سهيل كيوان *
أثار تساؤل أطلقه الكاتب والناقد الدكتور “عادل الأسطة” الأكاديمي المحاضر السابق في جامعة النجاح في نابلس، موجة من ردود الفعل، تراوحت بين التأييد والرّفض والغضب، بعد تساؤله على صفحته في وسائل التواصل الاجتماعي، أين موقف الكتاب الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 1948 وكتب «لو توفيق زياد على قيد الحياة لما صمت، والصمت شبه المطبق إزاء ما يجري في غزة هو ما يبدو لدى كتاب فلسطين 1948، فلا حسّ ولا كلمة كأنهم اختفوا وصارت مدنهم وقراهم خالية منهم مثل، خلو مدينة النّحاس في ألف ليلة وليلة من الناس وهذه المرة الكتاب».
وقارن ‘الأسطة’ بين مواقف شعراء المقاومة عام 1967 بعد النكسة، وفي الانتفاضة الأولى عام 1987، ثم تساءل كم عدد الكتاب والشّعراء من منطقة الـ48 الذين اعتقلتهم إسرائيل منذ بداية الحرب على قطاع غزة! تساؤل مشروع، عن دور عرب 48 في مُجملهم من سياسيين وكتاب ومواطنين، وليس كتاباً وشعراء فقط، وهو تساؤل لا يمكن الرّد عليه من غير وقفة تأمّل حقيقية وعميقة، ومن غير تحفّز وعواطفية
يجب أن نعرف أوّلاً أنّ تعاطف الناس في منطقة 48 مع سكان قطاع غزة مثل بقية أبناء شعبهم، هو تعاطف شامل وكامل وشعور بالتقصير والعجز والذهول، أمام ما يجري من جرائم إبادة وحقد لم يتوقعوه بهذه الدرجة وهذه الصورة، دون إغفال لاستثناءات قليلة من أولئك تتعمد السُّلطات تضخيمهم بصورة مفتعلة ومقصودة، مثل ذلك الشّيخ البدوي الذي أقام وليمة لوزير الحرب بيني غانتس في رمضان، والذي عكس صورة زائفة لموقف البدو العام في النقب وفي الشّمال كذلك، بينما في الحقيقة يتعرّض عشرات الآلاف من البدو إلى التهجير والاقتلاع والاضطهاد القومي، وحتى أكثر من بقية أبناء شعبهم، وموقف هذا الشّيخ لا يمثل إلا قلة قليلة من حوله. أصدرت لجنة المتابعة لشؤون الجماهير العربية، التي تمثل الأحزاب والحركات السّياسية عدة بيانات تطالب بوقف العدوان على شعبنا الفلسطيني ووقف الإبادة الجماعية وسياسة التهجير، وبادرت لإقامة مظاهرتين شعبيتين وعدد من الوقفات الاحتجاجية، وإن كان هذا ليس كافياً ولكن لا يصح تجاهله. التّصعيد متعلّق إلى حدٍ كبير بسلطة الاحتلال والمستوطنين، وهذا في كل المناطق ويصل حتى إيران وحزب الله في لبنان، فإذا صعّد الاحتلال في منطقة ما، جاء الرّد عليه بالتصعيد، وإذا انخفض التصعيد من جانب الاحتلال انخفض التصعيد في المقابل، وبما أنّ سياسة الاحتلال هي الحرص على عدم فتح جبهات متعدّدة في الآن ذاته، فما زال تعاملها أقل عنفاً مع عرب 48، كي لا تجرّهم مرغمين على المواجهة، كما يجري في الضفة الغربية، خصوصاً في المخيمات. وزير الأمن الداخلي الفاشي بن غفير دعا لتسليح مئات الآلاف من اليهود المدنيين، حتى صار طلاب الجامعات يظهرون في حرمات الجامعات وهم مسلّحون، وطبعا في الشوارع والمقاهي، وبمعنى آخر فالتغطية القانونية جاهزة لمن يستعمل السّلاح ضد العرب العُزّل، بحجة الشّعور بالخطر، وهذا مصدر ترهيب بلا شك، وكلنا نعرف الكذب وتزييف الحقائق الذي تمارسه سلطات الاحتلال التي تقتل بحجّة حيازة الضّحية لسكّين في جيبه.
