سمير العيطة *
أدّت أحداث العالم المتعدد الأقطاب الأخيرة، وفي طليعتها العدوان الإسرائيلي، والغربي عموماً، على فلسطين إلى إسقاط كثير من الأقنعة حول قيم أساسيّة والشعارات المُهيمنة خلفها. لقد سقط قناع شعار «الدفاع عن حقوق الإنسان» بالنسبة لسلطات دول استخدمت حقّ النقض في مجلس الأمن ضدّ قرارٍ يطالب بوقف الإبادة الجماعيّة في فلسطين، كما لسلطات أخرى اختبأت وراء الـ«فيتو» الأمريكي، والأمر نفسه بالنسبة لسلطات تكيل بمكيالين حسب مصالحها. وسقط قناع «معاداة السامية» على خلفيّة الاستخدام الموارب لتلك المقولة وإخراجها من سياقها التاريخي الأوروبي، والقول أنّ ما حدث فى 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي يماثل «المحرقة اليهوديّة» التي ارتكبها النازيّون الألمان، وأنّ أي انتقاد أو احتجاج حيال الإبادة الجماعيّة في غزّة يشكّلان معاداة للسامية.
كما سقط قناع «حريّة الرأي والتظاهر» كأساس «للديموقراطية الغربية» عبر قمع الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الغربية المطالبة بوقف العدوان والقتل. وسقط قناع أن مقولة «حضارة غربية» تقوم على قيم إنسانية وعبر إقرار الكونجرس الأمريكي منح 26 ملياراً من الأسلحة والذخائر إلى إسرائيل في الوقت ذاته الذي يهدّد به جيشها باجتياح رفح، بينما يتبجح بنيامين نتنياهو أن سياساته تتموضع في صلب الدفاع عن هذه «الحضارة الغربية». وأيضاً سقط قناع «احترام سيادة الدول» مع صمت نفس الدول التي تدّعي التمسّك بمبادئ الأمم المتحدة عن الانتهاكات اليومية لسيادة لبنان وسوريا وغيرهما ومع الفيتو الأمريكي على قبول دولة فلسطين عضواً كاملاً في هيئة الأمم، بينما تدّعي الولايات المتحدة أنها تدعم حل الدولتين.
* * *
أول المصدومين جدّا من هذا السقوط الفاضح للقيم والمفاهيم هم أساتذة وطلاب الجامعات الغربيّة، قبل غيرهم. لقد ظهر جليّاً أنّ أسس ما يعلّمونه وما يتلقّونه من تعليم، ليست سوى مفاهيم لا يلتزم بها حكّام دولهم وقوّات الأمن عندهم، حيالهم في الداخل كما حيال الدول الأخرى الأكثر ضعفاً. هكذا بات المشهد يشبه سنين القرن التاسع عشر حين تمّ إطلاق إعلان حقوق الإنسان والمواطنة في فرنسا بالتلازم مع أكبر هجمة استعماريّة في تاريخ البشريّة منذ اجتياحات جحافل السهوب المغولية. وللتذكير من النادر أن قادة الفكر والرأي في الغرب قد تجرأوا على مواجهة هذه الصلافة في إطلاق مبادئ إنسانية بالتزامن مع دعم الوحشيّة بكامل بشاعتها.
ليس واضحاً أين ستأخذ الاحتجاجات الطلابية والجامعية، وما مدى صدمة الوعي التي أطلقتها؟ خاصة وأن الحكومات التي أبرزت هذه الصلافة والتلاعب بالقيم، ليست حكومات اليمين المتطرف، بل تلك التي تدعي أنها تقوم على أسس «ديموقراطية وليبرالية». وربما يُمكِن هنا العودة إلى أن أكثر الحكومات الغربية شراسةً وإيغالاً في منطق الاستعمار، كانت تلك التي تقوم على أحزاب تدعي «الاشتراكية»، على غرار الحكومة الاشتراكية الفرنسية التي دفعت بحروب فيتنام والجزائر والعدوان الثلاثي على مصر، دون أي رادع قيمي.. «اشتراكي». كما يُمكِن مقارنة سقوط قيم «الديموقراطية» و«الليبرالية» اليوم بسقوط قيم «الاشتراكية الشيوعية»، خاصة حين قمع الاتحاد السوفيتي، توجهات الشعوب، حتى «الاشتراكية» منها، في بولندا وهنغاريا- المجر ثم في تشيكوسلوفاكيا.
