عبد الباسط سيدا *
في تعليقٍ ساخرٍ بشأن الردّ الإيراني الاستعراضي على إسرائيل، بيّن رئيس مجلس الوزراء السويدي، ووزير الخارجية الأسبق كارل بيلد، خلال مشاركته في برنامج “المكتب السياسي”، الذي يُذاع عبر البرنامج العام في التلفزيون السويدي، أنّ تصفية الحسابات في منطقتنا (الشرق الأوسط) ما زالت تتمّ وفق منطق كتاب العهد القديم لا الجديد، أي: العين بالعين والسنّ بالسنّ، في حين أنّ العهد الجديد يُطالب بالصفح ومواجهة الإساءة بالحسنة. لكن إذا عُدنا إلى العهد القديم، سنلاحظ وجود تقدير خاص للملك الفارسي كورش الثاني الأكبر (559-530 ق. م)، الذي سمح بعودة اليهود الذين كان الملك البابلي الكلداني نبوخذ نصر الثاني (604-562 ق.م)، قد سباهم إلى بابل بعد تدمير “الهيكل” في القدس. وبعودتهم، أخذ اليهود كثيراً من الأفكار والتجارب والمعارف، التي اطّلعوا عليها في بلاد ما بين النهرين، ومنها: أفكار خلق الإنسان والطوفان والمعصية، وغيرها من الأفكار التي كانت تُجسّد معتقدات أبناء الحضارات القديمة في بلاد ما بين النهرين. وهذا فحواه، أنّه وبموجب العهد القديم، لا توجد صيغة من العداء التاريخي بين اليهود والفرس.
ولكن ما حصل، أخيراً، يدخل في باب منطق معهود أو طريقة متّبعة في مناطق واسعة، حتّى أنّها غدت قاعدة أساسية من قواعد العمل الدبلوماسي المعاصر؛ قاعدة التعامل بالمثل. ويبقى السؤال بشأن ما إذا كانت الأمور قد تجاوزت سقف ما عُرف بـ”قواعد الاشتباك”، أم أنّ التكامل الوظيفي، سواء القصدي أو التصادفي، ما زال هو المُتحكّم، بأدواتٍ مختلفةٍ، بطبيعة المحدّدات التي تضبط عملية رسم أوجه التفاصل والتواصل بين المشروعين الإيراني والإسرائيلي في فلسطين، وعلى مستوى المنطقة بصورة عامة؟… فقد تبيّن وجود توافقٍ مباشر أو غير مباشر (والله أعلم!) بين إسرائيل وإيران بشأن الإبقاء على سلطة بشّار الأسد في سورية، وذلك لأسبابٍ تخصّ كلّ طرف. فإسرائيلياً، أثبت الأسد الابن، وقبله الأب، الالتزام بالوعود التي قُطعت لمهندس اتفاقية فك الاشتباك (فصل القوات) بين إسرائيل وسورية (1974)، في أعقاب حرب أكتوبر/ تشرين الأول (1973). لذلك، وجدت إسرائيل أنّ مصلحتها تقتضي الإبقاء على سلطة آل الأسد من باب ضمان المُجرَّب، وهذا ما دفع الولايات المتّحدة، في عهد الرئيس باراك أوباما، إلى التوافق مع الروس من خلال صفقة تدمير السلاح الكيميائي في سورية (2013)، تحت شعار إعطاء الأولوية لمحاربة الإرهاب المُقْحَم في سورية. أما بخصوص سلطة الأسد، ورغم كلّ الجرائم التي اقترفتها بحقّ السوريين الثائرين عليها، فقد جرى الاكتفاء بالرغبة في تعديل سلوكها، الأمر الذي وافق عليه الروس باعتبار أنّ ذلك لا يُلزمهم بأيّ شيء ملموس؛ بل يفتح المجال أمامهم للتخلّص من مناهضي الأسد، وترك القوى المُصنّفة إرهابية تمارس نشاطاتها تحت سمعهم وبصرهم، بل وحتّى بالتعاون مع سلطة الأسد. وهكذا، جرى توزيع المناطق ليؤدّي كلّ طرفٍ دولي مهامّه وفق اهتماماته وحساباته. أمّا إيرانياً، فقد اعتُبِرَتْ سلطة الأسد الابن أضعف من سلطة الأسد الأب، وهذا ما مكّن الإيرانيين من التوسّع والتغلغل ضمن المجتمع والدولة السورييْن، من خلال قواتهم وأذرعهم، تحت شعاراتٍ مختلفة. وكان اللافت منذ البداية هو الصمت الإسرائيلي، وحتى الأميركي الغربي، تجاه الامتدادات الإيرانية المدعومة بأذرع محور “المقاومة والممانعة” في سورية، ودخولها القتال لصالح سلطة بشّار الأسد من أجل الإبقاء عليها، وبأيّ ثمن.
