أسامة أبو ارشيد *
ما جرى، ويجري، من تحريضٍ فاضحٍ، وتوجيه اتهاماتٍ زائفةٍ، وفضّ أمنيٍ عنيف لاعتصاماتٍ طلابيةٍ سلميةٍ في جامعات أميركية مُطالِبَةٍ بإنهاء التواطؤ مع الاحتلال الإسرائيلي، ينزعُ عن الولايات المتّحدة ورقة التوت التي تحاول أن تَسْتُرَ سوأتها بها. مرّة تلو أخرى، تسفر مؤسّسات القوّة الناعمة الأميركية، وهنا تحديداً الإعلام والجامعات، عن وجهها القبيح، وتُثبِتُ أنّها مُجرّد أدوات في خدمة “الإمبراطورية” عندما يتعلّق الأمر بالأجندات السياسية الكبرى. حدث ذلك غير مرّة، كما خلال التنافس الأميركي – السوفييتي، وكذلك خلال حقبة “الحرب على الإرهاب”، ثمَّ تهيئة الرأي العام لغزو العراق واحتلاله. والآن، في الانتصار لإسرائيل ودعم حرب الإبادة التي تشنّها في قطاع غزّة. فجأة، وكأنّ العالم يكتشف للمرّة الأولى أنّ الجامعات الأميركية، الأرقى عالمياً، التي تقدم نفسها على أنّها معاقل التفكير الحُرّ، تنقلب من نقيض الصورة المُصَدَّرَةِ إلى مراكزِ اعتقالٍ وعُنفٍ أمني، ضدّ طلبة أُوهِمُوا أنّهم جيل “العدالة الاجتماعية”، ليكتشفوا زيف الشعار بعد أن اصطدم بالانحيازات الراسخة للتحالف السياسي الأمني العسكري الإعلامي الفكري الإمبريالي، الذي تقوده الدولة.
يتبدّد الوَهْمُ في ظلّ إدارة رئيس (جو بايدن) وصل إلى الحكم مُتَعَهّداً بـ”إنقاذ السمعة الأميركية”، التي كان يقول إنّها تلطّخت في عهد سلفه دونالد ترامب. وكان بايدن، مُرشّحاً عام 2020، رفع شعار “جعل أميركا محترمة” مرّة أخرى في مقابل شعار ترامب “جعل أميركا عظيمة مرّة أخرى”. ترى، هل فعلاً ينظر إلى أميركا، اليوم، داخلياً وخارجياً، باحترام وهي تشارك في جريمة إبادة وحشية، وجرائم ضدّ الإنسانية، تجري في قطاع غزّة أمام ناظريّ العالم كله؟… الجواب طبعاً بالنفي. لكن، لا يبدو أنّ ذلك يقضّ مضاجع بايدن والمؤسّسة الحاكمة في حزبه الديمقراطي، فالتواطؤ البغيض، والانحياز الأعمى لمصلحة إسرائيل، يعلوان على زعم بايدن؛ المُرشّح، بتعزيز القيادة الأميركية عالمياً عبر “قوة النموذج” الذي تقدّمه، لا “نموذج القوّة”، فضلاً عن “استعادة القيادة الأخلاقية”.
ولعلّ من المفارقات الساخرة أن يتزامن التشويه القميء ضدّ طلاب جامعيين بذريعة أنّهم “معادون للسامية” وعُنْفيّون، وبالتالي تبرير القمع الأمني في حقّهم واعتقال كثيرين منهم، وكذلك تبديد مستقبل آخرين عبر قرارات الفصل من جامعاتهم أو تعليق دراساتهم لفصل وأكثر، مع نشر التقرير السنوي الأميركي لحقوق الإنسان، والذي تصدره وزارة الخارجية، وتحاكم الولايات المتّحدة به العالم. ترى واشنطن القذى في أعين الجميع، في حين تعجز عن رؤية الجذع في عينها. يوبّخ التقرير، الصادر في 22 الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) ويغطي عام 2023، روسيا جرّاء “تجاهل الكرملين وازدرائه حقوق الإنسان بشكل كامل في حربه ضدّ أوكرانيا، و(استخدام) القوات الروسية العنف ضدّ المدنيين أداةَ حربٍ مُتعمّدة”. كما ينعت الانتهاكات الروسية في أوكرانيا بأنّ “بعضها يرقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية.. يعاني المدنيون، بما في ذلك الأطفال الأوكرانيون، من انتهاكات فظيعة على أيدي القوات الروسية وغيرها من المسؤولين الروس”. أمّا عند الحديث عن إسرائيل، فإنّ التقرير يُعبّر عن “القلق” بشأن حقوق الإنسان في “الحرب بين إسرائيل و(حماس) في قطاع غزّة”. ورغم أنّه يُعبّر عن “القلق” من كيفية خوض إسرائيل؛ “حرب الدفاع عن النفس”، واستهداف المدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال، والقيود على دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وقتل الصحافيين، إلا أنّه بكلّ وقاحة يُحمّل مسؤولية ذلك كلّه حركةَ حماس جرّاء “سوء استخدامها البغيض للمدنيين والبنية التحتية المدنية دروعاً بشرية، واستمرار رفضها إطلاق سراح جميع الرهائن”. ليس هذا فحسب، إذ يندّد التقرير بـ”الحملة القمعية التي تشنّها روسيا ضدّ مواطنيها”، وتوجيه “اتهامات جنائية زائفة لمئات الروس الذين تحدّثوا ضدّ حرب بوتين العدوانية”، وكأنّ الولايات المتّحدة لا تفعل الأمر ذاته، راهناً، ضدّ طلبة جامعيين يُمارسون حقّ التعبير وحقّ التجمهر، بناءً على التعديل الدستوري الأول، من أجل تحقيق مطالب عادلة وأخلاقية، تتمثل في وقف جامعاتهم لاستثماراتها وعلاقاتها مع نظام الأبارتهايد والإبادة الإسرائيلي (!) الأمر ذاته يمكن أن يقال بشأن إدانة التقرير لـ”انتهاكات حقوق الإنسان المستمرّة والوحشية في إيران”، و”الانتهاكات الجسيمة المستمرّة لحقوق الإنسان في جمهورية الصين الشعبية”، ودول أخرى، وكأنّ أميركا لا تعرف انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان، ولا تمارس تمييزاً عنصرياً ودينياً مؤسّسياً (!)
باختصار، تقف واشنطن اليوم عاريةً مُتجرّدةً من كلّ مزاعمها عن “الاستثنائية” والحرّيات و”القيادة الأخلاقية”. يكفي بُنَى الحكم فيها أنّ تنظر في المرآة كي تدرك هذه الحقيقة الصارخة. إذا كانت روسيا والصين وإيران وكوبا والسودان وأوغندا… إلخ، كلّها مُتّهمة في محكمة انتهاكات حقوق الإنسان، كما يقول تقرير وزارة الخارجية الأميركية، فإنّ الولايات المتّحدة تتقدّمهم أو على الأقلّ تقف إلى جانبهم كتفاً بكتف. من يشارك في حرب إبادة وحشية وجريمة بشعة ضدّ الإنسانية في قطاع غزّة، ثمَّ يدوس قيمه الدستورية والمدنيّة والأخلاقيّة المزعومة، ويقمع مواطنيه ممن يطالبون بالالتزام بها، لا يحقّ له أن يقاضي الآخرين ويصدر الأحكام في حقّهم.
* كاتب وباحث فلسطيني مقيم في واشنطن
المصدر: العربي الجديد