سنان أنطون *
«وقفتُ اليوم (13 نيسان/ أبريل 2024) مع قادة من العالم، بدعوة من رئيس رواندا “بول كيغامي”، لإحياء ذكرى ضحايا الإبادة ضد شعب التوتسي. بعد ثلاثة عقود من وقوع هذه الفظائع، على العالم أن يمعن النظر في هذه الجرائم الرهيبة، ويدرك رعب الإبادة، ومحاولة محو شعب. على العالم ألا يسمح بتسييس الإبادة وألا يسمح بتقليل وطأة جرائم كهذه وألا يهين ذكرى ضحايا الإبادة».
هذا مقتطف من تغريدة نشرها أحد رؤساء الدول الذين حضروا المراسم الخاصة في الذكرى الثلاثين لإبادة رواندا، حين قام حوالي 200 ألف من الهوتو، بين أبريل ويوليو 1994 بشن هجمات ضد التوتسي راح ضحيتها 800 ألف مدني. وكان معظمهم من التوتسي، ولكن كان بينهم عدد من الهوتو أيضاً، كما دفع الرعب من الإبادة إلى هروب مليوني مواطن من رواندا.
نالت رواندا استقلالها عام 1962 بعد أن خضعت للاستعمار الألماني من 1894 إلى 1918 وبعدها للانتداب البلجيكي. وكانت سياسات ألمانيا وبلجيكا ومقاربتهما للبلاد وشعبها قد بلورت الاختلافات العرقية وعمقتها، وجعلت الحدود بينها أقل سيولة، ما ساهم في ما بعد في جعل هذه التقسيمات وقوداً لصراعات كارثية.
المفارقة هي أن صاحب الكلمات الرنّانة في الفقرة الأولى أعلاه، الذي وضع إكليلاً من الزهور على الضريح التذكاري لضحايا إبادة رواندا، ليس إلا إسحاق هرتسوغ رئيس دولة إسرائيل، المنهمكة منذ أكثر من ستة أشهر بارتكاب جرائم رهيبة ووحشية في غزة، وفظائع موثقة يكاد العالم يجمع على وصفها بالإبادة. والمفارقة الأخرى هي أن إسرائيل نفسها كانت متورطة، بشكل غير مباشر، بالمذابح التي يذرف رئيسها دموع التماسيح عليها، إذ أن الأسلحة التي صدرتها إسرائيل لرواندا استُخدمت في اقتراف الجرائم الفظيعة التي يندد بها هرتسوغ اليوم. في 2014 قدم إيتاي ماك، وهو محام إسرائيلي، طلباً إلى وزارة الدفاع الإسرائيلية للحصول على معلومات وتفاصيل عن الأسلحة التي أرسلتها إسرائيل إلى رواندا، وحين رفضت محكمة تل أبيب الطلب، رُفع إلى المحكمة العليا، وبعد سنة ونصف السنة من طلب الاستئناف حكمت المحكمة العليا في أبريل 2016 بعدم جواز الكشف عن سجلات ووثائق بيع الأسلحة إلى رواندا، أثناء الإبادة وبإبقائها سرية، معللة القرار بضرورة حماية الأمن القومي، ولإسرائيل باع طويل في تزويد جيوش شتى بالأسلحة وهي تخوض حروب إبادة ضد شعوبها ومواطنيها. والأمثلة كثيرة، منها تسليح الجيش والشرطة في عهد الديكتاتور أوغستو بينوشيه الدامي في تشيلي، الذي قتل وعذب نظامه الآلاف. كما باعت إسرائيل الأسلحة لصربيا أثناء حرب البوسنة والإبادة التي وقعت هناك. وفي 1975 وقّع شيمعون بيريز وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك مع بوثا، رئيس نظام جنوب افريقيا العنصري، اتفاقية سريّة تزوّد إسرائيل بموجبها جنوب افريقيا بالأسلحة. وعرض بيريز آنذاك أن تشمل الأسلحة النووية. وقد وثّق الصحافي الأمريكي ساشا بولاكاو- سارانسكي تفاصيل العلاقة الوثيقة في كتابه الذي نشره في 2010 بعنوان «التحالف المسكوت عنه: علاقة إسرائيل السريّة بجنوب افريقيا في حقبة التفرقة العنصري».
