يُقدّم المحلل في “هآرتس” “تسفي برئيل” تحليلاً متعدد الأبعاد لمسار التطبيع السعودي الإسرائيلي ربطاً بالمعاهدة الدفاعية الأميركية السعودية من جهة وبوقف حرب غزة وولادة الدولة الفلسطينية من جهة ثانية. ماذا تضمنت هذه المقالة التي ترجمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية من العبرية إلى العربية؟
يظهر أن البعض يتعامل مع مسألة اتفاقية التطبيع بين إسرائيل والسعودية على أنها مكافأة لطفل عنيد يرفض تناوُل دواء مرّ. فلو تم توقيع هذه الاتفاقية، فإنها ستشكل خطوة مفصلية فعلاً، وستخدم المصلحة الاستراتيجية الإسرائيلية، وتستكمل الاعتراف بها وبحاجاتها الأمنية في العالم العربي، وتفتح في وجهها أبواباً اقتصادية غير مسبوقة، بحسب التوصيفات المتفائلة؛ إذ إن هذه الاتفاقية قد تفتح الباب أمام العديد من الدول الإسلامية، مثل إندونيسيا، التي أعلنت في السابق نيتها إرساء علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، بسبب الشروط التي تمليها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، التي تطمح إندونيسيا إلى الانضمام إليها، إلى جانب ماليزيا وباكستان، وترسيخ ما يمكن وصفه بـ”الجدار الحامي” في وجه إيران.
إلّا إن للولايات المتحدة والسعودية مصلحة ثنائية راسخة في توقيع معاهدة دفاع فيما بينهما، وكذلك توقيع اتفاقية تتيح للسعوديين تطوير برنامج نووي مستقل، حتى من دون التطبيع المشار إليه. وحتى الآن، فإن ربط الاتفاقية الدفاعية السعودية الأميركية والمصادقة على التعاون في المجال النووي، بتوقيع معاهدة تطبيع مع إسرائيل، يحوّل مصلحة الدولتين إلى رهينة في قبضة الحكومة الإسرائيلية. فبحسب المخطط المطروح الآن، لن يتم توقيع اتفاقية دفاعية مع السعودية، من دون معاهدة تطبيع، مع الإشارة إلى أن المسألة النووية مرتبطة أيضاً بتوقيع هذه المعاهدة.
نشرت صحيفة الغارديان البريطانية، مساء أمس (الأربعاء؛ 1 أيار/ مايو 2024)، أن السعودية تضغط من أجل تطبيق “الخطة البديلة”. وبموجب الخطة، قامت السعودية والولايات المتحدة بصوغ رزمة اتفاقيات للتعاون الأمني والتكنولوجي، بحيث تشكل جزءاً من برنامج أوسع يشمل التطبيع مع إسرائيل. ومع ذلك، و”في ظل انعدام وقف إطلاق النار في غزة، وبسبب رفض نتنياهو العنيد إقامة دولة فلسطينية مستقلة، ونية إسرائيل شنّ هجوم على رفح، فإن السعوديين يدفعون في اتجاه التوصل إلى مخطط أكثر تواضعاً، لا تكون إسرائيل شريكة فيه”، بحسب تقرير الغارديان.
بموجب هذا المخطط، ستوقّع واشنطن والرياض اتفاقيات دفاعية ثنائية، وتساعد الولايات المتحدة السعودية في تطوير برنامج نووي مدني، بالإضافة إلى الاستفادة من التعاون التكنولوجي في مجال الذكاء الاصطناعي، وسيُعرض على إسرائيل، بعد ذلك، التطبيع مع السعودية، في مقابل موافقتها على حلّ الدولتين. لكن، بحسب المقترح السعودي البديل، فإن “استكمال المعاهدات بين السعودية والولايات المتحدة لن يكون مرتبطاً بموافقة نتنياهو (على شروط التطبيع)”.
يمكن العثور على تلميح واضح إلى احتمال حدوث انقسام بين القناتين في تصريحات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، على هامش اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي في الرياض يوم الاثنين. “في رأيي، إن العمل الذي يقوم به كلٌّ من السعودية والولايات المتحدة فيما يتعلق باتفاقياتنا، قريب جداً من الاكتمال المحتمل”. ثم أوضح تصريحه بالقول “فيما يتعلق باستكمال العمل بين واشنطن والرياض، فما كان يُعتبر نظرياً، قد أصبح فجأة، واقعياً”.
إن التوصل إلى اتفاقية دفاعية مع الولايات المتحدة هو تعبير عن تغيير جوهري في سياسات المملكة التي اختارت التعاون العسكري مع الولايات المتحدة من خلف الستار، طوال عشرات السنوات، من دون أن ترتبط باتفاقية دفاعية بصورة علنية ورسمية. بعد حرب الخليج الثانية، قامت السعودية بإخراج القوات الأميركية من أراضيها، وطالبت بإخراج القاعدة الأميركية الكبيرة فيها، وهي خطوة حولت قطر إلى مضيفة لأكبر القواعد الأميركية في الخليج، في العديد، ومنحتها قبل نحو عامين مكانة حليفة كبرى للولايات المتحدة، غير عضو في حلف الناتو.