باختصار تسقط اليوم مقولة «الحضارة الغربية» كأساس للحريات الفردية والجماعية كما سقطت قبلها «الشيوعية السوفيتية» كأساس لتحرر الطبقات العاملة المضطهدة والشعوب. وبالمقابل لم يبقَ سوى صلافة أولوية المصالح. وليس تحديداً مصالح الدول ككيانات مؤسسية تخدم مواطنيها ومواطناتها، بل مصالح متنّفذين ومجموعات ضغط وشركات سلاح وغيرها، تقوم بتمويل العمليات الانتخابية وتوجه النوّاب تبعاً لمصالحها.
* * *
مقابل هذا الانقسام المجتمعي في «الغرب»، يلجأ الحكام إلى نشر الخوف لدى مواطنيهم ومواطناتهم. الخوف من الإسلام على أنه عنيف وهمجي، متناسين أنهم هم من شجع واستخدَم وسلحَ المتطرفين الإسلاميين لمناهضة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، قبل أن ينقلب هؤلاء عليهم. وهم من دعموهم لكسر رياح الحريات التي انطلقت مع «الربيع العربي». وهم من أرسلوا المقاتلين الجهاديين دون رادع من كلّ بقاع الدنيا للقتال في سوريا «أرض الجهاد»، قبل أن يرسلوا قوّاتهم العسكرية لمحاربتهم. وها هم منظرو الحكام في فرنسا «العلمانية» يقومون بتهييج العامة فقط ضد امرأة ارتدت حجاباً، دون المظاهر الدينية الأخرى، والساسة يحذرون من خطر نزعة «الانفصال» لدى من يدينون بالإسلام في البلاد، وكأنّهم ليسوا جزءاً من مجتمعهم.
يضاف إلى ذلك التخويف من إيران وروسيا والصين. والقول أن هذه الدول تستخدم التجسّس الإلكتروني، وكأنّهم لا يفعلون أنفسهم ذلك. والقول أيضاً أن روسيا لن تكتفي بأوكرانيا بل هي قادمة لتغزو برلين وباريس، وبالتالي ينغمسون في صراع كانوا هم أصلاً طرفاً في إطلاقه، ولا نهاية عقلانية له سوى التوافق بينهم وبين روسيا على حلّ سلمي. وأن عليهم إقامة أنظمة دفاع صاروخي كتلك التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي، وكأن وسائل ردعهم النووية لم يعد لها معنى. والتخويف أن «عظمة أمريكا» ستزول أو أن «أوروبا ستموت»، حسب تعبير الرئيس الفرنسي مؤخراً.
وليس غريبا في هذه الأجواء ظهور إعلانات في بعض شوارع باريس عن عروض لشركات لإقامة مأوى نووي. ما لا معنى له سوى فشل سياسات الحكام في الغرب والهروب إلى الأمام. وكأن الأمر تحضير لوصول اليمين المتطرّف في أقرب انتخابات قادمة، كما هو متوقع بالنسبة لعودة دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة أو في الانتخابات الأوروبية القادمة. لكن هناك قناعة شعبية تنتشر اليوم أن سياسات هذا اليمين المتطرّف لن تكون أسوأ من سياساتهم.
* * *
تداعيات هذا المشهد الغربي كبيرة اليوم في العالم الآخر غير «الغربي»، الذي لم يعُد «عالماً ثالثاً» كما كانوا يسمونه. بل أضحت هناك قوى اقتصادية ناهضة ضمنه. كما في بعض الدول «الغربية» كإسبانيا وبلجيكا وأيرلندا. جرأة هذه البلدان في مواجهة سقوط القيم «الغربية» وسياسات حكومات إسرائيل والولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى هي ذات حضور أقوى من حضور تلك للدول العربية، بما في ذلك تلك التي لها مكانتها على الساحة العالمية.
إن الدول العربية إما مكبلة منغمسة بخلافاتها أو غير معنية (!) أو تلعب دور الوسيط… مع الجنون القائم (!). ولا احتجاجات طلابية إلا ما ندر أمام سقوط القيم والمفاهيم.
قال الرئيس الفرنسي مؤخرا إن «أوروبا قد تموت». لكن عن أي أوروبا يتحدث حقاً؟ إن «القارة العجوز» ليست بلداً كالولايات المتحدة وروسيا أو الصين. بل مجموعة من الدول توافقت على العمل سوياً والتعاون الوثيق على أساس بعض القيم الأساسية. وبالطبع يمكن لأوروبا أن تموت. هذا مع سقوط القيم التي قامت عليها وبالتأكيد ليس من خلال الحروب العسكرية.
* باحث اقتصادي ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
المصدر: الشروق