د. عبد الناصر سكرية
منذ عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وما يصاحبها حتى اليوم من عدوان صهيوني متوحش جدا لتدمير غزة وإبادة سكانها، طرحت تساؤلات كثيرة حول مستوى التفاعل الشعبي العربي مع الأحداث لجهة إظهار تضامن ميداني فعلي مع شعب فلسطين يجسد وحدة المصير العربي ويترجم شعار: فلسطين قضية العرب الأولى. ومع اندلاع المظاهرات الشعبية الحاشدة في العديد من عواصم العالم ومدنه تضامنا مع أهل غزة واستنكارا لما يتعرض له من حرب إبادة وحشية إجرامية مثلت نموذجا فريدا من نوعه حتى بالمقارنة مع ما حصل في الحرب العالمية (الأوروبية) الثانية وما جرى من تدمير لمدن ألمانية أو غيرها.
وكانت التحليلات في غالبها تشير إلى ضعف مستوى التجاوب الشعبي العربي الميداني العملي وليس العاطفي والوجداني فقط، فمن حيث التعاطف الوجداني والتأييد العاطفي النفسي فإن الغالبية الساحقة من أبناء المجتمعات العربية تقف بلا شك أو تردد مع شعب فلسطين ومقاومته الشعبية الوطنية المشروعة دفاعا عن حقه في الحياة الحرة الكريمة على أرض فلسطين التاريخية العربية.
ومع استمرار الوحشية الإجرامية للعدوان الصهيوني فترة طويلة من الزمن لم تكن متوقعة ربما أن تطول إلى هذا المدى، تطور التضامن الشعبي العالمي من استنكار العدوان والمطالبة بوقف الحرب، إلى الحديث عن إسقاط المشروع الصهيوني وحق فلسطين كلها في الحرية من بحرها إلى نهرها.
وحين اندلعت المظاهرات الطلابية في كبريات الجامعات الأميركية ثم بدأت بالتوسع منتقلة إلى أغلب تلك الجامعات ثم إلى جامعات أوروبية عريقة، طالبت الحركات الطلابية بوقف الاستثمارات في دولة الكيان ووقف التعامل الاقتصادي ووقف تزويدها بالسلاح، مما يمثل تطوراً لافتاً وتصاعداً في مستوى المطالب والتي شكلت ولا تزال، مفاجأة أذهلت العالم وأزعجت دولة العدو إلى حد يجعله متوتراً قلقاً من استمرارها وتصاعدها.
وفي ذات الوقت الذي باتت تمثل هذه التحركات الطلابية بارقة أمل جديدة لأحرار العالم وللشعب الفلسطيني بتزايد الضغوط على دولة الكيان حتى هزيمتها وتراجعها واندحارها، فإنها أعادت إلى صدارة البحث والحوار في أوساط الشباب العربي، عن دور الحركات الطلابية العربية وأسباب تقاعسها في الظروف الراهنة عن التفاعل الجدي وتحمل مسؤوليات التحرك المطالب بالتغيير والمؤيد للتحرير.
عقدت مقارنات كثيرة بين ما تقوم به تحركات طلابية في العالم الغربي تحديداً (أميركا وأوروبا) وسلبية الحركات الطلابية العربية، بين تأثيرات جدية عملية تحققها تظاهرات الطلاب في أميركا واعتصاماتهم، وبين سلبية وربما لا مبالاة طلاب الجامعات في البلاد العربية.
إنها مقارنات موضوعية ومحقة ويبقى أمر دراستها وتحليل أسبابها وخلفياتها مطلبا تنويريا ينبغي أن يصب في سياق حركة توعية وتنوير شعبية عربية تؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق أهداف الحركة الشعبية في التحرر والتقدم. كيف وعلى أية أسس؟ تلك مهمات المتنورين العرب الملتزمين قضايا شعبهم وأمتهم رغما عن كل الظروف القاهرة والمضادة والمعاكسة.
فما هي أسباب خمول طلاب العرب؟ وهل تخلوا عن التزامهم الوطني والقومي وهم كانوا إلى عهد ليس ببعيد؛ طلائع نهضوية تستكشف للشعب طريق الحياة: طريق التحرر والوحدة والتقدم؟؟
إن دراسة موضوعية متأنية لواقع حال الحركات الطلابية في الجامعات العربية تظهر عدداً من الأسباب التي تفقدها دوافعها النضالية وتطلعاتها الطليعية في مقدمة المطالب الشعبية والتعبير عن آمال وضمير ومعاناة الشارع العربي:
1 -فقدان الحركة الشعبية العربية لأية أطر تنظيمية ذات نهج حر واضح في تعامله مع قضاياها الوطنية والقومية. الأحزاب “الوطنية” و”القومية” فقدت معظم مصداقيتها في العقود الأخيرة. تكلست قياداتها وتجمدت طروحاتها فتقهقرت شعبيتها حتى باتت عبئا إضافيا على النضال الشعبي بعد أن فقدت أية قدرة لها على قيادته وتطويره ودفعه إلى الأمام.
