الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

جماعات الإسلام السياسي إذ تجعل من الدين عبئاً على الدنيا

 

جاد الكريم الجباعي *

اقترنت نشأة الأحزاب السياسية الحديثة بالحياة البرلمانية والانتخابات، التي تسم النظم الليبرالية والديمقراطية؛ فالأحزاب السياسية هي التي تعيِّن الملامح الرئيسة للمجتمع السياسي، الذي يُفترض أن تختفي فيه الفروق الطبقية والإثنية والدينية أو المذهبية، التي نصادفها في المجتمع المدني. فإنّ خلط الدين والدولة هو شكل من أشكال خلط المجتمع المدني والمجتمع السياسي (الدولة). الأحزاب الدينية في بلادنا، كالسلطات المستبدة، هي من تشرِّع لهذا الخلط.

الحزب شخص معنوي، يتوجب عليه، كما يتوجب على الفرد، المواطِن والمواطِنة، احترامُ الدستور والقانون والاحتكامُ إلى القضاء، لا إلى القوة، ولا إلى الغش والحيلة والرياء. وأكثر من ذلك يتوجب عليه أن يكون شخصاً اجتماعياً، أو كائناً اجتماعياً، عقلانياً وأخلاقياً، بالتلازم الضروري بين العقل والأخلاق، وأن يبتغي الخير العام، في فكره وروحه ونشاطه؛ أي أن يكون مواطناً، في مجتمع الأحزاب المتعددة والمختلفة ودولة الأحزاب المتعددة والمختلفة، يتمثل معاني المواطنة ومبادئها وقيمها، ولا سيما المساواة والحرية والعدالة والاستقلال الكياني، والتشارك المبدع في الحياة العامة وحياة الدولة، وفقاً لتكافؤ الفرص وتساوي الشروط. لذلك يجب تفنيد مقولتي “الحزب الواحد” و”الحزب القائد”، وكشف مخاطرهما على حياة الأفراد وحياة المجتمعات، وتفنيد الأحزاب الدينية، بما هي أحزاب غش ورياء وعوامل فتنة ونزاع.

فلم يكن ممكناً أن ينشأ نظام ديمقراطي تمثيلي، وأن ينشأ مفهوم الشعب، بصفته مفهوماً سياسياً، مختلفاً عن مفهومي: “الأمة” و”المجتمع المدني”، لولا إلغاء الملكية الخاصة سياسياً، حسب تعبير كارل ماركس، وإلغاء الدين سياسياً أيضاً. بهذا الإلغاء السياسي، أو النفي الإيجابي للملكية الخاصة والدين تحررت الدولة الحديثة من أي افتراض مُسبق أو شرط مُسبق غير سياسي، كالملكية والدين؛ إذ الأولى اجتماعية – اقتصادية، والثاني ثقافي، وغدت الدولة دولة سياسية خالصة، لا تحابي، في دستورها، طبقة اجتماعية على حساب غيرها من الطبقات، ولا تحابي عقيدة دينية على حساب غيرها من العقائد، ولا تحابي جماعة إثنية على حساب غيرها من الجماعات.

فإن “حق الاقتراع العام” المؤسس على المواطنة المتساوية يعني أنّ الملكية الخاصة والدين لا تَنتج من وجودهما في المجتمع المدني أي نتيجة سياسية. جميع قوانين الانتخاب الحديثة لا تشترط في المرشحين أي شرط يتعلق بالملكية الخاصة أو بالعقيدة الدينية. لذلك ينظر إلى الأحزاب السياسية على أنّها بُنى حديثة تتوسط العلاقة بين الفرد والدولة، بدلاً من البنى التقليدية، العرقية والإثنية والدينية أو المذهبية. فالحزب السياسي لا ينظر إلى الدولة إلا بصفتها بنية سياسية خالصة، لا يشوبها أي عنصر غير سياسي، كالعرق والإثنية والدين أو الملكية ومقدار الثروة. وما أكثر ما يقال ويكتب في نقد “المال السياسي” ودوره في الانتخابات، على أنه لا يقل عن الغش والتزوير واستغلال السلطة. لذلك لا ينبغي أن تشوب الحزب السياسي أي شائبة غير سياسية، فالأحزاب القومية والدينية هي بالأحرى أحزاب سياسة ناقصة أو غير سياسية أساساً.

