نجيبة بن حسين *
هناك من يعتقد أنّ من السابق لأوانه الحديث عن المطالبةِ بالاعترافِ بوجودِ دولةٍ فلسطينية على مستوى المشهد السياسي الدولي استحقاقاً مبدئياً في العلاقات الدولية، فقد يذهب إلى ظنِّ كثيرين أنّ هذا الأمر غير واقعي، ومُجانب للمنطق، خصوصًا، أنّ الشعب الفلسطيني يتعرّض، منذ النكبة في 1948، لأخطر مؤامرة تَهدف إلى إبادته وتهجيره وتصفية قضيته العادلة، فلنوقف هذا النزيف المتدفق من الدم والقمع والتنكيل والتجويع والتشريد، ولنضع حدًّا للعدوان المدمِّر لغزّة قبل الخوض في محطّاتٍ نضاليةٍ أخرى؟
لعلّ هذا لسان حال أغلب المهتمين بالشأن الفلسطيني وبتداعياته الخطيرة، لكن المتمعّن في القضية الأم، قضية العرب جميعًا، أنظمةً وشعوبًا، سيُدرك أنّ الذات الاعتبارية للدولة وقابليتها في أن تكون ممثلة للشعب، ومدافعةً عن مصالحه، لدى الدول، ولدى المنظمات الدولية الإقليمية والعالمية أمر على غايةِ الأهمية، ومصدرُ إحراجٍ لا مثيل له للكيان المحتل الذي يعمل بكلّ ما أُوتي من قوةِ السلاح والدعاية لمحقِ كلِّ وجودٍ فلسطيني وحصره في أقليةٍ عرقيةٍ أو دينيةٍ يتم تطويعها وتدجينها في صلبِ الدولة الصهيونية القائمة على الفصل العنصري والتهويد الشامل للهُويّة، ولكلِّ المعالم التاريخية والدينية والإنسانية.
يستدعي هذا الموضوع البحث في الأوجه الممكنة لتكوين دولةٍ فلسطينية تتحدّى كلّ الاعتراضات والعراقيل التي تضعها إسرائيل وحلفاؤها الذين يجهرون علنًا بضرورة تكوين دولة فلسطينية، ويتهافتون سرّاً على تعطيل قيامها والمماطلة في توفير الظروف الملائمة والمُهيِّئة لولادتها، ومن العوامل المُحفّزة إلى وجودِ الدول وتكوّنها هو الاعتراف بها من الدول الأخرى والمنظّمات الدولية، ومختلف الفاعلين الدوليين، فالاعتراف فعلٌ أحادي اختياري يخضع للسلطة التقديرية للدول، فلها مطلق الحرية في تقدير الظروف والأحوال التي أدّت إلى نشوءِ الدولة الجديدة لتحدّد موقفها منها، إمّا بالرفض وإما بالاعتراف. ولهذا الاعتراف آثار قانونية مهمة، إذ يترتب عنه اعتراف بالشخصية القانونية للدولة المعترف بها ويضبط تصرّفات الدولة المعتَرِفة نحوها، إذ يجب عليها التصرّف وفقًا لما يقتضيه القانون الدولي من محدّدات وضوابط تحكم العلاقات بين الدول. كما أنّ وجود الدولة يقتضي توفّر شروط واقعية وقانونية تتمثل في قيامها على ثلاثةِ أركان: الشعب والإقليم وسلطة سياسية ذات سيادة مكتملة وحصرية تمارس على هذا الإقليم وهذا الشعب، كما يمكن أن تتأسّس الدولة غير مكتملة السيادة في مرحلة أولى عبر الاعتراف المكثّف بها من الدول الأخرى، ومن الفاعلين الدوليين فيكون للاعتراف أثر تأسيسي يتجاوز مجرّد إعلان موقف ما، كما هو الواقع في الحالةِ الفلسطينية، حيث يتبيّن أنّه لا وجود لسيادةٍ كاملةٍ للدولة على أراضيها وشعبها، وذلك بمفعول الاحتلال وهيمنته عليهما.