منذ بداية الحرب استدعت الجهات الأمنية وأحالت للاعتقال عدداً لا يستهان به من المواطنين للتحقيق بتهمة تأييد الإرهاب وحتى الانضمام إلى منظمات إرهابية، بسبب (لايك) وضعوه على منشور مؤيّد للمقاومة، أو كتابة غير مباشرة، مثلما كتبت الفنانة “دلال أبو آمنة” «لا غالب إلا الله» وهذا أدى إلى تحريض دولة كاملة ضدها، وإقامة تظاهرات من المتطرّفين أمام بيتها وتهديدها بالقتل، إضافة إلى اعتقال وطرد الأستاذة الجامعية “نادرة شلهوب كورفكيان” من الجامعة العبرية، بسبب موقفها الرافض للإبادة الجماعية الجارية في قطاع غزّة، وما يسمُّونه عدم اعترافها بالمذبحة في السّابع من أكتوبر، في تزييف صارخ لموقفها الإنساني الرّافض لقتل المدنيين من الطرفين. حُكِمَ على بعض المواطنين والمواطنات بالسّجن وبعضهم أوقف إداريا، وأطلق سراح بعضهم في اتفاقية الهدنة وتبادل الأسرى التي جرت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. والبعض ما زال موقوفاً ومحكوماً بالسجن الفعلي. تعرّض مئات الطلاب والعمال والموظفين في مختلف القطاعات إلى ضغوطات ومضايقات وإبعاد وتهديد حتى بسحب الجنسية من المتورّطين في ما يسمى «التماثل مع الإرهاب».
تعتبر المناطق التي يعيش فيها عرب 48 خاضعة قانونيا لدولة إسرائيل، ويحمل مواطنوها جوازات سفر إسرائيلية، ويمارس من يشاء منهم حقّه في الانتخابات العامة، وهذا عنصر حاسم جدا، وإذا كانت دول العالم، بما في ذلك الدّول العربية عاجزة عن تحقيق الشّرعية الدولية في المناطق المحتلة عام 1967 المُعْترَف بحق سكّانها في مقاومة الاحتلال، فإن علاقة السُّلطات بعرب الـ48 تعتبر حسب القانون الدولي شأناً داخليا إسرائيليا، وهذا يجعل نضال جماهير الـ48 أكثر تعقيدا وحساسية وميدانا للاجتهادات وللمزايدات والمناقصات، بعضها يرى أن الحلّ الشامل يكمن في الدولة الديمقراطية الواحدة للشعبين من البحر إلى النهر، وهذا يعني طيّ صفحة حل الدولتين المطروح عربياً ودولياً، وهنالك طرح التمسّك بحلول الشرعية الدولية، كي لا نخسر الحلّين، وكلاهما مرفوض بقوة في جانب إسرائيل المدعومة أمريكياً. المجتمع الإسرائيلي متّجه إلى اليمين المتطرّف، وعموماً فقد اختفى اليسار، حتى بات أقلية هامشية بما في ذلك حزب العمل. عملية السّابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 التي نفذّتها حركة حماس، غير مسبوقة منذ قيام دولة إسرائيل، فقد دخل المقاتلون الفلسطينيون (وتبعهم مدنيون) المستوطنات داخل مناطق 48 لأول مرّة منذ تأسيس دولة إسرائيل، ولأول مرّة يؤسر ويُقتل هذا العدد الكبير من الجنود والمدنيين الإسرائيليين خلال بضع ساعات، وهذا غير مسبوق في تاريخ الصراع، حتى في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 التي استمرّت ثمانية عشر يوماً فقط بين جيوش كبيرة نظامية. أسر مدنيين إسرائيليين ومقتل مئات منهم خلال ساعات