ولكن، يبدو أنّ الأمور الآن قد تغيّرت، والتوجّهات الاستراتيجية تبدّلت لدى الطرفين، ولا سيّما بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، واصطفاف الصين، النسبي المحسوب، إلى جانب الروس، وحرص روسيا على استمالة تركيا وإيران إلى جانبها، ذلك أدّى، رويداً رويداً، إلى تباعد في التوجّهات المصلحية الآنية بين إيران واسرائيل في سورية، لأنّ المشروع الإسرائيلي يقوم أصلاً على إضعاف دول الطوق، والتفاهم معها، وإلزامها باتفاقات، معلنة أو غير معلنة، تنصّ على استبعاد خيار الحرب، والقبول، في المقابل، بجملة الشروط الإسرائيلية الخاصة بحماية أمن إسرائيل. هذا إلى جانب المساعي الإسرائيلية المستمرّة لبلوغ التطبيع الثنائي مع كلّ دولة عربية خارج دائرة الطوق بمفردها. أمّا المشروع الإيراني، فهو إمبراطوري، يستخدم ورقة المظلومية المذهبية بغية إحداث اختراقاتٍ في المجتمعات العربية، والوصول إلى الممرّات البحرية الأكثر أهمّية، التي تتحكّم بالتجارة العالمية، وتمنح إيران تموضعاً على شواطئ المتوسّط، الحوض الذي يجمع بين القارّات الثلاث (آسيا وأوروبا وأفريقيا)، ويُعدّ الطريق الأقصر في ميدان التواصل بين القارّات المذكورة، والمناطق الأخرى. ولهذا، لا يمكن لإسرائيل أن تمنح إيران هذه المزية الجيوسياسية المهمّة جداً مجّاناً، وهي التي ترفع علناً شعارات “تحرير القدس” و”المقاومة والممانعة” والرغبة في “القضاء على إسرائيل/ الكيان الصهيوني”. هذا، بينما تعاملت الولايات المتّحدة، ومعها الدول الغربية، مع إيران بوصفها من عوامل ضبط المعادلات في المنطقة، مقابل التزامها بقواعد اللعبة، التي تشمل طبيعة الاشتباكات وسقف المواجهات.
ولعل التفاهمات الأميركية الإيرانية كانت العامل الحاسم الذي ساهم في تشكيل الحكومة العراقية، وأبعد البلاد عن أزمة عميقة مفتوحة على جميع الاحتمالات، غير أنّ الجانب الإيراني مُصرٌّ، كما هو واضح في الممارسات والتحرّكات، على الاحتفاظ بورقة العراق، البلد الغني بموارده الطبيعية والبشرية، وسدّ الطرق بالأساليب غير العنفية أمام أيّ تمدّد تركي مستقبلي، من خلال استخدام حزب العمال الكردستاني، واستغلال ظروف التباين بين الأطراف الكردية العراقية لبناء العلاقات معها. ولم يكتفِ الجانب الإيراني بذلك فحسب، بل لجأ باستمرار إلى التدخّل في الشؤون التفصيلية العراقية عبر المحكمة الاتحادية، والمليشيات المذهبية، وفصائل الحشد الشيعية، التي تشكّلت لاحقاً بذريعة مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي ظهر فجأة بفعل إشكالي، يثير تساؤلاتٍ كثيرة بشأن الجهة أو الجهات وراء تشكيله ودعمه وتسويقه.