ومع احتلال العراق وغزوه الهمجي الاستعماري الشعوبي الحاقد، تراجعَ دور الأحزاب تراجعا جوهريا جعلها تخرج من سياق العمل الوطني النضالي والشعبي الحر.
فكان أن فقد الشباب العربي، وطلاب الجامعات في مقدمته، مرتبة تنظيمية كانت، أو يفترض أن تكون، أحد أبرز موجهيه ومدبري تحركاته ومديريها إلى حيث تمثل قوة ضغط وتفاعل مع الإحساس الشعبي ومطالبه وحريته.
2 -افتقاد الشارع العربي لأية قيادات من مستوى الصفوف الأولى المتقدمة، تقود نضالاته وتوجهه وتحمله على الالتزام بقضية كبرى مصيرية تتطلب جهوداً مثابرة وتعاوناً وثيقاً وتنظيماً مدروساً. ويوم أن كانت للشارع العربي قيادات كبرى توجهه كانت للحركات الطلابية أدوار نضالية متقدمة جعلتها قوة تفاعل حر وتأثير مهم على مجريات الأحداث. فحتى أواخر سبعينات القرن العشرين، كانت الحركات الطلابية تنهل من زخم المشروع القومي التحرري الذي ساد مرحلتي خمسينات وستينات ذلك القرن؛ إلى أن تراجعت بعد أن تسللت إلى صفوفها قيادات شخصانية أو عقليات فئوية أو ارتباطات جهوية، فعجزت أن تشكل لذواتها إطارات حرة مناسبة.
3 -تشتت القضايا الوطنية وتشعبها نتيجة المتغيرات الموضوعية ونتيجة تلك الحرب العدوانية التي تستهدف الوجود العربي وثوابته الحضارية الأخلاقية والتاريخية. حرب يشنها تحالف شامل بين قوى النفوذ الأجنبي وقوى محلية ليست لها مصلحة في نهضة وتحرر العرب. كانت من نتائجها ما يبدو من تناقضات مصلحية أو تضارب زمني بين القضايا الوطنية للبلاد العربية المختلفة وبينها وبين أية قضية قومية تشمل المصير العربي أو تعبر عن الوجدان العربي بجرأة وإخلاص. انشغلت كثير من الأجزاء بقضايا فرعية ومحلية؛ مهمة أو غير مهمة؛ بدت متناقضة مع أية مسؤولية قومية عامة. ولكثرة من تفاقم من مشكلات ناتجة عن نهج إقليمي تجزيئي عاجز وقاصر، طفت على سطح الفهم العام تلك التناقضات ببن ما هو محلي وقومي حتى بات الحديث عن مصير عام عربي واحد وكأنه ضرب من العقم الفكري أو السفسطة الكلامية الفارغة.
وهذا أسهمَ في إغراق الشباب ولا سيما الطلاب في اهتمامات مغرقة في محليتها لتضاف إليها عوامل تعبئة مذهبية تقسيمية تغرقها في فئويتها؛ ثم لتضاف إليها عوامل غزو العولمة الفردية المادية الاستهلاكية لتغرقها في فرديتها والبحث عن ذاتيتها وكفى. فابتعد الطلاب والشباب شيئا فشيئا عن ممارسة دورهم الطليعي في تصدر قضايا الدفاع عن الوطني والقومي.
4 -تصدر موجات التعبئة الدينية بخلفياتها التقسيمية المذهبية. وهي التي تتمتع بإمكانيات ملفتة ومثيرة للتساؤل وبرعاية من أصحاب نفوذ أساسيين جعلتها صاحبة تأثير قوي في اهتمامات الشباب مع تركيزها على الحركات الطلابية فأبعدتها عما يدفعها باتجاه التفاعل مع القضايا الشعبية العامة لتنزوي في عصبياتها المذهبية ومشاريعها الفئوية الضيقة جاعلة من عقلها الفئوي معيارا للحكم وللتعاطي مما أبعدها تماما عن الالتزام النضالي بطابعه الوطني الواضح، فكان مثل هذا التقوقع المذهبي الفئوي سببا مهما في تشتيت الحركة الطلابية وبالتالي فقدانها لدورها الطليعي.