ومن ثم، يمكن للاعتراف القانوني المجرّد بوصفه فعلاً دولياً أحادياً واختيارياً أن يولِّد تدريجيًّا حالةً واقعية عبر تفعيل آليات الضغط الدولي لتجسيد الشرعية الدولية والوجود القانوني المكتمل على أرضِ الواقع. وتعدّ هذه الفرضية الأقرب إلى الواقعية في الحال الفلسطينية، باعتبار أنّ جوهر الإشكال يتعلّق بتغيير الواقع الدولي وموازين القوى، أكثر منه بانتزاعِ اعترافٍ دولي أو تأسيسٍ لشرعيةٍ دولية، فللدولة الفلسطينية وجود قانوني لا جدال فيه في القانون الدولي، إذْ يرتكز على المقرّرات الصادرة عن الأمم المتحدة، إلى جانب الآراء والقرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية التي تقرّ بوجود فعل الاحتلال، ومن ثم، تؤسّس لحقّ الشعب الفلسطيني في التحرّر، وتقرير المصير، وتكوين دولة مستقلة كما يقرّه ميثاق الأمم المتحدة، وإن اختلفنا بشأنِ حدود هذه الدولة والأراضي التي تمتدُّ عليها، وإمكانية تأسيسها فعليًّا وفقًا للمنظورِ الدولي، فإنّ هذا الأمر لا يُفسد الوجود القانوني، ويبقى محلّ نظر وتدقيق دوليين، ورهينًا لموازين القوى الآنية والمستقبلية، خصوصاً قدرة المقاومة على المضي في استبسالها ونضالها من أجل استرداد جميع الحقوق الفلسطينية وتحشيد المناصرين لها في مختلفِ أنحاء العالم. ذلك أنّ تكوين دولة فلسطينية يُواجه إكراهات عدّة، تتمثل في التعنّت والرفض الإسرائيليين اللذين أفشلا مسار اتفاقيات أوسلو المبرمة سنة 1993، وأجهزا عليها نهائيًّا.
ولم يعدْ حلّ الدولتين يمثل موضوعًا للتفاوض وفقًا لمنظورِ دولة الاحتلال، وقد بدا ذلك واضحًا عبر تصريحات قادة الكيان الصهيوني، وعبر سياسات طمس القضية الفلسطينية، وعبر آلة العدوان المدمّرة للوجود الفلسطيني، كما أنّ تعثّر المصالحة الفلسطينية الوطنية الشاملة، وتشتّت جهود توحيد الصفوف لكلّ القوى الفاعلة، مثّلا عائقًا أساسيًّا حال دون تقديم رؤيةٍ موحّدةٍ للدولة الفلسطينية المرتقبة، في ما يتعلّق بنظام الحكم والأطراف المشاركة فيه والامتداد الجغرافي والبشري لهذه الدولة، وطبيعة العلاقة التي ستربطها بدولةِ الاحتلال، بالإضافة إلى أنّ التآكل والانحسار المتعاظم والممنهج للأراضي الفلسطينية بفعل مشروع التوسّع الاستيطاني الصهيوني وسياسات التهجير القسري والتشريد والاستيلاء على الأراضي يطرح موضوعًا على غاية الأهمية، يتمثل في الآليات، الدولية والداخلية، المعتمدَة مستقبلًا لاسترداد هذه الأراضي المسلوبة وضمّها إلى الدولة الفلسطينية ومدى فاعلية هذه الآليات وإمكانية تطبيقها وإخضاع الكيان المحتل للتفاوض بجدّية حولها. إلى جانب التحدّيات المتعلّقة بطرح حق العودة للاجئين الفلسطينيين مبدأً ثابتاً لإقامة الدولة الفلسطينية، لا تنازل عنه، ولا مقايضة فيه.
وفي ما يتعلّق بحلفاء إسرائيل من الغرب والعرب، تخفي مجاهرتهم بضرورةِ حلّ الدولتين لإحلالِ السلم في المنطقة، نيّتهم الخفية في إفشال كلّ المساعي السياسية والدبلوماسية لتنزيلها على أرض الواقع، فما دام الكيان الصهيوني في كينونته الحالية يخدم مصالح الغرب الاستراتيجية ويحافظ على عروشِ الحكّام العرب المطبّعين ومصالحهم الشخصية والآنية، فلا جدال في رغبتهم في بقاءِ الحال على ما هو عليه، بل في مزيدٍ من معاضدة الكيان الصهيوني لبسطِ هيمنته على كلِّ الأراضي الفلسطينية عبر قوّة السلاح، وعبر سياسات الاستيطان والاضطهاد والتهجير، وعبر الإمعان في تطويع السلطة الفلسطينية القائمة في الضفة الغربية وتركيعها وجعلها نموذجا يُحتذى به مستقبلًا في قطاع غزّة والقدس المحتلة. وقد كانت الولايات المتحدة سبّاقة كعادتها لترسيخ هذه السياسات، إذ عبّرت صراحةً عن نيّتها استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن للتصويت ضدّ منحِ عضوية كاملة لدولة فلسطين في منظمة الأمم المتحدة، بل اعتبرت أنّ هذا القرار لن يساعد في تحقيق حلِّ الدولتين، وفي إنهاءِ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وبرّرت موقفها المخادع والمماطل، بأنّ إقامة دولة فلسطينية مستقلة يجب أن يتم عبر المفاوضات المباشرة، لا صلب الأمم المتحدة، بل ذهبت في غيّها عبر الضغط سرًّا على بعض الدول للتصويت ضدَّ عضوية فلسطين في الأمم المتحدة، وقد تمَّ تحديد موعد 18 إبريل/ نيسان 2024 لنظر مجلس الأمن في إصدار توصية لانضمام دولة فلسطين إلى الأمم المتحدة، على إثر تجديد الطلب الذي تقدّمت به السلطة الفلسطينية منذ سبتمبر/ أيلول 2011، ولم يفض هذا المطلب آنذاك إلا إلى الاعتراف لفلسطين في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 بوضع دولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة.
وفي هذا السياق، تقدّمت الجزائر مجدّدًا بمشروعِ قرارٍ إلى مجلس الأمن يرمي إلى الاعتراف بعضويةٍ كاملةٍ لدولةِ فلسطين في الأمم المتحدة، ودعمته مجموعة الدول العربية في الأمم المتحدة التي دعت مجلس الأمن إلى التصويت لمصلحة مشروع القرار الذي قدّمته الجزائر باسم هذه المجموعة، وناشدت المجلس عدم عرقلة هذه المبادرة الأساسية، كما أيّدت السلطة الفلسطينية شرعية مطلبها بأنّ 137 دولة من أصل 193 من الدول الأعضاء في منظّمة الأمم المتحدة اعترفت بدولة فلسطين. وفي هذا السياق، ذهب رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، إلى أبعد من ذلك، حين اعتبر أنّ الاعتراف بدولةٍ فلسطينية سيمثّل مصلحة جيوسياسية للقارّة، إلا أنّ هذا الاعتراف الدولي المكثّف، وغير المسبوق لن يحول دون استخدام حق الفيتو من الولايات المتحدة لتعطيلِ التوصية بقبولِ عضويةِ فلسطين، فقبول عضوية أيّ دولة في الأمم المتحدة يقتضي قرارًا من الجمعية العامة بناءً على توصيةٍ إيجابيةٍ من مجلس الأمن، حيث ينصُّ الفصل الرابع من ميثاق الأمم المتحدة أنّ العضوية في هذه المنظمة مُتاحة لجميع الدول المحبّة للسلام والملتزمة بقواعد هذا الميثاق ومبادئه والقادرة على ذلك، والراغبة في تنفيذه، وقبول العضوية يتم بقرارٍ من الجمعية العامة بناءً على توصية من مجلس الأمن.
تدرك السلطة الفلسطينية، وكذا الداعمون لقيامِ الدولة الفلسطينية، أنّ هذه اللحظة التاريخية في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هي أكثر اللحظات السانحة التي يجب اقتناصها لافتكاك اعتراف دولي بدولةٍ فلسطينية، عبر توظيف الزخم الدولي المناهض لجرائم الإبادة الجماعية في حقّ غزّة، والاصطفاف الشعبي العالمي، والمناصرة المطّردة للقضية الفلسطينية التي عادت إلى أجندة الأوليات الدولية، باعتبارها من أمّهات القضايا الإنسانية العادلة والمصيرية في التاريخ المعاصر للبشرية، لأنّها تحتكم إلى الضمير الإنساني، وإلى قواعدِ الإنصاف والمثل العليا أكثر من احتكامها إلى القانون الدولي ومؤسّساته الذي أثبتت الوقائع قصوره وارتهانه للقوى العظمى، فهل من العدل الاعتراف بدولةٍ إسرائيليةٍ، مندسّةٍ ومنبتّةٍ عن المنطقة، وذات مشروع عنصري استيطاني منذ 1948، وغير “محبّة للسلام”، وتجاهل الاعتراف بدولة فلسطينية ممتدّة جذورها في التاريخ وعلى الأرض، تكبّد شعبها الاحتلال والاضطهاد والقمع وسلب الحق في الحرية وتقرير المصير منذ عقود. وتدفعنا هذه المفارقة إلى التساؤل بشأن مبرّرات عدم المطالبة باعترافٍ أممي بعضويةٍ كاملةٍ لدولةِ فلسطين منذ صدور قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 يقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية، ويعترف بحكومة فلسطين المستقلة، بل يعتبر مجلس الأمن في النقطة “ج” من القرار كلّ محاولة لتغيير التسوية التي ينطوي عليها القرار بالقوة تهديدًا للسلام أو خرقًا له أو عملًا عدوانيًّا، عملًا بالمادة 39 من ميثاق الأمم المتحدة، الأمر الذي يبيّن أنّ قرار التقسيم مُلزم لكلّ الأطراف الدولية، ويشكّل النكوص عنه تهديدًا للأمن والسلم الدوليين، يستدعي تفعيل البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