النفي الإيجابي للملكية الخاصة والدين، أو الإلغاء السياسي للملكية الخاصة والدين، لا يحذف الملكية الخاصة أو الدين، بل يفترضهما معاً. الدولة تحذف على طريقتها الامتيازات أو التميُّزات التي تؤلفها شروط الولادة والمرتبة الاجتماعية والتعليم والعمل الخاص، بصفتها فروقاً غير سياسية؛ إذ تعلن بدون أي اعتبار لهذه الامتيازات والتميزات أن كل فرد من أفراد الشعب يشارك في السيادة الشعبية (سيادة الشعب). هذا يعني أن الدولة تترك كلاً من الملكية الخاصة والمهنة والتعليم يفعل فعله، على طريقته، في المجتمع المدني، بوصفه ملكية خاصة وتعليماً ومهنة، ويحقق طبيعته الخاصة.

فالدولة المسماة مسيحية أو إسلامية هي النفي المسيحي أو النفي الإسلامي للدولة، وليست على الإطلاق التحقيق السياسي للمسيحية أو الإسلام؛ .. وليست تحقيقاً لجوهر الدين؛ أي للروح الإنساني الذي يثوي في الدين ويسري فيه. الدولة المسيحية أو الإسلامية هي الدولة الناقصة، والدين هو إكمال نقصها وتقديسه. في هذه الحال يصير الدين وسيلة بالضرورة، وتصير الدولة “دولة الرياء”.

جماعات الإسلام السياسي أيضاً تجعل من الدين وسيلة لأسوأ دنيا، فتجرد الدين من الروح الإنساني، الذي يسري فيه، وتَحُول، من ثم، دون إمكانية تحقق هذا الروح الإنساني في الواقع. ولأنها لا تقبل فصل الدين عن السياسة تقوم بأخطر تشويه للدين والسياسة معاً. الدين لديها مجرد وسيلة “تافهة” قياساً بالسلطة التي تنشدها والثروة التي تريد أن تستأثر بها، والقوة التي تتطلع إلى احتكار مصادرها؛ والسياسة لديها مجرد محرمات وممنوعات، وأوامر ونواه، وتأثيم لكل ما يخالف عقيدتها الخاصة، وتكفير لكل من لا يوافقها ويخضع لسلطانها. وهكذا الأحزاب القومية، كالبعثية الحيوية أو العرقية. هذا علاوة على ماضوية هذه الأحزاب وسلفيتها وأصوليتها، وكونها أنساقاً لتوليد العنف والإرهاب.

إذا كانت الدولة الدينية أو الإثنية، التي تحابي عقيدة دينية معينة أو إثنية معينة في دستورها دولةَ رياء، فإن الحزب الذي يتبنى عقيدة دينية أو إثنية هو حزب رياء. الرياء هنا يحيل على الشعبوية وخداع الجمهور واستغبائه، أو الاستثمار في جهله وخوفه. هذا الرياء ليس مجرد عيب أخلاقي، بل هو خطر على الحياة الاجتماعية والعلاقات الإنسانية؛ لأنه يسممها بسموم الطائفية والعرقية، ويعوِّق عملية الاندماج الاجتماعي أن لم يحل دونها، وينشر الكراهية، ويحيي الأحقاد، وينظر إلى العلاقات الاجتماعية والسياسية والعلاقات بين الدول بمنظار الغلبة والمغلوبية.

* كاتب وباحث سوري

المصدر: حفريات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.