5 – وجاء دور العولمة؛ ولعل أخطر العوامل التي أدت إلى إفراغ الحركة الطلابية العربية من التزامها الإيجابي وتفاعلها الحر مع قضايا مجتمعاتها، هو غزو العولمة الغربية بمضمونها الرأسمالي الفردي المادي الاستهلاكي. وهو الغزو الذي قام ويقوم على ركائز أساسية تكمل بعضها بعضا ويمكن إجمالها فيما يلي:
أ- الغزو المباشر من خلال الإعلام بكافة وسائله وأشكاله وما معه من أنترنت مباح ومفتوح ومتاح بأبسط الإمكانيات بكل ما يحمله من مفاهيم سلوكية تقوم على التحلل من القيم الأخلاقية وسيادة العقل الاستهلاكي المادي النفعي وتغلب الاحتياج الذاتي ومتطلباته الغريزية الضاغطة والمتنوعة؛ على أي تفكير إيجابي يتجاوز الذات الفردية إلى استيعاب الانتماء إلى جماعة أو مجتمع أو وطن أو أمة.
فكان سبباً في تشرد معظم الشباب العربي والطلاب في المقدمة، في دروب البحث عن المتعة الفردية والاحتياجات الذاتية وما أكثرها واللهاث وراء ما هو جديد ومتاح في سوق الاستهلاك العالمي المفتوح. حتى صار السعي وراء الكسب المادي بأية صورة ممكنة، حلالاً أم حراماً لا يهم، هدفا ملحا ضاغطا على عقول الجميع لتأمين متطلبات الحياة الاستهلاكية وما فيها من التزام وحيد الجانب تجاه الذات وغرائزها واحتياجاتها المادية. تسبب هذا النهج في ظهور الشباب اللا منتمي إلا إلى ذاته واحتياجاته الشخصية المباشرة، فافتقد دوافعه إلى الالتزام الوطني والانتماء الإيجابي إلى الجماعة والتفاعل معها والعمل من أجلها.
ب- تغييب كل أدوات صناعة الوعي عن الشباب والطلاب، بدءاً بتسخيف التعليم الرسمي الموحد لصالح تعليم خاص لا تربطه أية روابط وطنية أو قواسم تربوية مشتركة فيما طغت عليه عقلية الربح والتجارة والتشتت في الفهم ووعي الذات وغياب أية تربية وطنية أو حتى مدنية اجتماعية عامة.
إن الغالبية الساحقة من الشباب العربي يتلقون تعليمهم في المدارس والجامعات الخاصة التي تنعدم فيها الثوابت الوطنية الجامعة والأسس التثقيفية الموحدة المرتبطة بالهم الوطني أو القضايا الوطنية والقومية.
ومنذ بداية سبعينات القرن العشرين كانت سياسة تهميش التعليم الرسمي الموحد ظاهرة عامة بدأت بإلغاء مادة التربية الوطنية ثم إهمال وإضعاف كل ما هو رسمي وما فيه من مشترك لصالح الانتقال إلى الخاص وكل ما فيه من تشتت وتباعد وافتقار إلى ما يجمع ويوحد في إطار الجماعة والانتماء إلى مجتمع ووطن.
ج- إنهاك المجتمع بالهموم المعيشية والفتن المتنوعة والانشغالات الفردية والفئوية مما أضعف الشعور بالترابط الاجتماعي والانتماء الواحد وما يعنيه ويفرضه من قيم عامة مشتركة والتزام بالجماعة والعمل لخدمتها وتطويرها وحل مشكلاتها المشتركة. فكانت الغلبة للاهتمامات الفردية وتأمين متطلباتها في ظل حاجة متزايدة إلى الكسب نتيجة التراجع المعيشي والتضخم والركود الاقتصادي.
د- تراجع دور الدولة وتخليها عن كثير من التزاماتها تجاه المواطنين، الأمر الذي تركهم ضحايا لكل ما هو خاص بكل ما فيه من أهداف ربحية مادية وتجارية.. وهذا ما ترك المواطن وحيداً في مواجهة غزو العولمة الرأسمالية من جهة، وضغوط الحياة ومتطلباتها من جهة فانشغل عن الاهتمام بما هو عام بعد أن فقد صلته بمصادر التوعية والتوجيه، واقتصرت كل مصادر صناعة الوعي أو تشكيل الرأي؛ على ما يحرضه على فردية ذاتية أنانية استهلاكية، ويشككه بجدوى وصوابية كل ما هو عام وتعاوني وإيجابي. انعكس هذا مباشرة في طبيعة اهتمامات الشباب والطلاب ودفعهم إلى الانزواء خلف ذاتية مفرطة في ذاتيتها واهتماماتها.
