صبحي حديدي *
المخرج السويدي الكبير “إنغمار بيرغمان” اتكأ على مسرحية وليام شكسبير «يوليوس قيصر» لاقتباس عنوان شريطه «بيضة الأفعى» 1977؛ وهو الأوضح، بين أعماله الكثيرة البارزة، الذي يتناول السياسة عموماً، وصعود الفاشية مطلع ثلاثينيات القرن العشرين خصوصاً. وفي المسرحية يقول “بروتوس” عن قيصر روما: «إنه بالتالي يشبِه بيضة أفعى/ إذا فقست خرج منها ثعبان في طبعه أن يلدغ/ ولهذا لا مناص من قتلِه قبل خروجه من البيضة»؛ وهكذا حال بيوض الفاشية، أياً كانت أصناف الأفاعي التي تضعها، ليس على شاكلة «الفقس» الفاشي الذي شهدته الإنسانية في أوروبا قبيل صعود أمثال دولف هتلر وبنيتو موسوليني فحسب، بل في أيّ زمان ومكان ونزاع وصراع.
وفي هذه الأيام، التي تشهد تواتراً متناغماً لوقائع مثل حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزّة، ودهماء إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وتفشّي تيارات اليمين المتطرف والعنصري والانعزالي والشعبوي هنا وهناك في قلب الديمقراطيات الغربية، وترسّخ مقولات العداء والاستعداء ضد «الآخر» اللاجئ أو المهاجر على أسس اللون والعرق والديانة… ثمة ما يستدعي العودة إلى تمحيص ما تتركه الأفعى الفاشية من بيوض، قد يحدث ألا تُرى بصفتها البغيضة المنذرة بالهول والفظيع والدامي، فيجري تجميلها وتلطيفها وتأهيلها تحت لافتات شتى لا تبدأ من حرّية الرأي والتعبير، ولا تنتهي عند ثنائيات الـ«نحن/ هم» و«الشمال/ الجنوب» فضلاً بالطبع عن «الخير/ الشرّ».
فإذا شاء المرء أن يضع جانباً المعزوفة المستهلَكة، بصدد اتهام نقاد الفاشية الإسرائيلية بالعداء للسامية أو للصهيونية، ففي الوسع استدعاء عشرات الأصوات اليهودية متعددة الجنسيات، وتلك الإسرائيلية على وجه الخصوص؛ لتلمّس ما يواصل الفقس من بيوض فاشية، لم يعد أيّ قناع يكفي لتمويه محتواها الفعلي الذي لا يستوحي فاشية الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، بل يبزّها وقد يحيلها إلى ألعوبة.
وقبل 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، حين لم تكن عمليات «طوفان الأقصى» هي الكابوس، كانت شرائح واسعة في المجتمع الإسرائيلي تواجه سؤال البيوض الفاشية عبر إصرار حكومة بنيامين نتنياهو على إصلاحات قضائية تضع المحكمة العليا، وبالتالي خرافة «دولة القانون» في سلال مهملات التاريخ الإسرائيلي.
فكيف، سوى هذا التشخيص للبيوض الفاشية، يمكن للمرء أن يقرأ افتتاحية صحيفة «هآرتز» قبل أربعة أيام فقط من عمليات المقاومة الفلسطينية في مستوطنات غلاف غزّة، تحت هذا العنوان: «النيو- فاشية الإسرائيلية تهدد الإسرائيليين والفلسطينيين معاً»؟ أو افتتاحية أخرى سبقتها، في أيار (مايو) 2023، تسجّل أنّ حكومة نتنياهو السادسة هذه تجمع بين كاريكاتور الحكم الشمولي والتسابق بين الوزراء على أيهم «يمكن أن يكون فاشياً بالمعنى التامّ»؟ أو رأي زئيف ستيرنهيل، أحد أبرز المؤرخين الإسرائيليين المختصين بشؤون اليمين المتطرف، القائل بأنّ ما يتصاعد في دولة الاحتلال من فاشية وعنصرية هو «قرين النازية المبكرة»؟
أو، في مثال آخر، ما لا يتردد في تثبيته مؤرّخ مثل دانييل بلاتمان، معترَف له بباع طويل في ملفات الهولوكوست: «في الحكومة الإسرائيلية وزراء نيو- نازيون، وهي تذكّر بألمانيا في سنة 1933»؛ لأنه ببساطة لا يحكم فقط على وجود هذا الوزير اليميني المتطرف أو ذاك الفاشي والنيو- نازي، بل يتبصّر في ما لا يقلّ خطورة ودلالة: المجتمع الإسرائيلي الذي أتى بهذه الحكومة. وهو يساجل بأنّ «ما اعتُبر في الماضي ضمن صفوف اليمين المتشدد، بات اليوم يتصدر تيار الوسط. والأفكار التي كانت ذات يوم على الهوامش، صارت الآن شرعية»؛ وإذْ لا يُعثر على وزراء نازيين في هنغاريا أو بولندا، يتابع بلاتمان، فإنهم وزراء أمن قومي ومالية في حكومة نتنياهو.