بعد نحو عقد ونصف العقد، تدهورت العلاقات بين الدولتين، ووصلت إلى قاع غير مسبوق من الانخفاض، يتجاوز ما حدث بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، التي شارك فيها ما لا يقلّ عن 19 مواطناً سعودياً، وذلك بعد مقتل الصحافي السعودي جمال الخاشقجي في القنصلية السعودية في إستانبول في سنة 2018. بعد ذلك بعام، تلقت السعودية صفعة مدوية من الرئيس ترامب. فبعد الهجوم الصاروخي الذي استهدف المملكة في أكبر مصافي النفط التابعة لشركة أرامكو، توقعت السعودية رداً عسكرياً أميركياً ضد إيران، لكن ترامب أوضح، حينها، أنه لا يعتزم الرد لأن “تلك الهجمة كانت عليهم، وليس علينا”. وبعد ذلك، أوضح ترامب للسعوديين أنه مستعد للمساعدة في حماية المملكة، لكن في مقابل دفعها رسوماً مالية.
تولى بايدن منصبه حين كانت حملته الانتخابية مليئة بالغضب والكراهية تجاه وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان ومملكته، التي وعد بمعاملتها كدولة مصابة بالجذام. وبعد مرور نحو 18 شهراً على تولّي بايدن منصبه، اندلعت الحرب في أوكرانيا، وجلبت معها أزمة الطاقة العالمية، إلى جانب الجمود في المفاوضات بشأن تجديد المعاهدة النووية مع إيران، الأمر الذي أدى إلى إجبار بايدن على الذهاب إلى غريمه، ولي العهد السعودي، ومصافحته.
لكن حتى بعد الزيارة، لم تكن السعودية في عجلة من أمرها لتبنّي فكرة “ناتو شرق أوسطي” طُرح في عهد ترامب. واصلت الرياض في تلك الفترة تعزيز علاقاتها التجارية والعسكرية مع كلٍّ من الصين وروسيا. وظلت على الحياد فيما يتعلق بالعقوبات المفروضة على موسكو، وقبل نحو عام، منحت بكين إنجازاً سياسياً مهماً، عندما وافقت على تجديد علاقاتها مع إيران، بوساطة صينية. إن حركة السعودية المتأرجحة ما بين أميركا، حليفتها التاريخية، وبين كلٍّ من الصين وروسيا، أوضحت أن واشنطن تعمل، في سياق المعركة الاستراتيجية العالمية، قبالة الخصمَين الكبيرَين، وبالتالي لا يمكنها أن تتحمل نتائج إهمالها للشرق الأوسط عموماً، ودول الخليج خصوصاً، وعلى رأسها السعودية.
لقد أصبح الحلف الدفاعي مع المملكة، بغض النظر عن علاقته بإسرائيل، حجر زاوية ضرورياً جداً للجدار الأميركي، من شانه قطع الطريق على “المطامح الروسية والصينية إلى الوصول إلى الغرب”. قد لا ينجح مثل هذا التحالف في تجميد العلاقات التجارية المتشعبة بين الرياض من جهة، وبين بكين وموسكو من جهة ثانية، كما أنه لن يؤدي إلى قطع العلاقات مجدداً بين السعودية وإيران، لكن، على الأقل من ناحية الاحتمال، من شأن هذه الاتفاقية إخراج الصين من المعادلة الاستراتيجية الإقليمية التي تُعتبر السعودية عاملاً رئيسياً فيها.
صحيح أن هذا التحالف قد يُلزم الرياض بالتخلي عن حيّز مناورة سياسية، لكن يبدو أن هذا الثمن مقبول لدى المملكة، فهي مرتبطة أصلاً بالسلاح والتقنية الأميركيَّين. إلّا إن نطاق الالتزام يحتاج إلى تفاصيل، وسيخضع لاختبارات عديدة، من ضمنها اختبار الكونغرس الذي يجب أن يعطي موافقته على التحالف. فعلى سبيل المثال: ليس من الواضح ماهية الهجوم على السعودية الذي يستوجب تدخلاً أميركياً. هل ضربُ حرية الملاحة للسفن السعودية في الخليج العربي، أو إطلاق صواريخ من الحوثيين على الأراضي السعودية، من شأنهما تفعيل سلاح الجو الأميركي بصورة تلقائية؟ هل ستوافق السعودية على حضور عسكري أميركي مكثف على أراضيها؟ أو كيف سيتم تأمين التقنيات الأميركية التي سيجري تحويلها إلى السعودية؟
ما سبق ليس سوى أمثلة لمسائل صعبة، ربما تم العثور على إجابات عنها في المناقشات التي تحدّث عنها بلينكن في تصريحه المشار إليه أعلاه، لكن في هذا السياق، تبقى مهمة إقناع الكونغرس بالأمر. تتشابك في نسيج هذه القضايا، الآن، مسألة التطبيع مع إسرائيل، التي كان يبدو حتى تاريخ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، أنها لن تشكل حجر عثرة، إذ إن السعودية لم تطالب، آنذاك، في مقابل التطبيع، سوى بتنفيذ إجراءات “تحسّن ظروف حياة الفلسطينيين”. لكن منذ ذلك الحين، أضافت السعودية هدفاً يُعتبر غير مقبول من إسرائيل، وصارت السعودية تطالب بإجراءات لا رجعة فيها، تحضيراً لإقامة دولة فلسطينية.
لا تقدم السعودية، على الأقل علناً، تفاصيل لهذه الخطوات. لكن يبدو أن القصد هو اعتراف مجلس الأمن بدولة فلسطينية، وهو المطلب الذي تعارضه الإدارة الأميركية في الوقت الحاضر، بل إنها اعترضت على اقتراح مماثل في شهر نيسان/ أبريل الماضي. لكن في نهاية المطاف، سيتعين على الولايات المتحدة تحديد مصلحتها الاستراتيجية الحيوية، وبصورة خاصة عندما تتعامل إسرائيل مع مسألة التطبيع مع السعودية على أنها حقل ألغام لا تريد المرور فيه بسبب التكلفة السياسية المترتبة على ذلك.
المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية