غازي دحمان *
كلّ بضع سنوات تُبشَّر شعوبُ المنطقة بأنّ الجغرافيا التي يعيشون فيها، المسمّاة الشرق الأوسط، على وشك ولادة، مرّة توصف جديدة، ومرّة كبيرة، وأخرى مُوسّعة، مع أنّ هذه الولادات المزعومة لا يسبقها أيّ نوع من التلقيح، ما يضع هذا الشرق على الدوام في مسار الحَمْلِ المُخادِع. ولافت أنّ هذا التبشير بالولادة يُذْكَرُ بصيغٍ حمّالةٍ للإيجابيات، ومُغرِقَةٍ في التفاؤلِ بمستقبلٍ مختلفٍ، والمفارقة أنّ هذه التبشيرية لا تأتي إلا على خلفية أحداث دَمَوُيّة بامتياز، مثل اجتياح العراق أو تدمير لبنان أو الحرب على غزّة، ما يتناقض مع هذه الاحتفالية بالولادةِ المزعومةِ، فكيف لجديدٍ أن يولد من تراكم الأنقاض والدمار والمقابر الجماعية، وهل كلّ حفلة قتل في المنطقة نُذُرُ ولادةٍ سعيدةٍ؟
لا مؤشّرات إلى إمكانية بناء شرق أوسط جديد، فكلّ بناءٍ بحاجةٍ لبنيةٍ تحتيةٍ ولحواملَ سياسيةٍ واجتماعية، وديناميكيات جديدة، أين هذا كلّه في الشرق الأوسط في لحظة إحساس الجزء الأكبر من شعوب المنطقة، وهم العرب، بالإحباط والانكسار، فكيف سيتفاعلون مع هذا الجديد وهم المعنيون الأساسيون بهذه الولادة؟… المؤكّد أنّه يراد سوقهم إلى ذلك.
لا شيء في المنطقة يوحي بولادة شرقِ أوسطٍ أو واقعٍ جديدٍ، فما هو حاصل وموجود لا يمكن البناء عليه، ولا يؤسّس لانطلاقةٍ جديدةٍ، كلّ ما هو ممكن تكريسُ مناطقِ النفوذ، أي متابعة المسارات القائمة في المنطقة منذ عَقْدٍ، ما يجعلنا نشكّك في الجديد المطروح، والذي سيكون على نمط نهاية تاريخ فرنسيس فوكوياما، أي تقسيم بلاد العرب، وإنهاء الهوية العربية، وإخراج العالم العربي من كلّ فعّالية، وإلى الأبد.
ثمّة ترتيبات ومساومات في المنطقة تدور بين الفاعلين الدوليين والإقليميين، ولكن الهدف منها ليس صناعة شرق أوسط جديد، وفق شكلٍ تبشّرنا به السردياتُ المتداولةُ، بل هي لا تعدو كونها استعادةً جديدةً ووقحةً للحظة “سايكس بيكو” التي اختبرتها منطقتنا في بداية القرن العشرين، وشكّلت أساس الجغرافيا السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمنطقة، حتّى اللحظة، ويبدو أنّنا الآن أمام مُحاولةِ إعادة صياغة نُسخةٍ جديدةٍ تأخذُ في الاعتبار المُتغيّرات الحاصلة في أوزان اللاعبين، وتُعيد القسمة بناءً على ذلك.
في جزء مُهمّ من المنطقة، وهي المنطقة التي يجري العمل عليها وتحضيرها للصياغةِ الجديدةِ، أًصبحت الحدودُ متحرّكةً وبحالة من السيولة، ثمّة حدودٌ أضحت للعرقيات وللطوائف، وربما للعشائر وللانتماءات السياسية، والواضح أنّ الطاولات السياسية التي ستصنع الشرق الجديد، المزعوم، ستكون محاورها الأساسية خطوط الصّدع القائمة في المنطقة، التي أصبحت تشكّل، إلى حدّ ما، حدودَ مناطقِ النفوذِ في المنطقة.
