(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الثانية من الجزء الثاني– بعنوان: دراسة تحليلية لنظام عبد الناصر؛(مقدمة).. بقلم الأستاذ “ياسين الحافظ”
دراسة تحليلية لنظام عبد الناصر
ياسين الحافظ
هذه الدراسة محاولة لحل «عقدة» من هو مع أو ضد نظام عبد الناصر، بغية اتخاذ موقف ثوري وإيجابي في نفس الوقت من هذا النظام.
إن الكاتب لينوه بالمعونة الأخوية التي قدمها بعض الأصدقاء، ونخص بالذكر الأستاذ الياس مرقص الذي ساهم بوضع الهيكل الأساسي لهذه الدراسة.
إن هذه الدراسة هي حصيلة نقاش استمر بيننا فترة طويلة بدأت منذ صدور قرارات التأميم في تموز/ يوليو 1961، وكان دور الكاتب هو بلورة هذا النقاش وصياغته.
(1)
مقدمة
الحديث عن مصر، والحديث عن ثورة ٢٣ تموز/ يوليو لسنة 1952 في مصر، والحديث عن عبد الناصر بالذات، لايزال- شئنا أم أبينا- يحتل الاهتمامات الأساسية في أذهان الجماهير الشعبية بشكل خاص ومجمل المواطنين بشكل عام.
إن هذه الاهتمامات واقع حي ملموس، لذا لن نستطيع تجاهلها أو القفز من فوقها إذا أردنا تخطيط سياسة علمية ومدروسة ومتجاوبة مع الجماهير، إذ أن سياسة كهذه لا بد أن تكون وليدة التحليل الملموس للواقع العربي الملموس.
تلخص أسباب اهتمامات الجماهير بمصر بما يلي:
۱- يحتل القطر المصري مركزاً جغرافياً حيوياً في الوطن العربي، فهو يشكل حلقة الاتصال المادية والسياسية والمعنوية بين مشرق الوطن العربي ومغربه.
2- يحتل القطر المصري مركز الثقل في وطننا العربي، وهذا النقل نوعي وكمي في نفس الوقت، وهو يشمل الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية.
٣- تلعب مصر عبد الناصر بالذات دوراً أساسياً ونشيطاً في الوطن العربي بشكل خاص وفي الشرق الأوسط وإفريقيا بشكل عام، بحيث يمكن تقسيم التاريخ العربي المعاصر الى مرحلتين: مرحلة ما قبل عام ١٩٥٢ ومرحلة ما بعد عام ١٩٥٢.
هذه الحقائق يدركها الشعب العربي بإحساساته المباشرة، بحسه العفوي السليم بتجاربه التي عاشها منذ نكبة 1948 وحتى اليوم. لذا فإن كل المحاولات التي هدفت إلى إخفاء هذه الحقيقة، لإبعاد مصر عن المشرق العربي وعزلها عنه قوبلت بالإعراض والاحتقار من قبل الجماهير الشعبية العربية.
في التجربة المصرية تختلط الجوانب الإيجابية والسلبية، وتتشابك الملامح الثورية والتقدمية للتجربة مع الظواهر المتخلفة والانتهازية والبيروقراطية. وأمام ظاهرة هامة ومعقدة كهذه، لا بد أن تختلف المواقف وتتناقض. وكادت الحقيقة أن تضيع بين موقف الأتباع من جهة وموقف الحاقدين والشعوبيين من جهة أخرى.
إن الأشياع والأتباع، وموقف أجهزة الإعلام المصرية بصورة خاصة، لا هم لهم سوى التمجيد والتعظيم، تضخيم الانتصارات وإخفاء النكسات، تركيز الأنظار على المكاسب وحجب الخسائر عن الأنظار، حرق البخور والابتعاد عن النقد المبدئي، لا اتخاذ المواقف التي يمليها احترام الحقيقة والإيمان بالشعب. وحتى بعض المفكرين والمثقفين الذين ينسبون أنفسهم لليسار في مصر، قد أصبح همهم تبرير تصرفات الحكم وتناقضاته وإعطاء اتجاهات السلطة رداءها النظري والعمل على فلسفتها .