إلى جانب المليشيات، تشكّلت واجهات سياسية لتكون بمثابة أحزاب أو قوى أو تيارات سياسية ممثلة في مجلس النواب العراقي، اعتماداً على قوتها العسكرية، والثروات التي تحصل عليها من الخزانة العراقية بأساليب مختلفة. ورغم التفاهمات غير المعلنة، التي أصبحت مكشوفة، بين الجانبين الأميركي والإيراني بعد كلّ دورة انتخابات تشريعية عراقية لتسهيل عملية تشكيل الحكومة، إلا أنّ الجانب الإيراني يسعى باستمرار إلى وضع العراقيل أمام أيّ رئيس للحكومة لا يغرّد داخل سربها أو أنّها تعمل على سدّ الطرقات أمامه، وتشترط للوصول إلى أي تفاهمٍ مع الجانب الأميركي استبعاده من بين المرشّحين لرئاسة الحكومة، مثلما فعلت مع إياد علاوي، الذي لم يقصّر بصورة عامة في واجباته الوطنية العراقية، وكان يسعى باستمرار إلى جمع كلمة العراقيين على اختلاف انتماءاتهم المجتمعية ضمن إطار وطني عراقي عام جامع، وهو الأمر الذي يحسب له النظام الإيراني ألف حساب ويمنعه من التحقّق بأيّ ثمن. وفي خطوة غير متّفق عليها، ضغط النظام الإيراني على السلطتين التشريعية والتنفيذية في العراق للمطالبة بمغادرة القوات الأميركية البلاد، وهي القوات الموجودة بصفة مستشارين. واللافت الطريف أنّ هذا التوصيف هو نفسه الذي تستخدمه القوات الإيرانية في سورية لبيان طبيعة عملها ووظيفتها. ولزيادة الضغط، لجأ النظام الإيراني، عن طريق أذرعه، إلى شنّ الهجمات على القواعد والقوات الأميركية في كلّ من العراق وسورية. كما شنّ النظام نفسه، ويشنّ، بصورة مباشرة الهجمات على كردستان العراق، خاصة على أربيل، وهي الهجمات التي تكون عادة بمثابة رسائل مفادها ضرورة الخضوع للإملاءات الإيرانية، والابتعاد عن التنسيق مع الجانبين الأميركي والتركي، كما تأتي الهجمات المَعْنيّة في سياق التحذيرات من الدخول في شراكات نفطية أو بناء علاقات اقتصادية مع الدول الخليجية. ونتيجة الضغوط الأميركية، والامتعاض الداخلي حتّى من جهة بعض القوى التي كان من المفروض أن تكون قريبة من إيران، أعلنت إيران عبر أذرعها، خاصة حزب الله العراقي، أنّها أوقفت هجماتها على القواعد والقوات الأميركية، ولكنّها عادت إلى استئناف الهجمات بعد زيارة رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني إلى واشنطن، وتوافقه مع الجانب الأميركي على جملة من التفاهمات، وعقد عدد من الاتفاقيات، الأمر الذي من شأنه أن يصبّ في صالح تعزيز الأمن والاستقرار في العراق، وتجاوز المشكلات الخدمية والاقتصادية.
وفي أجواء زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العراق، والتي جاءت بعد الانتخابات المحلّية التركية، وفي ظروف ارتفاع وتيرة التصعيد بين إسرائيل وإيران نتيجة الهجمات المتبادلة بينهما، تحرّك الجانب الإيراني مجدّداّ، ليمارس عبر أذرعه الضغط على الجانب الأميركي وعلى إقليم كردستان، بغية تحصيل المزيد من النقاط، خاصّة أنّ إيران تعلم أنّ الولايات المتّحدة ليست في وارد التصعيد الإقليمي، إذا أُخِذَتْ الظروف الدولية بعين الاعتبار، إلى جانب الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهي تتشارك هذا الموقف مع الدول الأوروبية الغربية الأساسية في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو). ولكنّ التمهّل الأميركي المعهود لن يكون مفتوحاً، وهناك خيارات كثيرة متاحة لم تستخدمها واشنطن بعد، وفي مقدمتها دعم المعارضة الإيرانية بانتماءاتها المختلفة.
هل سنشهد المزيد من التصعيد الإيراني؟ أم هو تصعيد مُفتعَل القصد منه ضمان تحاشي مواجهة لن تكون في مصلحة النظام الإيراني في جميع الأحوال؟
* كاتب وسياسي سوري
المصدر: العربي الجديد