ربما يعتقد صنّاع الشرق الجديد أنّ حوامل مشاريعهم نَضَجتْ إلى الحدّ الذي صار بإمكانهم إعلان، وبثقة تامّة، موعدَ الولادة وتحديد نوع المولود، بعد أن وصلت غالبية مجتمعات المنطقة إلى حالةٍ من اليأس لم تَعُدْ ترى عبرها أيّ إمكانية لظهور غدٍ يحمل أملاً بالتغيير، بعد أن فقد أبناؤها كلّ أدوات التأثير والقدرة على التحكّم بمصائرهم، وصناعة مستقبل أبنائهم، وصاروا يرون الأملَ منحصراً في الهروب من هذا الجحيم.
وثمّة ثلاثة خطوط يتمّ العمل عليها في هذا التشكيل الجديد للشرق الأوسط، تستهلك الوقتَ والجهدَ الأكبرين في هذا المخاض. الأول، تلفيق حل ما للقضية الفلسطينية، يراعي مصالحَ إسرائيلَ إلى أبعد حدّ، ويشكّل مُقدّمةً لإدماجها في المحيط العربي. الثاني، التوصلّ إلى حلّ مسألة البرنامج النووي الإيراني، مقابل تثبيت مناطق نفوذ إيران في المنطقة، وموافقتها على التوقّفِ عن تهديدِ أمن إسرائيل، الثالث، ضمان مصالح الصين وروسيا وتركيا، في سورية والعراق، من النواحي الاقتصادية والسياسية. لا يختلف الهدف من هذه الإجراءات عن الهدف المُعلَنِ في تفاهمات “سايكس بيكو”، وهو ضبط هذه المنطقة بعد أن فشلت أنظمتها ونُخَبُهَا في إدارتها، وإخراجها من حالة الصراع المزمنة التي تضربها، واستنزاف الفاعلين الخارجيين من دون تحقيق عوائدَ ممكنةٍ، ولا بأس في أن تكون هذه المنطقة عربون تقارب للفاعلين المتصارعين في مناطق أخرى خارجها.
في كلّ مرّة كان يجري فيها الحديث عن نمطٍ جديدٍ من الشرق الأوسط، كان يترافق مع خرائط وتصوّراتٍ وفِكَرٍ لإدارة المنطقة، ولكنّها كانت تفشل ولا تصل إلى حدّ التطبيق العملي، لابتعاد تلك الترتيبات عن الواقع، وخطئها في الحسابات، وعدم أخذها لإرادة الشعوب ومصالحهم ضمن تلك الرؤى والتصورات، كما أنّ الرهان على يأسِ شعوبِ المنطقةِ لا يكفي لتأسيس شكل جديدٍ للمنطقة، فهذه الشعوب أصلاً تعيش في نكبة منذ عقود، إلى درجة أنّها اعتادتها، ولم يكن لها تاريخ مع السعادة منذ تأسّست كياناتها الدولتية.
وللمفارقة، حملت هذه المنطقة نُذُرَ الانتقال فعلاً إلى شرق أوسط جديد مرّة في تاريخها كلّه، عندما ثارت الشعوب العربية ضدّ أنظمة الفساد والقهر والاستبداد، لكن ثورتهم أُجهضت، وعاد الشرق الأوسط إلى مساراته الكارثية، وتبيّن ألّا مصلحة للفاعلين الدوليين والإقليميين في قيام شرق أوسطٍ جديدٍ تصنعه شعوب المنطقة، ولكن أيضاً، لا إمكانيةَ لصناعة شرق أوسطٍ على مقاسات بعضهم، فاللاعبون الدوليون مستنزفون، ولديهم أولويّاتٍ أخرى، والإقليميون وصلوا إلى ذروة الاستنزاف، ومثل هذا المشروع يحتاج طاقات جبّارة، وأنهار دماء تسيل لتغذية المشروع، بينما الطاقة غير موجودة، والدماء سالت ولم تصنع سوى الخراب.
* كاتب سوري
المصدر: العربي الجديد