رانيا مصطفى *
يتوسّع الاهتمام السوري بمبادرة 8 آذار/ مارس (وثيقة المناطق الثلاث)، رغم عمومية خطابها، وأسلوبه الإنشائي الفضفاض، وابتعاده عن المطالب السياسية الواضحة. انضمّت إلى المبادرة قوى مُجتمعية من السويداء ودرعا وريف حلب الشمالي، ومجموعات من الساحل، وشخصيات من إدلب، ورحّب بها “مجلس سوريا الديمقراطية”. ومن الواضح أنّ هذا الخطاب العُمومي يمثّل أساساً للعمل بدءاً من القواعد الاجتماعية العريضة في مناطق سورية كلّها، بمن فيها المؤيدون للنظام، وهو ما سمّته الوثيقة “بناء رأسمال اجتماعي وطني”، بعيداً عن قوى الأمر الواقع الحاكمة والمُعارَضَة التقليدية، من أجل الانتقال لاحقاً إلى المستوى السياسي في العمل، فيما تؤجّل المسائل الخلافية بين السوريين، التي تُمثّل التحدي الأكبر.
يتلمس السوريون المستنقع الذي وقعت فيه سورية. بلادٌ مقسّمة إلى مناطق نفوذ تسيطر عليها قوى الأمر الواقع المدعومة من احتلالات متعدّدة، هذا دفع المُوقّعين على الوثيقة إلى البحث عن كيفية “بناء شبكات ثقة عابرة للمناطق والطوائف والعصبيات”، كما ورد في مبادئ الوثيقة الخمسة، أملاً في تشكيل قيادات وطنية جديدة بديلة من النظام والمُعارَضَة. إنّ وعياً جديداً يتبلور لدى السوريين، لا يتجاوز النظام فحسب، بل أيضاً يتجاوز سياسات المُعارَضَة، المُرتَهِنَة لأطراف إقليمية ودولية ظنّتها ستدعم مطالب السوريين في الحرّية والديمقراطية، ولا يحصُر هذا الوعي مشكلة المُعارَضَة في فسادها وعجزها عن التوحّد وصراعاتها واحتكارها الرأي المُعارِض فقط، بل يراها تتجاوز كلّ بنيتها المؤسّسة على هذا الارتهان للخارج، وأنّه القناة الوحيدة للتغيير السياسي وإهمال دور الشعب، وخطابها المعادي لقطاعات أيّدت النظام، الذي يغلب عليه النفس الطائفي، والسماح بسيطرة حالة مليشياوية على الثورة والشعب، وتبرير سياسة تحرير المدن والقرى الطرفية، وقبول اتفاقيات تسليم المناطق للنظام، ما أسّس مشاريع حُكْمٍ إسلاميةٍ فئويةٍ في “المناطق المحرّرة”، والدفاع عن تلك المشاريع؛ (جبهة النصرة، وأحرار الشام، مثلاً)، بوصفها جزءاً من الثورة. يضاف إلى ذلك المشاريع الكردية الانفصالية، والإدارة الذاتية شمال شرقيّ سورية، وارتهان المُعارضة للأجندة التركية المُعادية للأكراد، الأمر الذي أدخل العرب في حالة عداء مع الأكراد، وساهم في تعزيز التقسيمات المناطقية والعصبية.
اختير يوم 8 آذار/ مارس، الذي يعود إلى ذكرى تأسيس الدولة السورية في العهد الفيصلي 1920، لإعلان المبادرة، والذي اتفق فيه على ميثاق دستوري فيدرالي، في المؤتمر التأسيسي السوري المنتخب على عجل، قبل أن يُطيحه الاحتلال الفرنسي بعد بضعة أسابيع. حينها كانت سورية الطبيعية، الدولة الوليدة، تضمّ أيضاً فلسطين والأردن ولبنان، وهذا يُحيلنا على تساؤلٍ بشأن حدود وهوية الدولة/ الأمّة السورية المنشودة، وكيف سيصاغ الدستور المُستقبلي لسورية الحالية، وعن علاقتها بالمحيط العربي، هل هي علاقة انتماء قومي؟ وهل من المُمْكن تشكيل وطن سوري بالحدود الحالية، على أسس المواطنة والديمقراطية كما يطرح كثيرون، من دون الالتفات إلى أهمية العمق التاريخي والثقافي في حياة الشعب السوري، عرباً وكُرداً، ومن باقي الأقوام، بوصفها عواملَ حاسمةَ في تأسيس الأوطان، وبالتالي، حسم نقاش موقع الهوية العربية الأكبر أولاً، مدخلاً إلى نقاش إشكالية القوميات الأصغر؟ وهنا يحضر سؤال مُلحٌّ، في توقيت تصاعد انتهاكات نظام الإبادة الجماعية في فلسطين، عن موقع المسألة الفلسطينية من الدولة السورية الوطنية الناشئة. تتجاهل المعارضة في كلّ مؤسساتها ومواثيقها هذه المسألة، انطلاقاً من فكرة إمكانية الانكفاء في “سورية الديمقراطية”، وهل سيقبل الشعب، إذا امتلك “الحرّية والكرامة والإرادة”، بأيّ تنازلات مستقبلية تتعلق بالتطبيع مع الدولة اليهودية؟
