الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الاحتجاجات الجامعية والديمقراطية الأمريكية

بشير عبد الفتاح *

تشكل انتفاضة الجامعات الأمريكية امتدادًا لصحوة جماهيرية، ترتد جذورها إلى نهاية ستينيات القرن الماضي، مع انفجار تظاهرات شعبية وطلابية متمسكة بالحقوق المدنية، ومناهضة للحرب الأمريكية في فيتنام. ثم ما لبثت أن تأججت جذوتها، قبل سنوات، من لدن تيارات مدنية، ليبرالية، تقدمية وحقوقية؛ تخللتها حركة نسوية تتحدى خطابًا يمينيًا موغلًا في المحافظة، حتى تكللت بانتفاضة، جورج فلويد، وحراك «حياة السود مهمة».

يأتي الحراك الطلابي الأمريكي، الذي أضحى عالميًا، قبل ستة أشهر من الاستحقاق الرئاسي المرتقب، وسط استقطاب سياسي حاد، ومنافسة شرسة بين الرئيس الحالي، بايدن، ومنافسه الجمهوري، والرئيس السابق، ترامب. حيث يتبارى الرجلان في استثمار الاحتجاجات انتخابياً، آملين في تحقيق معادلة صعبة، تتمثل في ضرورة استرضاء إسرائيل واللوبي الصهيوني، مع الاحتفاظ بأصوات الشباب الأمريكي الغاضب من استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة.

لم يتسنَ للرئيس، بايدن، التزام الصمت حيال الاحتجاجات الطلابية، مثلما فعل عام 1968. ففي تناقض فج مع تعهده إبان حملته الرئاسية عام 2020، باستعادة الحياة الطبيعية؛ أبدى تفهمًا للنهج القمعي في التعاطي مع الاحتجاجات، التي أكد أنها لنّ تغيّر سياسته حيال إسرائيل، التي جدد دعمه غير المحدود لها. بدورهم، حذّر خبراء من أن تواطؤ، بايدن، مع العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين، يمكن أن يؤثر سلبًا على تصويت الشباب لصالحه، ويضر بفرص إعادة انتخابه. لا سيما أنه اعتمد في حسم السباق الانتخابي عام 2020 لمصلحته، على الشباب، والأمريكيين العرب والمسلمين.

ما كادت حركة «غير ملتزم» تتضامن معه، حتى تملكت دوائر أمريكية مخاوف من خروج الحراك الطلابي المتفاقم، عن السيطرة، بحيث يلتحم مع الشارع، ويتحول إلى طوفان شعبي هادر، يستقطب حركات مدنية نشطة. ذلك أن القمع العنيف للاحتجاجات الجامعية لن يفضي إلى إخمادها، بقدر ما يمكن أن يؤدي إلى إطالة أمدها وتوسيع نطاقها؛ كونها ستتحول إلى قضية حقوق مدنية أو مسألة حرية تعبير.

وضع تحول إدارة، بايدن، من الانحياز الأعمى لإسرائيل، إلى الشراكة الميدانية والسياسية فيما تقترفه من جرائم حرب، إبادة وتطهير عرقي؛ ثم تبريره قمع الاحتجاجات الطلابية الرافضة لنهجه ذاك، الرئيس الأمريكي والمرشح الرئاسي الديمقراطي، في مرمى انتقادات الناخبين الشباب. فلقد أظهرت أحدث استطلاعات الرأي تراجعاً لافتاً في مستوى دعمهم لبايدن، منذ عام 2020.

وفي منتصف نيسان/ أبريل الماضي، أظهر استطلاع رأى أجرته، جامعة هارفارد، تقدم، بايدن، على منافسه، ترمب، بثماني نقاط مئوية فقط بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا. إذ يحظى بواقع 45% من نوايا التصويت، مقابل 37% لترامب، في حين كان يسبقه بـ23 نقطة عام 2020. وفي نفس الاستطلاع، أعلن 51% من الشباب تأييدهم وقفًا دائمًا لإطلاق النار في غزة، بينما ارتأى ما يقرب من 60% ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا، أن بلادهم تمضي في المسار الخاطئ. ومع تأخره بفارق ضئيل عن، ترمب، في ولايات متأرجحة رئيسية شتى، يغدو تصويت الشباب لغير صالح، بايدن، أمرًا غير محمود العواقب.

عززت نتائج الانتخابات البلدية البريطانية الحالية، مخاوف بايدن من تداعيات خسارته أصوات الشباب والأمريكيين العرب والمسلمين. حيث أفضى استياء قطاع عريض من قاعدة حزب العمال البريطاني، جراء امتناع قيادات الحزب عن إدانة العدوان الإسرائيلي على غزة، أو المطالبة بوقف مستدام لإطلاق النار، إلى دفعهم لمنح أصواتهم لمرشحين مستقلين أو ممثلين لأحزاب صغيرة، أو الامتناع عن التصويت. وقد أقر مسؤولون بارزون في حزب العمال بالتأثير السلبي المباشر لهذا الأمر على نتائج الاقتراع ببعض الدوائر المحلية، كما حظوظهم الانتخابية خلال الاستحقاق البرلماني في الخريف المقبل.