هنا حفنة اقتباسات من أقوال ساسة وعسكريين إسرائيليين، في الماضي والحاضر، ليست ذات طابع تمثيلي للأفكار التي كانت تتخفى في الهامش ثمّ باتت اليوم في الصدارة، فحسب؛ بل هي، على قدم المساواة، الحاضنة التي رعت بيوض النيو- فاشية الإسرائيلية المعاصرة وأتاحت ما يُشهد من فقس لجرائم الحرب:
ـ دافيد بن غوريون، 1937: «يتوجب أن نستبدل العرب، ونحلّ محلهم»؛
ـ مناحيم بيغن، 1982: «الفلسطينيون حيوانات تسير على قدمين»؛
ـ أرييل شارون، 2002: «أردتُ تشجيع جنودي على اغتصاب فتيات عربيات لأنّ المرأة الفلسطينية عبدة لدى اليهود ونفعل بها ما نشاء»؛
ـ يائير لابيد، 2016: «نحتاج إلى طرد الفلسطينيين من حياتنا. نحتاج إلى تشييد جدار عالٍ يجعلهم بمنأى عن أنظارنا»؛
ـ إسحق هرتزوغ، 2023: «لا يوجد مدنيون أبرياء في غزّة»؛
ـ نتنياهو، 2023: سوف نحوّل غزّة إلى جزيرة خرائب»؛
ـ إلياهو يوسيان، 2023: «لا يوجد سكان في غزّة. هنالك 2.5 مليون إرهابي، ولا معنى حتى في قصفهم بصواريخ إنذار»؛
ــ أرييل كلنر، 2023: «ثمة الآن هدف واحد فقط: النكبة. نكبة سوف تقزّم نكبة 1948»؛
ـ بتسلئيل سموترتش، 2023: «أنتم هنا بالخطأ لأنّ بن غوريون لم يكمل المهمة ويطردكم نهائياً في سنة 1948»؛
ـ عزرا ياشين، 2023: «أمسحوهم عن وجه الأرض، هم وعائلاتهم وأطفالهم. لا ينبغي السماح لهؤلاء الحيوانات بالعيش»؛
ــ دانييل هاغاري، 2023: «نحن نلقي مئات القنابل على غزّة. الهدف هو التدمير، وليس الدقّة»؛
ـ إيتمار بن غفير، 2023: «الشيء الوحيد الذي نحتاج لإدخاله إلى غزّة هو مئات الأطنان من المتفجرات، وليس أي غرام من المساعدات».
هذا، بالطبع، غيض من فيض همجي وبربري وفاشي في أوّل المطاف وآخره؛ موجّه ضدّ الفلسطينيين، منذ مطالع سنوات اغتصاب أرض فلسطين وتشريد شعبها وارتكاب عشرات المجازر، وصولاً إلى حرب الإبادة الراهنة ضدّ المدنيين الفلسطينيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة، وغالبية القدس والضفة الغربية.
ما لا يصحّ أن يغيب عن عناصر هذا المشهد هو الحاضنة الخارجية الذي تتعهده بالأمن والتسليح والتمويل، من جانب غالبية عظمى من الديمقراطيات الغربية في أوروبا والولايات المتحدة؛ وأنظمة أخرى، مثل حكومة نارندا مودي في الهند، تحتضن بدورها بيوض فاشيات قديمة أو متجددة، بقدر ما تتماهى فلسفاتها القوموية مع المثال الصهيوني.
وللمرء، عند هذا العنصر تحديداً، أن يحتسب الأبحاث النظرية المعمقة التي تستكشف الروابط، الظاهرة أو تلك الخافية، بين النيو- فاشيات الجديدة هنا وهناك، من جهة؛ وبين التيارات النيو ـ ليبرالية التي لا يلوح أنّ التقديس الفاشي لفكرة الدولة والسلطة العليا يُفسد عليها الاستمتاع بمزايا الهيمنة وتوظيف طرائقها، من جهة ثانية.
وكي تبقى هذه السطور في المثال الإسرائيلي، فإنّ مراقبين كثر (بينهم عدد من اليهود، ومن اليهود الإسرائيليين) عكفوا على دراسة الصلات الوثيقة بين فاشية الحكومة الإسرائيلية وكبار رجال المال والأعمال في الولايات المتحدة وأوروبا؛ وتوقفوا، خصيصاً، عند أثر البرامج الاقتصادية والاستثمارية (كما يعكسها «منتدى Kohlet للسياسة، الذي يموّله اثنان من المليارديرات اليهود في أمريكا) في رعاية جيوب التشدد الإسرائيلية، التي تتولى تدفئة البيوض الفاشية.
للأفعى أن تضع بيوضها، إذن، وللحواضن أن تسهر على رعايتها حتى الفقس؛ متضافرة مع جرائم الحرب التي تُرتكب، وحمامات الدم التي تُراق.
* كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
المصدر: القدس العربي