في الحديث عن الديمقراطية المنشودة، يحضر سؤال علمانية الدولة، بسبب تشويه كلّ من الديكتاتورية والتيارات الإسلامية لها، بل وربطها بالديكتاتورية تارَةً، وبمعاداة الأديان تارَةً أخرى. لا ديمقراطية حقيقية من دون علمانية، لأنّ الأخيرة تعني رفع القداسة الدينية عن السياسة وحماية الأديان، إرثاً ثقافياً وتاريخياً يعني كلّ السوريين، من الاستغلال السياسي، وأنّ من حقّ الجميع، حتى الجماعات الإسلامية، العمل السياسي والمشاركة في الحُكْم، والنشاط السلمي، والدعوة كلّ وفق أيديولوجيته، لكن تحت دستور علماني. ما يزيد من تعقيد الإشكاليات آنفة الذكر، إرث خمسة عقود من حكم البعث الاستبدادي، الذي تحوّل إلى نظام عائلي مافياوي شمولي، فمواقف وآراء كثيرة محكومة بردّات الفعل على سلوك النظام الديكتاتوري وأيديولوجيته الشمولية، وبالتالي، مبنية على سياسات عكسية. حوّل النظام المشاعر القومية العربية إلى أيديولوجيا، وألغى عبرها حقوق القوميات الأخرى، وحكم باسم أولوية القضية الفلسطينية، وفي تاريخه مجازر في حقّ المقاومة الفلسطينية في مخيّم تلّ الزعتر، ويعتمد لبقائه في الحكم على دعم محور “المقاومة” الذي يعمل لمصلحة الأجندة الإيرانية، ولا يخدم القضية الفلسطينية. أما “علمانية” البعث، فشُطبت من التداول، لضرورات حاجة الحكم الشمولي إلى ولاء مشايخَ رجعيين، يدعمون سيطرتَه على المجتمع، بعد حظر جماعة الإخوان المسلمين في سورية، وهنا تحوّلت العلمانية في ظلّ الحكم الشمولي إلى دعم للطائفية، ولكلّ أشكال التفرقة في المجتمع السوري.
هناك تساؤل آخر مُلِحٌّ يخصّ السياسات الاقتصادية التي ستتبنّاها الدولة، وضرورة وضع برامج اقتصادية للنهوض بالواقع السوري، والظن أنّ الإجابة عن هذا السؤال هي ما سيجمع الشرائح الاجتماعية الأوسع حول أيّ مبادرة تطرحها، في ظلّ تأزم الوضع المعيشي للغالبية السكانية في كلّ المناطق السورية، ومناطق اللجوء في دول الجوار. وهنا تحضر تساؤلات بشأن حدود تدخّل الدولة في توجيه الاقتصاد، العام والخاص، وإعادة الإعمار، والانتقال إلى التصنيع، ودعم الزراعة، وضرورة مجّانية التعليم والطبابة، والبحث عن مصادر التمويل المحلّية والدولية، من دون السماح لها بفرض سياسات اقتصادية قائمة على التبعية والتقشّف على حساب الفقراء. وهنا، أيضاً، يحضر في النقاش ردّات فعل واسعة على إرث سياسات البعث الاستبدادية، حول نمط الدولة التدخّلي، وانتهائه بالفساد، ونهب القطاع العام، الذي سببه الحقيقي الارتجالية وغياب التخطيط والمحاسبة، وإقصاء الكفاءات في مقابل التركيز على الولاء للسلطة.
يحتاج الشارع السوري إلى الأمل بالمستقبل للعودة إلى الثورة، في ظلّ حالة العطالة السياسية الراهنة، ومبادرة 8 آذار/ مارس، وغيرها لتجميع ناشطين من مناطق سورية مختلفة، هي خطوة إيجابية في هذا السياق، لكنّها لا يمكن أن تكون مُؤثّرة في الشارع من دون امتلاك برامجَ واضحةٍ، وهذا يتطلّب حسم الإشكاليات، وتجاوز الطروحات الرومانسية عن الديمقراطية وحدها أو حلّ إشكالية غياب هوية سورية واضحة بمبدأ المواطنة وحده، والارتباك تجاه البعد العربي، متمثلاً بالقضية الفلسطينية، وتجاهل أهمّية وضع خطط لحلّ مشكلة الفقر، والانتقال إلى اقتصاد مُنتج.
* كاتبة سورية
المصدر: العربي الجديد