يتمتع مضيف هرتسوغ، بول كيغامي الذي وصل إلى سدة الرئاسة في رواندا في عام 2000، بدعم غربي ويغدق القادة والساسة الغربيون، الأمريكان بالذات، المديح على سياساته، ويثنون على نجاحه في قيادة رواندا إلى ما يوصف بأنه بر الأمان الاجتماعي والاقتصادي، لكن للرجل تاريخا مشبوها لأنه كان متورطاً في جرائم الإبادة في رواندا، وبجرائم حرب موثقة لدى هيئات الأمم المتحدة بين 1996 و1998 ارتكبها ضباط كبار في الجيش الرواندي كانوا يأتمرون بأمره ضد المدنيين العزّل والنساء والأطفال. وكان رده على هذه الاتهامات ببساطة، أن السيطرة على الجنود كانت صعبة في الفترة التي أعقبت الإبادة. وحين أُبلغت وكيلة وزير الخارجية الأمريكي سوزان رايس، في عهد الرئيس كلينتون بالأمر، قالت في محادثة خاصة «كل ما علينا فعله هو التغاضي والنظر في الاتجاه المعاكس». وحرصت الولايات المتحدة على حماية كيغامي من المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية لرواندا (التي تأسست في 1995) فضغطت من أجل تنحية كارلا ديل بونتي، حين بدأت بالتحرّي والتحقيق في الجرائم التي تورط بها كيغامي، والتي تخشى الولايات المتحدة أن الكشف عنها سيؤدي إلى إضعاف حكومته. ولكيغامي علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة تعود إلى التسعينيات، حيث كان قد درس في كلية القيادة العامة والأركان في فورت ليفنورث. وكان كيغامي أول رئيس افريقي يتحدث أمام منظمة الإيباك الصهيونية في الولايات المتحدة في 2017 حين ألقى خطاباً افتخر فيه بالعلاقات الوثيقة بين بلاده وإسرائيل، التي ساعدتها رواندا على «العودة» إلى القارة الافريقية. وكان قد زار إسرائيل في 2008 و2017. بعد أن زار نتنياهو رواندا في 2016 ووضع إكليلاً من الزهور على الضريح التذكاري لضحايا الإبادة.
لا تقتصر علاقات إسرائيل الحميمة مع رواندا على التعاون في مجالات التكنولوجيا والأمن، وإيفاد عسكريين سابقين من إسرائيل لتدريب الجيش الرواندي وقوات الحرس الجمهوري، وإشراف الشركات الأمنية الإسرائيلية على تأمين مطار العاصمة كيغالي، بل تشمل أيضاً موافقة رواندا على أن تكون محطة لاستقبال لاجئين افارقة ترحلهم إسرائيل. بين 2013 و2018 تم ترحيل 4000 لاجئ إريتري وسوداني إلى رواندا وأوغندا بموجب «برنامج الترحيل الطوعي» الذي أعربت المفوضية العليا للاجئين في الأمم المتحدة آنذاك عن قلقها بشأنه لانعدام الشفافية بخصوص الترتيبات السرية. وحذت بريطانيا حذو إسرائيل في العام الماضي حين وقّعت اتفاقية مع رواندا لترحيل اللاجئين إليها مقابل محفزات مادية. ونشرت صحيفة «زمان يسرايل» مؤخراً تقارير تشير إلى أن إسرائيل تجري محادثات مع تشاد ورواندا بهدف الترتيب لصفقة يستقبل البلدان بموجبها الفلسطينيين «المهجّرين» من غزة مقابل مساعدات اقتصادية. وهكذا فإن الهدف الأهم من حضور هرتسوغ مراسم إحياء ذكرى ضحايا الإبادة الرواندية هو إجراء مفاوضات ومشاورات مع الحلفاء والأصدقاء. وكان من بين الحضور الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون الذي ترأس وفد بلاده. والجدير بالذكر أنه كان على علم في 1994 بقرب حدوث إبادة، حسب وثائق تم الكشف عنها مؤخراً تفيد بأن التقارير التي وصلته كانت تحذر من ذلك. لكنه قرر عدم التدخل وأمر مساعديه بعدم استخدام مصطلح «إبادة» رسمياً، على الرغم من تداوله بين المسؤولين بعد 16 يوماً من بدء العنف. واعتذر كلينتون بعدها في زيارة لرواندا وكذب حين ادّعى أنه لم يكن يعي حجم الخطر المحدق.
فيا لها من إهانة لذكرى ضحايا الإبادة في رواندا، أن يحيي ذكراهم رئيس دولة ترتكب جريمة الإبادة الآن في غزة، ورئيس دولة عظمى كان بإمكانها أن توقف الإبادة. ولعل المشهد يقول الكثير عن انحطاط النخب الحاكمة في هذا العالم وخستها.
* كاتب عراقي
المصدر: القدس العربي