عبير نصر *
لا يزال التناقض يطبع المسألة السورية، حيث بات المشهد العام مجالاً لكبرى المفارقات، إذ لا يوجد شيء يمكن قراءته اليوم بعيداً عن المنظور الفكاهي لحاكم سورية المفيدة، ومشروعية هذا الافتراض منطقية بوجود جسدٍ طافحٍ بالبهجة يعتلي أنقاض البلاد المدمّرة.
فهو المقتنع، والحديث عن بشّار أسد، بكونه قد انتصر على المؤامرة الكونية، ليتحرر من عبء هذه التمثيلية السمجة التي أثقلت كاهله، فلم يعد مضطراً للظهور خلافاً لطبيعته استكمالاً لها. هو الذي لم يتقن سوى اللعب الكارثي على حبال السياسة، بدءاً من تغيير الدستور لتمكينه من الحكم، ثم نصْب فخاخه الخبيثة لقنص من ينادي بالإصلاح والتغيير، مروراً بالمسرحيات الانتخابية والرقص التهريجي مع اللاعبين الكبار حتّى سحبوا بساط البلاد من تحت قدميْه، وليس نهاية بمهزلة شدّ الحبل والتنقل بين عصيّ متسلسلة موشكة على السقوط التي لعبها، منذ أيام، في طرطوس ثم في “نادي الرماية” قرب العاصمة برفقة زوجته، بهدف إدخال الفرحة إلى قلوب الأطفال!، إذ ظهر الزوجان مستمتعين كما لم يكونا يوماً، ومُستفزَّين كما لن يكونا أبداً، ذلك أنّ أخطر أنواع السخف السياسي ما يُسلّي، عندما تصبح ملامح الطاغية صاخبة في تبرّجها، إضافة إلى الكاريزما الموتورة لتكتمل مشهدية التفاهة، وفيها كل عناصر النجاح من النرجسيات والمكايدات والأعاجيب.
والمفارقة الأكثر وضوحاً في السياق أنّ هذه المقدّمة، على اقتضابها، تفضح السعادة المشعّة لعائلة الأسد ضمن الظلام السوري الدامس، لتؤكّد أنها غير مهمومة بما يحدُث حولها أخيراً، لا بمآسي السوريين وقهرهم، ولا بقصف إسرائيل مقرّ القنصلية الإيرانية في دمشق، ومسرحية الردّ الإيراني العبثي، ولا بتعرّض السوريين في لبنان لكارثة حقيقية، بعد حادثة مقتل القيادي في حزب “القوات اللبنانية”، باسكال سليمان، في سياق الاستعداد المسبق لاتهام اللاجئين والاعتداء عليهم والمطالبة بترحيلهم..، فالمرح الصادر عن ثقةٍ مطلقةٍ إنما يفضح آلية تمتّع بشّار الأسد بمزايا السلطة من دون تحمّل مسؤولياتها، ولا شيء يهزّه على الإطلاق، وكيف يهزّه!، وهو الذي عندما سُئل عن روتين يومه بعد استخدامه الأسلحة الكيميائية التي أدّت إلى مقتل آلاف المدنيين، ردّ ضاحكاً: “أنام وآكل جيداً وأمارس رياضتي وعملي بشكل معتاد”. وعليه، لا يتوقف عن “القهقهة” وإلقاء النِكات البلهاء، لا فوق أنقاض المدن التي دُمرت بفعل الزلزال، ولا خلال لقاءاته الصحافية وخطاباته الرنانة أو في حضوره القمم العربية. أنّى تجدْه ترَ ضحكات صبيانية تحوّل التراجيديا السورية إلى صورة كاريكاتورية مشوّهة مفعمة بالسخرية، تعرّي عقدة “الهضامة” والكاريزما التي يفتقدها الأسد، والتي لا تخرج عن كونها سفسطة شبيهة بتصورّه الواهم عن الأبدية.
وبالاستناد إلى محصّلاتٍ تبسيطية مُفرطة يبدو مفهوماً اليوم اعتماد الأسد طريق النكاية بآلام السوريين والاستهزاء بمآسيهم، والتعاطي معهم وكأنهم أطفال معاقون للتغطية على تناقضات المرحلة المأزومة ومفارقاتها وردم عيوبها. يذهب الكاتب الأميركي، مارك توين، في كتابه “رسائل من كوكب الأرض” إلى أن “لا شيء يقف أمام بطش الضحك”. بهذا المعنى، يتنفّس لهو الأسد من القمع والإجرام، ما يجعله مضطرّاً لإحكام سيطرته ليس بقوة النار والحديد فقط، بل عبر قوة “الهزل السياسي” اللصيقة بتعسّف التفاهة والضعف الذي يعكس طبيعته المنفصمة المخاتلة، فتنتقل عدوى “المضحك المبكي” إلى الشعب برمته، ويمتلئ الفضاء السوري بالتصفيق والدموع، وتُشبع النفوس المحتقنة بالقهر بما يشبه “الكركرات” المدمّاة. وفي الحقيقة بدأت سلسلة ظهوره الكارثي منذ أشهر قليلة، لتنتشر له صور “مبهجة” مع صنّاع الدراما السورية، ومع مدرسين في عيد المعلم، وأيضاً لقاءات رمضانية بمشايخ السلطة، وكأنّ هذا “السيران” الداخلي تعويض عن “السيران” الدولي الذي حُرم منه بسبب العزلة المفروضة، فعلائم الحبور على وجه الأسد تشي بأنه يقطف وبتلذّذٍ شديد ثمار “تعنّته” الأسطوري، ليلهو “كطفل العيد” وكأنه في احتفال مستَحقّ لمن يجد نفسه قد نجا من السقوط، ولمن ارتاح أخيراً من ثقل الحلفاء بعدما أزالوا عن كاهله خطر الخصوم، بعد انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية كذلك إيران بمناوشاتها العسكرية الملتهبة مع إسرائيل.