من الهجوم، مع ما رافق ذلك من قصف للمروحيات الإسرائيلية للرهائن ومحتجزيهم، وحملة التحريض والترهيب التي قادها نتنياهو وضعت أمام المجتمع الإسرائيلي صورة مفزعة لما جرى ولما يمكن أن يجري خلال ساعات أو أيام، ورأى فيها كثيرون حرباً وجودية، «إما نحنُ أو هم»، الأمر الذي وحّد جميع القوى السياسية من الحائط إلى الحائط ضد الفلسطينيين. عملت السُّلطات على إسكات الرهائن اليهود الذين أطلق سراحهم في صفقة التبادل بسبب تصريحاتهم عن معاملة المقاومة الحسنة لهم أثناء الأسر. قمعت السُّلطات بعنف مظاهرات أهالي الأسرى اليهود المطالبين بصفقة تبادل، رغم أن مطلبهم واضح وبسيط، وكلهم خادم في الجيش وقوى الأمن، وبناء على هذا نستطيع التخيّل كيف سيعامل عرب 48 إذا ما انتفضوا، كما فعلوا عام 2021 خلال هبّة الكرامة، في بعض المدن المختلطة، أثناء حملة (حارس الجدران) سيف القدس، على قطاع غزة. هذا يعني توسيع رقعة المذابح من قطاع غزة إلى الضفة الغربية ثم إلى الداخل، بحجّة «نكون أو لا نكون» التي يتمسك بها نتنياهو.
موقف المثقفين والكتاب والشُّعراء العرب في منطقة 48 متفاوت، وهو محكوم عموماً بالقلق والخوف من التعبير عما يشعرون به، ولا أبرّر للصامتين موقفهم وخوفهم، ولكن عندما نقول مثقف أو كاتب، فنحن نعرف أن هنالك تفاوتا في وعي هذا الكاتب أو ذاك لدوره، ويختلف تصوّره لذاته ولدوره في مجتمعه وفي قضايا شعبه، هناك فارق في الاستعداد لدفع ثمن موقف ما بين كاتب وآخر، وخصوصا أن هناك كتابا وشعراء تحكمهم أيديولوجيات معيّنة، وبعضهم ينسّق ويستقي موقفه من مثقفين في رام الله معادين لحركة حماس ويتهمونها علنا بالتسبب بدمار قطاع غزة، ولن أخوض أكثر في هذا.
أما بالنسبة للمقارنة بين شعراء وكتّاب هزيمة حزيران/ يونيو فقد كانت إسرائيل في نشوة نصرها، وأقدام جنودها على حافة قناة السّويس وفوق قمة جبل الشّيخ مروراً بالقدس، بينما الآن واجهت وما زالت تواجه حرباً حقيقية وضربة مؤلمة حوّلت القيادات العسكرية والمدنية إلى وحوش جريحة، وأشعرتها بأن الخطر الوجودي حقيقي، وليس حرباً نفسية فقط، وما كان في يوم ما من قصص الخيال الشّرقي الجامح، تحوّل في لحظات إلى واقع ملموس، وهذا وضع الجميع في حالة من الصدمة وعدم استيعاب لما حدث وما قد يحدث وإلى أين تمضي الأمور، وقد عبر أكثرية الكتاب والشعراء من منطقة 48 عن تضامنهم وتعاطفهم الصادق واصطفوا إلى جانب شعبهم، من خلال كتاباتهم، إضافة إلى عددٍ كبير ممن يؤثرون الصمت بالفعل، وهذا لا أبرّره لهم، خصوصاً أنّ الحرب ليست ضد حركة أو فصيل فلسطيني فقط، بل هي حرب إبادة وتهجير وتدمير مبيّتة، اتخذت من هجمة السّابع من أكتوبر ذريعة لتنفيذ مخطّط قديم، يدخل ضمن رؤية الحلّ النهائي للقضية، كما يتصوّره غلاة المتطرفين في دولة الاحتلال بقيادة نتنياهو وزمرة الفاشيين من حوله.
* كاتب فلسطيني
المصدر: القدس العربي