وقد نسلّم جدلًا بالسهو عن إثارةِ هذا المطلب أو عدم واقعية المطالبة به في تلك الحقبة، رغم أنّ الواقع يُثبت خلاف ذلك، لأنّ موجات التحرّر المعادية للاستعمار والمطالبة بحقّ الشعوب في تقرير مصيرها كانت في أشدِّ عنفوانها وتأثيرها بعد الحرب العالمية الثانية، كما نستغرب من عدم إثارة الموضوع مجدّدًا إثر قرار مجلس الأمن عدد 242 الذي صدر إثر الحرب العربية الإسرائيلية لسنة 1967، وهو قرار يدعو الكيان الصهيوني إلى الانسحاب من الأراضي التي احتلها إبّان هذا النزاع، ويعترف بسيادة كلّ دولة في المنطقة ووحدتها واستقلالها السياسي، وحقها في العيش بسلامٍ ضمن حدود آمنة، ومعترف بها، وحرّة من التهديد وأعمال القوّة. لم يثر هذا المطلب أيضًا إثر حرب أكتوبر (1973)، ولم تتم المطالبة بالاعتراف بدولةٍ فلسطينيةٍ إلّا سنة 1988 من منظمة التحرير الفلسطينية التي أعلنت الاستقلال، واستندت في ذلك إلى قراري مجلس الأمن 242 و338 الذي يدعو جميع الأطراف المتنازعة إلى وقف إطلاق النار إثر حرب 1973، ولم تطالب السلطة الفلسطينية رسميًّا بقبولِ عضوية فلسطين في الأمم المتحدة إلّا سنة 2011، أي بعد مضي ما يقارب 18 سنة من توقيع اتفاقيات أوسلو التي أقرّت سنة 1993إقامة سلطة حكم ذاتي انتقالي فلسطينية لفترة انتقالية لا تتجاوز الخمس سنوات، يُفترض أن تؤدّي إلى تسويةٍ دائمة، أي إلى إقامةِ دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلة بناءً على قراري الأمم المتحدة 242 و338.
كلّ هذه الإرهاصات التي تُحيط بالمطالبة بعضويةٍ كاملةٍ للدولةِ الفلسطينية في الأمم المتحدة لا تنفصل في الواقع عن المسارين النزاعي والتفاوضي بين السلطة الفلسطينية والكيان المحتل. ولا يمكن عدّها من قبيل المناورات السياسية، بل هي استحقاق فلسطيني يُعدّ تتويجاً لنضالٍ مريرٍ استمرّ عقوداً طوالاً، ومضنية للشعب الفلسطيني، فكسب معركة العضوية في الأمم المتحدة يمثل انتصارًا معنويًّا لهذا الشعب ولحقوقه الوطنية المشروعة، رغم أنّ تبعاته الواقعية على مستوى استكمال استيفاء أركان الدولة، والتمتّع بالسيادة الكاملة تبقى محدودة ورهينة السياقات الداخلية والدولية العسكرية والدبلوماسية والجيواستراتيجية، كما أنّ للاعتراف بعضوية كاملة للدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة آثاراً قانونية هامة، إذ يفترض نظريًّا استكمال جماعة سياسية ما لشروط وجود الدولة التي يتطلبها القانون الدولي، واعتبارها تبعًا لذلك مكوّنًا للمجتمع الدولي. وتتمتّع الدولة، من ثم، بحقوق الدول الأعضاء، وتضطلع بالواجبات والالتزامات التي تقع على عاتقهم، وتُعامل على قدمِ المساواة مع بقية الدول، عملًا بمبدأ المساواة في السيادة الذي أقرّه ميثاق الأمم المتحدة. وتتمتع بتمثيليةٍ قارّة ودائمة صلب هياكل المنظمة ومؤسّساتها. ويترتب عن ذلك أيضًا، الاعتراف للدولة بالشخصية القانونية الدولية التي تخوّل لها إبرام اتفاقيات مع بقية الدول، والانضمام إلى المنظمات الدولية والتقاضي أمام المحاكم الدولية، وغيرها من السلطات المترتبة عن هذه الشخصية. والأهم من هذا كلّه أن تكون هناك دولة فلسطينية عضوٌ قارٌّ في المنظمة الأممية، لها