أما المُرتدون الذين حرقوا البخور للتجربة المصرية، ورأوا في عبد الناصر القائد الفذ الملهم الذي انتظره العرب منذ قرون. إن تلك الزمرة، بعد أن أصيبت بعاهة فكرية ولوثة ذهنية سببتها «عقدة» عبد الناصر ، لم تعد ترى في التجربة المصرية إلا جانبها السلبي (وكانوا في السابق لا يرون إلا جانبها الإيجابي)، فالتأميم- في نظرها- «وَهمٌ في وهم وتخريبٌ في تخريب(1)»، والتقدم الاقتصادي في مصر أكذوبة، ومعركة السويس المجيدة مسرحية أمريكية. إلا أن ما يفضح هؤلاء هو موقفهم الفعلي من عملاء الاستعمار في الأقطار العربية الأخرى ومن ممثلي الرجعية في القطر السوري، كما يفضح هذه الزمرة أيضاً موقف عملاء الاستعمار وممثلي الرجعية في القطر السوري منها. تعيش هذه الزمرة في تحالف فعلي، صامت مع العملاء وعلني مع الرجعية السورية. إن هذه الزمرة الحاقدة المُرتدة التي كانت خفيفة رخيصة في إطرائها للتجربة المصرية بقيت خفيفة رخيصة في سُبابها لها.
أما الزمرة الشعوبية، التي ابتذلت الماركسية وحولتها إلى سفسطة رخيصة لستر سياستها الانتهازية اليمينية تجاه البورجوازية، واتخذتها ستاراً لإخفاء سياسة شوفينية معادية للقومية العربية، إن هذه الزمرة هي آخر من يحق لها انتقاد التجربة المصرية. فإذا كان عبد الناصر دكتاتوراً، فهم برروا ومجدوا الدكتاتورية الستالينية، إن مصدر حقدهم على عبد الناصر يكمن في غيبتهم عن النضال التاريخي الذي يخوضه الشعب العربي. إن مصدر حماقتهم هي التصاقهم بمصلحة الحزب المباشرة القريبة، هذه الحماقات كانت سبب عزلتهم عن الجماهير الشعبية ومعارضتهم لنضالها ومطامحها أيضاً.
وعلى العكس من تلك الزمرتين. ففي الوطن العربي جماهير شعبية واسعة مؤمنة بعبد الناصر، فهي مندفعة خلفه بصورة عاطفية.. ترى في شخصه رمزها وفي نضاله خلاصها. إن الجماهير الشعبية- وبصورة خاصة جماهير العمال- لا تؤله أحداً، ولكنها رأت في عبد الناصر القوة التقدمية الفعالة، التي تجاوزت عملياً مجمل اليسار التقليدي في المشرق العربي، والتي فضحت أيضاً الطغمة الحاكمة العميلة في الوطن العربي وزعزعت بنيانها وهارت قسماً كبيراً منه، إن السياسة الانتهازية اليمينية التي كان اليسار التقليدي يمارسها حفرت هوة بينه وبين الجماهير الشعبية، هذه الهوة مّدَ عبد الناصر فوقها جسراً بقوانين التأميم والاصلاح الزراعي وسائر القوانين الاخرى ذات الطابع التقدمي. هذه حقيقة لا ينكرها إلا مكابر أو حاقد أو أعمى. حقاً إن المواقف النضالية التي تنطلق من نظرة علمية وثورية لا تسلم نفسها للاندفاع العفوي ولا للانفعالات السلبية الشعبية، إلا أنها لا يمكن- بالمقابل- أن تتخطى واقعة حية ملموسة، ولا يحق لها ان تنبذ ظهرياً اتجاهاً موضوعياً قائماً، بل ينبغي عليها أن تفسر هذا الاندفاع وتعلل هذا الانفعال، وعلى ضوء هذا التعليل والتفسير تحدد موقفها وأسلوب عملها مع الجماهير، إن موقفاً كهذا هو وحده الذي يتيح تصحيح موقف الجماهير وتبرئته من شوائب الخطأ وإبعاده عن المزالق والانحرافات.
لذا فإن الغرض الأساسي لهذا البحث هو إيضاح حقيقة الدور الذي يلعبه عبد الناصر ونظامه ونتائجه الفعلية في الميزان العام للنضال ضد الاستعمار والرجعية، وبالتالي تحديد الموقف السياسي الذي يجب أن تتخذه القوى الثورية العربية من عبد الناصر، عن طريق إصدار حكم عادل وموضوعي على التجربة التي بدأت في القطر المصري ليلة ٢٣ تموز/ يوليو 1952.
*** *** ***
هامش:
(1) من خطاب خليل الكلاس في مؤتمر شتورا بتاريخ 27/8/1962
………………
يتبع.. الحلقة الثالثة بعنوان: (القطر المصري قبل الثورة).. بقلم الأستاذ “ياسين الحافظ”