية، وهو ما بتنا نشهده منذ تشكيل نتنياهو حكومته (أواخر 2022) مع سموتريتش وبن غفير (الصهيونية الدينية المتطرفة).

المسألة الثانية، وهي متشعّبة وتتعلّق بالفلسطينيين الذين تشبّثوا في أراضيهم عند قيام إسرائيل (1948)، وباتوا يشكّلون اليوم 24 في المئة من مواطنيها، فقد شكّل هؤلاء عامل كبح لإمكان تحوّل إسرائيل إلى دولة يهودية خالصة، كما أنّ نضالهم بوجه التمييز ضدّهم كشف حدود الديموقراطية الإسرائيلية وطابعها العنصري. أيضاً ثمة فلسطينيو الأراضي المحتلة (1967) الذين يعيشون في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، وتثير مقاومتهم تعاطف العالم، وتعرض إسرائيل باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية ودينية. وفوق هذين ثمة قضية الفلسطينيين اللاجئين، حيث تشكّل قضية حقّ العودة عقبة رئيسة في إمكان تطبيع إسرائيل وجودها في المنطقة.

أما المسألة الثالثة الناجمة عن إسرائيل، فتتعلق بإدراكات العرب للغرب، إذ لا يمكن النظر إلى الدول الغربية، من منظور معظم مواطني البلدان العربية، من دون أخذ الدعم الذي محضّته هذه الدول لإسرائيل في الاعتبار، وهو أمر يثقل على تخليق علاقات سوية، أو سليمة، بين العرب والغرب، بما في ذلك تشكيل إدراكات أكثر موضوعية عن الغرب يحتاجها العرب للمصالحة مع ذاتهم ومحيطهم وعصرهم.

بيد إننا اليوم بتنا إزاء تمظهر رابع لإسرائيل، فرغم أنّ إسرائيل شكّلت بقيامها وضعاً دولياً، بطريقة نشوئها، برعاية الدول الغربية ـ الاستعمارية (سابقاً)، والتي محضّتها دعمها وحمايتها، من كل النواحي، إلّا إنّها تبدو اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بمثابة عبء سياسي وأمني واقتصادي وأخلاقي عليها، وعلى اليهود فيها، بسياساتها المناهضة للقرارات والمعايير الدولية، وبانتهاجها سياسة الإبادة الجماعية ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزة.

ولعلّنا اليوم نشهد ممهدات بداية تصدّع في علاقة الغرب، كدول وكمجتمعات بإسرائيل، لأنّ هذه باتت تشكّل نقيضاً لقيم الليبرالية الديموقراطية، التي يعتبرها الغرب رسالته إلى العالم، ولأنّ مناهضة سياساتها باتت تثقل على حقوق المواطنة في الدول الغربية، إذ بات الدفاع عن الحق في حرّية الرأي في الدول الغربية جزءاً من الدفاع عن فلسطين كقضية حرّية وعدالة.

نحن اليوم نقف على تخوم مرحلة جديدة في نظرة العالم إلى إسرائيل وتحديد مكانتها.

* كاتب وباحث فلسطيني

المصدر: النهار العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.