“السلطة المطلقة مفسدة مطلقة” قالها السياسي البريطاني لورد آكتن في القرن التاسع عشر. ولكن، يبدو، في الحالة السورية، أنه يصح الجزم بأنّ “السلطة المطلقة مسخرة مطلقة”، فمخرجات خمسة عقود من الظلم والاستبداد فضحت هشاشة نظام الأسد المحترف في فنّ المحاكاة الهزلية، والذي ينهل من موارد “العنف الرمزي” كسلطةٍ معنوية قاهرة، وهي ليست أمراً عبثياً ارتجالياً من دون أدنى شك. وإذا ما عدنا إلى تاريخ الضحك السياسي، فإننا نكتشف أنّه ارتبط كثيراً بنقد السلطة، لأنّ قوة خطابه تكمن في إزالة هالة القداسة عن الحاكم، ومن الأهمية بمكان قراءة هذا المُعطى بانتباه شديد، لأنّ هزلَ بشار الأسد، وللمفارقة، أزالَ القداسة عن البلاد نفسها. وبالعودة إلى أسّ المشكلة، فإنّ عقدة النقص التي كان الأخير يحملها تجاه والده “المهيب” وأخيه “الكاريزماتي” باسل، كانت حرصه الدائم على تحصيل القبول والاحترام ممن حوله، وتحقيق ما لم يستطع والده إنجازه يوماً، وهو أن يكون محبوباً ومهيباً في آن واحد. لكن الأسد الابن لم يحقق حلمه بل أُلصقت به صفة المهرج ومنذ خطابه الأول في مجلس الشعب، وتلك اللحظة التاريخية التي أنبأت بخرابٍ لا بدّ قريب، والتي تحوّلَ خلالها مجلس التشريع الأول في سورية إلى سيركٍ مؤلم يتزاحم فيه المطبّلون ليشغلوا صدارة الأداء البهلواني المتقن لفخامة الرئيس الجديد.
بالتساوق مع ما تقدّم، لا نعرف سخرية لاذعة أو نكتة سياسيةً أسقطت حاكماً، لكن كلّ ما يمكن قوله في جمهورية الرعب إنه ما كان لعمر بشار أسد أن يطولَ سياسياً لولا أدوات الاستبداد وحرابه، وأهمّها ضحكاته المستفزّة الواثقة التي بها يزوّر، ويقمع، ويسجن، ويقتل. وها هو يرقص باطمئنانٍ مريبٍ في دائرة الأمان، و”ينكّت” بأسلوب فارغ يحتمل معاني سامة كثيرة للالتفاف على أزماته الكارثية المستعصية، ليقدّم دليلاً حياً على عبقرية الأبدية من دون تحقيق أيّ شيء له قيمة أو معنى. يزيده تجبّراً فشل قرار مجلس الأمن 2254 في تحريك عربة الانتقال السياسي نحو التغيير المأمول، مع غياب أيّ رغبة دولية وإقليمية في الدفع باتجاه اجتثاث سلطات الأمر الواقع، بالتوازي مع العدوان الإسرائيلي على غزّة الذي شكّل هدية ثمينة وغير متوقّعة للأسد، بعدما شتّت أنظار العالم عن القضية السورية الملحّة، وأكثر من المتوقع بكثير.
صفوة القول، ليست السخرية من آلام السوريين سلوكاً عفوياً أو أمراً هامشياً بالنسبة للأسد، بل جزء محوري من ترسانة المجازر التي قام بها، فرقصُه الهزلي فوق مواجع شعبه يمثّل الدافع الدينامي للسلوك الاستبدادي، وهو انعكاسٌ لحالة ذاتية يعيشها الطاغية عبر ادّعاء خفّة الظل لاقتحام ساحات الاستعراض السياسي. جدير ذكره أنه في الأزمان الغابرة كانوا يطلون بالملح أقدام المتمرّدين، ويتركون الماعز يلعقها حتّى يموت المعذَّبون من الضحك.
واليوم يكفي أن تراقب بشّار أسد دقائق فقط، لتدخل في فصامٍ غريب، فهذه الشخصية التي تُختَصر بعنقٍ طويل يحمل وجهاً متخماً بالبلاهة و”البوتوكس”، لا تتوانى عن “إماتتك” من الضحك، حرفياً، وهي نفسها، وللمفارقة العجيبة، المسبّبة لأكبر أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية!
* كاتبة وإعلامية سورية
المصدر: العربي الجديد