عبدالحسين شعبان *
مرّت قبل أيام الذكرى اﻟ76 لتأسيس أول اتحاد طلابي عراقي، والذي انبثق في ساحة السباع ببغداد في 14 نيسان/ إبريل 1948، يوم التهب الشارع الطلابي والوطني مردداً قصيدة الشاعر الجواهري «أخي جعفر»، والتي يقول في مطلعها:
أَتعلَمُ أمْ أنتَ لا تَعلمُ … بأنَّ جِراحَ الضَّحايا فمُ
وحينها كانت الحركة الطلابية العراقية والعربية تمثّل رأس حربة أحياناً في المواجهة وفي إشعال فتيل التظاهرات والاحتجاجات، في إطار الحركة الوطنية، لا سيّما دورها المتميّز في نصرة الشعب العربي الفلسطيني وقضيته العادلة على مدى التاريخ المعاصر، وخصوصاً ما حصل بعد العدوان الثلاثي الإنكلو- فرنسي الإسرائيلي على مصر في عام 1956 وعدوان 5 يونيو 1967 على الأمة العربية من جانب إسرائيل.
وإذا كانت الحركة الطلابية العالمية شهدت مواجهات مفتوحة رفضاً للنظامين الرأسمالي الاستغلالي والاشتراكي البيروقراطي في عام 1968، وخصوصاً ما سمي «ربيع باريس وربيع براغ»، فإنها امتدّت إلى عدد من البلدان الغربية والعديد من دول أمريكا اللاتينية، علماً بأن الحركة الاحتجاجية كانت تمور في عدد من البلدان العربية، حيث شهد العراق في أواخر عام 1967 ومطلع عام 1968 إضرابات طلابية عارمة تحت عناوين مهنية ومطالب وطنية وقومية عامة، كما شهدت مصر حراكاً طلابياً واسعاً في شباط/ فبراير عام 1968، لم تكن القضية الفلسطينية بعيدة عنه.
وللأسف فإن التحرّك الطلابي في العالم العربي بعد العدوان الإسرائيلي على غزّة لم يشكّل حالة نضالية إيجابية ناهضة، قياساً بما يوازيها في الجامعات الغربية الأمريكية والأوروبية، على الرغم من محاولات الكبح والتضييق التي تعرّضت لها الأخيرة، حيث تعرّض رؤساء جامعات هارفارد وبنسلفانيا ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى المساءلة أمام الكونغرس، وهو ما دعا عدداً من رؤساء الجامعات إلى الاستقالة وإعفاء آخرين من مناصبهم، خصوصاً بعد استدعاء رئيسة جامعة كولومبيا للشرطة لفضّ الاعتصام الطلابي، وجرت احتجاجات وتظاهرات واعتقالات في 62 جامعة ومعهد تضامناً مع فلسطين، والأمر سار على هذا النحو في بريطانيا وسويسرا وفرنسا وألمانيا وغيرها، على الرغم من القمع الممنهج.
ولعلّ مثل هذا الإجراء غير المسبوق طرح عدداً من التساؤلات المشروعة حول جوهر الديمقراطية الأمريكية وروحها، ودور مؤسسات التعليم في بعدها الأخلاقي، وعلاقة ذلك بالمصالح السياسية على حساب القيم الفلسفية والإنسانية، خصوصاً فيما يتعلّق بحريّة التعبير، ومدى المسموح والمحظور به في الجامعات، إضافة إلى تساؤلات حول استقلالية التعليم العالي وتمويلاته. وكانت 13 جامعة أمريكية قد أنشأت في أيلول/ سبتمبر 2023، وقبل حرب إسرائيل على غزّة، مجموعة للدفاع عن حريّة التعبير بوجه ما اعتُبر تهديداً للديمقراطية الأمريكية.
وكانت مؤسسة «فايـر» للحقوق الفردية وحريّة التعبير FIRE: Foundation for Individual rights and Expression، قد اعتبرت أن الحريّة الفكرية لا يمكن أن تسير كما يجب إذا كان الطلبة وأعضاء هيئة التدريس يخشون من العقاب بسبب التعبير عن آرائهم. وقبل سنوات هدّد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الجامعات بحرمانها من التمويلات البحثية الفيدرالية إذا لم تحافظ على «حريّة التعبير» في الحرم الجامعي. ومثل هذا الرأي هو سلاح ذو حدين، خصوصاً لمحاولات توظيفه واستخدامه، وهو ما ظهر على نحو صارخ في إشكاليات ومشكلات تتعلّق بالموقف من عدوان إسرائيل على غزّة، الأمر الذي يصيب في الصميم القيم والمبادئ التي تقوم عليها العملية التعليمية الأمريكية تاريخياً، بل إنه يهدّد بتصدّعها.
وكانت بعض الأوساط الأكاديمية المؤيدة للعرب تردّد أن فلسطين مستثناة من «الحق في التعبير»، مشيرة بإصبع الاتهام إلى الانحيازات المسبقة لصالح إسرائيل، لا سيّما بإلصاق تهمة معاداة السامية ودعم الإرهاب بمن ينتصر لغزّة، حيث تردّد أن ثمة قوائم سوداء يتم إعدادها ضدّ الأساتذة الذين ينتقدون إسرائيل، حيث تعرّض بعض المؤيدين لفلسطين إلى ضغوط كبيرة وممارسات قمعية وصلت إلى تهديد بعضهم في مكاتبهم واعتقال بعضهم، كما حصل للروائي سنان أنطون، وذلك منذ عملية «طوفان الأقصى» 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وهي ممارسات أصبحت منهجية ومتعمدة.
لقد أشعل العدوان على غزّة حرباً أكاديمية، ففي البداية توجّه الجزء المهيمن من الرأي العام الغربي المؤيد لإسرائيل إلى التنديد بعملية «طوفان الأقصى»، لكن تصاعد وتيرة عمليات الإبادة الجماعية ضدّ المدنيين الفلسطينيين وصدور قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي في 26 يناير 2024، أحدث انعطافاً كبيراً في الرأي العام الغربي وتوجهاته، بما فيه لدى بعض اليهود الشباب، وهو ما انعكس في تحركات وأنشطة تندد بالعدوان الإسرائيلي وتدعم فلسطين بصورة غير معهودة.
وبغض النظر عن مآلات الصراع ونتائجه في غزّة، فإن الوضع الأكاديمي في الجامعات الغربية لن يعود إلى سابق عهده، بل إن ثمة تحوّلاً نوعياً إزاء القضية الفلسطينية قد أصبح واقعاً، ولم يعد مقتصراً على الطلبة العرب، الذين يدرسون في الجامعات الغربية، بل تخطاه إلى شرائح واسعة من الطلبة الغربيين وغيرهم.
ولعلّ ذلك قد يؤدي إلى تغييرات مستقبلية ببروز قيادات مختلفة عن سابقاتها، التي كانت مؤيدة لإسرائيل بصورة تقليدية وعمياء. وقد تنشأ جماعات ضغط جديدة عربية تكون موازية لجماعات الضغط الإسرائيلية، وهو الأمر الذي يحتاج إلى دعم عربي شامل، لا سيما من جانب الحكومات العربية. فقد أطاحت غزّة بالشعارات الرنانة، ووضعت الجميع أمام استحقاقات جديدة ذات أبعاد إنسانية، بما فيها إعادة النظر بالديمقراطيات الغربية ذاتها، والتي يطلق عليها المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي «الديمقراطيات المنقوصة».
* كاتب أكاديمي ومفكر عراقي
المصدر: الحوار المتمدن