خلافاً للنبض الشعبي، لا يتورع الموقف الرسمي الأمريكي عن الإمعان في دعم أشد الحكومات الإسرائيلية تطرفاً. ففي حين يفاخر الرئيس، بايدن، بأنه «صهيوني»، ويُنقل عن والده قوله: «ليس من الضروري أن يكون المرء يهوديًا لكي يكون صهيونيًا»، يجاهر وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، أثناء زيارته لإسرائيل في أعقاب عملية «طوفان الأقصى»، أنه جاء بصفته يهودي. أما الرئيس السابق، دونالد ترمب، الذي ينشد العودة إلى البيت الأبيض، فيفاخر بأنه نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، كما اعترف بضم إسرائيل الجولان السوري المحتل، وهندسة «اتفاقات أبراهام» بينها وبين ودول عربية.

في تكرار لخطأ التعاطي الرسمي مع حرب فيتنام، وفي مشهد يبرز عجز، بايدن، عن إحداث توازن بين احترامه لحرية التعبير، وحاجته للاحتفاظ بدعم إسرائيل واللوبي الصهيوني، على مشارف الانتخابات الرئاسية المرتقبة؛ أقر مجلس النواب الأمريكي تعديلاً، اقترحه ما يسمى بـ”التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة”، بشأن توسيع تعريف مصطلح «معاداة السامية»، بحيث تغدو تصوّراً معيّناً لليهود، يمكن أن يتجلّى في كراهية تجاههم. إذ تستهدف المظاهر الخطابية والمادية لمعاداة السامية، أفرادًا يهودًا، أو غير يهود، و/أو ممتلكاتهم ومؤسسات مجتمعية وأماكن عبادة. ورغم مشاركة طلاب يهود فيها، لم يراع سياسيون أمريكيون عن اتهام المتظاهرين في الجامعات بـ«معاداة السامية».

ويستدلّون على ذلك، من بين أمور أخرى، برفعهم شعارات مناهضة لإسرائيل، الحليف الأقرب للولايات المتّحدة في الشرق الأوسط. للقانون، وبينما يتعيّن على مجلس الشيوخ اعتماده، قبل أن يحال إلى الرئيس، جو بايدن، لتوقيعه ونشره، حتى يصبح تشريعًا ساريًا، يرى منتقدو مشروع القانون أنّ التعريف الجديد يحظر انتقادات معيّنة لدولة إسرائيل. كما يتّهمون النواب الذين أقروه، باستخدامه لتقييد حرية التعبير داخل الجامعات. ولفت النائب الديمقراطي جيري نادلر، إلى أنّ التعليقات التي تنتقد إسرائيل لا يمكن أن تشكّل، بحدّ ذاتها، تمييزًا مخالفًا للقانون.

مع تعثر إدراك اتفاق هدنة بين إسرائيل وحماس، بالتزامن مع استمرار الاحتجاجات داخل الجامعات الأمريكية؛ ربما يعقد الديمقراطيون مؤتمرهم الوطنى بشيكاغو في آب/ أغسطس المقبل، وسط مشهد استقطابي حاد. وبينما سيتخلله إعلان الحزب تسمية، بايدن، رسميًا مرشحًا رئاسيًا ديمقراطيًا، يستحضر الأمريكيون حدثًا مؤلمًا في عام 1968. فوقتذاك، طغت الفوضى والممارسات العنيفة على مؤتمر ديمقراطي مماثل، استضافته المدينة ذاتها، على وقع اضطرابات أعقبت اغتيال، مارتن لوثر كينغ جونيور، والمرشح الرئاسي، روبرت كينيدي، القمع العنيف لحركة الحقوق المدنية، والحرب الملتهبة في فيتنام. ورغم اضطرار الرئيس المنتهية ولايته، حينئذ، ليندون جونسون، للعدول عن الترشح، لم تمضِ أسابيع، حتى خسر نائبه، والمرشح الديمقراطي، هيوبرت همفري، الماراثون الرئاسي أمام منافسه الجمهوري ريتشارد نيكسون.

ليست أزمة الديمقراطية الأمريكية، وليدة الانتقادات الحقوقية، التي باتت تنهال عليها من أوساط محلية ودوائر عالمية، مستنكرة تعاطي الأجهزة الإدارية والأمنية مع الحراك الطلابي الراهن. فلقد تجلت، مسبقًا، في تشكيك، ترامب، بنزاهة الانتخابات الرئاسية لعام 2020، ورفضه الاعتراف بنتائجها، ومباركته أعمال شغب، تضمنت الهجوم على مبنى الكابيتول. ثم تهديده اليوم، بتكرار نفس السيناريو مع الانتخابات المزمع إجراؤها في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، حالة خسارته إياها.

لذا، لم يكن مستغربًا، أن يتحدى طلبة الجامعات سلطات بلادهم، بعد رفضها منحهم تصاريح بالتظاهر، إقامة المخيمات والاعتصام داخل الحرم الجامعي. فيما لم يكن صادماً، جنوح الأجهزة الأمنية لقمع احتجاجاتهم السلمية. حيث نفذت الشرطة منذ منتصف أبريل الفائت، عمليات توقيف في أكثر من خمسين حرمًا جامعيًا على الأقل.

وجاءت صور الانقضاض على الطلبة والأساتذة الجامعيين، واعتقال الآلاف منهم، والتهديد بفصل المئات، وفقا لتقرير صحيفة «الواشنطن بوست»، شبيهة بصورة المواطن الأمريكي الأسود، فلويد، بينما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، تحت قدمي شرطي أبيض مسكون بالعنصرية والاستعلاء.

* كاتب أكاديمي وباحث مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.