صوت يخوّل لها التصويت والمشاركة الفعالة في كلِّ المقرّرات والأعمال الدولية. وتتواجه بندّيةٍ مع الدولة الصهيونية وتُماثلها دوليًّا بالحقوق والالتزامات، وتُطالبها بالامتثال لمقاصد المنظمة ومبادئها، ومن أهمها المساواة بين الدول وحقّ الشعوب في تقرير المصير والامتناع عن التدخّل في شؤون الدول الأخرى أو انتهاك سيادتها والحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. ومن المرجّح أيضاً أن يتغيّر الخطاب الدولي تجاه القضية الفلسطينية بمفعول الاعتراف بعضوية الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، لأنّ مجرّد وجودها داخل المنتدى الأممي، يشكّل إحراجًا للمجتمع الدولي وتحميلًا له لمسؤولية إيجاد تسويةٍ عادلةٍ وسلميةٍ ودائمةٍ للقضية الفلسطينية. فقد كان يُفترض بهذا المجتمع الدولي أن يطالب بفصل دولة الاحتلال عن الأمم المتحدة، عملًا بمقتضيات البند السادس من ميثاق الأمم المتحدة، أنه “إذا أمعن عضو من أعضاء الأمم المتحدة في انتهاك مبادئ الميثاق جاز للجمعية العامة أن تفصله من الهيئة، بناء على توصية مجلس الأمن”، فمكان دولة محتلة عنصرية ونازية لا يمكن أن يكون في منظمة أممية تدعو إلى السلام والعدالة والأمن واحترام حقوق الإنسان، وتدافع عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها.
لذلك، سيؤدّي تعطيل الولايات المتحدة إقرار التوصية بشأن قبول عضوية فلسطين في الأمم المتحدة حتمًا إلى تضخّم عزلتها الدولية، سيّما أنّ جلسة مجلس الأمن، يوم 18 إبريل/ نيسان الحالي، أظهرت تعاطفًا كبيرًا مع القضية الفلسطينية ودعوة متنامية من أغلب الدول إلى القبول بالعضوية، وصوّت 12 عضوًا لمصلحة القرار، وامتنعت سويسرا وبريطانيا عن التصويت مقابل فيتو أميركي مجحف، أضحى يستوحش طريقه وسط شبه إجماعٍ دولي. وما شدّ الانتباه في الجلسة هو الخطاب العدواني العنيف والمتوتّر لممثل دولة الكيان الصهيوني الذي اتَّهم المنظمة الأممية بدعمها الإرهاب، واستكثر على غزّة الاهتمام الدولي بها، وبما يُرتكب فيها من مجازر. واتهم وزير خارجية إيران الحاضر معه في الجلسة بالإرهابي، وحاول تحجيم دور مجلس الأمن وتشويهه واتهامه بازدواجية المعايير. هذا الخطاب، على صلفه وعنجهيته وخروجه على المألوف في الأعراف الدولية، يعبّر عن تهالكٍ وارتباكٍ كبيرين للكيان الصهيوني، وينم عن إحساسه بالخطر الذي يُحدق بوجوده، ما جعله يتحوّل إلى دور المهاجم المهزوز الذي فشل في الاستحواذ على أدواتِ خصمه في الدفاع عن نفسه، لأنّها لا تليق بجلاد متوحّش مثله.
والمرجّح أنّ مطلب قبول عضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة سيتم إعادة تقديمه مجدّدًا ليطرح على طاولةِ مجلس الأمن مرّات كثيرة، ولن يكون في وسع الولايات المتحدة أن تتمسّك بالفيتو إلى ما لا نهاية، لأنّها ستجد نفسها في تناقضٍ مريبٍ مع ما تصرّح به من دعمٍ لحلّ الدولتين، وفي عزلةٍ دوليةٍ لا مثيل لها في تاريخها، نتيجةَ انحيازها غير المشروط إلى الكيان الصهيوني، وإنكارها المتعمّد للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
* أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية
المصدر: العربي الجديد