ذ- إشغال الأسرة بطرفيها الأب والأم، بالعمل المتواصل لتأمين احتياجات الحياة للأبناء والأسرة وخاصة التعليم والطبابة بكل ما فيها من غلاء فاحش غير مبرر بعد انهيار المؤسسات الرسمية المتعمد وإسقاط معظم الدعم عن جوانب الحياة الأساسية. ومع غزو العولمة وتقنياتها المباشرة وانشغال الأهل بالهم المعيشي ومتطلباته؛ صار الأبناء عرضة للتأثيرات السلبية لكل ما يحيط بهم من أدوات التأثير وصناعة الوعي السطحي المزيف وتسخيف العقول والاهتمامات والأفهام.
نتيجة لهذه العوامل مجتمعة فقدَ الشباب كل مصادر التثقيف الوطني والوعي الاجتماعي والتحريض الوطني:
– لا أحزاب فاعلة.
– لا مؤسسات تعليمية رسمية فاعلة وموحدة.
– لا دور إيجابي للمجتمع.
– لا دور إيجابي للأسرة.
– دور سلبي للإعلام وأنواعه المختلفة.
– دور سلبي للفن بأنواعه، يحض على الفساد والسخافة والسلبية واللامبالاة.
– غزو يومي منظم ممنهج فاعل مؤثر جذاب للعولمة الرأسمالية الفردية. يستخدم أحدث تقنيات اللهو والإغراء جاذبية وتوهجا للسيطرة على العقول وتشكيل اهتمامات فرعية ذاتية سطحية.
وهكذا يجد الشباب أنفسهم ضحايا انهيار عام يقع في إطار مسؤولية الدولة ومؤسساتها الرسمية فيما هذه تخلت عنه وتركته لأدوات العولمة والفساد والتفاهة تستنزفه وتستبيحه وتستهلك فكره وعقله وجهده واهتمامه في نطاق ذاته وما لها من متطلبات ونوازع فردية وغريزية لا متناهية.
فكيف للشباب بعد كل هذه الظروف المحيطة والمسيطرة أن يتمكن من اكتساب وعي عام يدفعه إلى سلوك إيجابي منتم واع وملتزم؟؟
أما ما يمارسه نظام السيطرة والتحكم هذا، العالمي والمحلي، من قهر وتسلط وقمع للحرية وتهديد بالفتك والحرمان والإفقار والاقتياد، فهو بحد ذاته سبيل للتهرب أو الانكفاء عن الاهتمام بالشأن العام وممارسة أي دور نضالي إيجابي فاعل ومتفاعل مع قضايا الوطن والأمة.
كما أن إغراء الابتعاد عما هو عام ومشترك والانجرار إلى ما هو خاص وفردي وذاتي، قوي جدا يفوق طاقة الكثيرين على الرفض والمقاومة. يكفي افتقاد الثقة بكثيرين ممن تصدروا المشهد العام فكذبوا ونافقوا وارتزقوا، ليكون دافعاً سلبياً إضافياً يحض على الانكفاء أقله تحت ستار أو شعار اللا جدوى.
انطلاقاً من كل هذه الأسباب مجتمعة، يجد الشاب العربي ذاته وحيداً محاصراً مهمشاً متروكاً يواجه مصيره بذاته فلا يبقى له من أسباب المعرفة والدوافع والاقتدار ما يحمله على التحرك الإيجابي الفعال المتجاوز لاهتماماته الفردية.
مثل هذه الأسباب والظروف المعيقة التي تحبس الشباب العربي ليست تحبس نظراءه في مجتمعات الغرب الليبرالية الحرة أو التي لا تخشى مصيرها وهي تعبر عن ذاتها وتطالب بما تراه حقا لغيرها لدواع إنسانية أو أخلاقية أو اجتماعية..
ولا يعني هذا أن الشباب العربي قد تخلى نهائيا عن دوره الرائد، ولكنها ظروف قاهرة وتحديات ضاغطة لن يقوى على مواجهتها وتجاوزها دون امتلاك إطاراته الثقافية النهضوية التوعوية المباشرة. وتلك مهمة المثقفين الملتزمين الإيجابيين.
يحتاج الشباب العربي وحركته الطلابية إلى ما ينقذه من براثن واقع مترد معاد لآماله وطموحاته. في ذات الوقت الذي يعتبر هو المسؤول الأول عن التغيير المنشود. تلك جدلية ونقيضها لا يستحيل تجاوزها إذا ما توفرت عزائم حرة ووعي سليم.
ولا بد من طليعة صادقة ملتزمة ومثقفين تنويريين، فهل يستجيبون فيتفاعلون ويفعلون؟؟