حسن النيفي *
ربما جاز لنا الذهاب إلى أن الأول من شهر نيسان/ أبريل الجاري جسّد منعطفاً شديد الحساسية بخصوص الحرب التي يشنها الكيان الصهيوني على غزة، ليس من جهة تغيّرات طارئة على أهداف إسرائيل من وراء عدوانها، وليس كذلك من جهة بروز موقف أو مواقف دولية وازنة جديدة من شأنها أن تعيد النظر إلى ما يجري في غزة من منظار فيه الحد الأدنى من الإنصاف أو فيه حيّز لصوت الحق والضمير، ولكن ما نعنيه بالمنعطف المشار إليه هو تحوّل دفّة الصراع من مواجهة بين شعب يقاوم من أجل حقه في الوجود والحرية في وجه كيان محتل غاصب لا يجد سبيلاً إلى بقاء وجوده إلّا من خلال استمراره في ممارسة الإجرام، إلى مواجهةٍ بين إيران وإسرائيل، ليس بصفتهما عدوّين يسعى أحدهما أو كلاهما إلى استعادة حق مُغتصب، بل بصفتهما قوّتين تتنافسان على حيازة النفوذ وامتلاك أدوات الصراع الأكثر تأثيراً، ومن تساهمان معاً (إيران وإسرائيل) في إخراج الحرب الراهنة بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الصهيوني من سياقها الوجودي إلى حيّز المصالح التي يغدو فيها أصحاب القضية ليسوا أكثر من وقود أو مادّة لتذخير الحرب وليس هدفاً من أهدافها، ويمكن التأكيد في هذا السياق على أن شرف المقاومة الفلسطينية ومشروعيتها تنبعان من أحقية الإنسان الفلسطيني في الدفاع عن حقوقه وأرضه، وإن أيّ انتزاع لهذه المشروعية وتوجيه الصراع باتجاه آخر هو إهانة لقضية فلسطين وتقزيم لتضحيات أهلها.
لقد شاء نتنياهو في الأول من الشهر الجاري استهداف قنصلية إيران في دمشق في مسعى ينمّ عن عدم قدرته بالاحتفاظ بقواعد اللعبة لأسباب ربما باتت معروفة لدى الجميع، ومنذ ذلك الحين بات الرأي العام مشغولاً إلى درجة السعير بالتكهّن حول ماهيّة الردّ الإيراني وأبعاده وتداعياته المستقبلية، ثم جاء الردّ الإيراني في الثالث عشر من الشهر الحالي ليعزز من انشغال العالم بما سوف تفضي إليه ردّات الفعل المتبادلة بين طهران وتل أبيب، ولتصبح- في موازاة ذلك- الحرب القائمة على غزة في الظلّ، بل تصبح وقائع العدوان الإسرائيلي وجرائمه اليومية أمراً غائباً عن أي اهتمام، ولتتحول أيضاً مأساة الفلسطينيين في غزة إلى مجرّد خبر تتقلّص مساحته يوماً بعد يوم في حيّز الاهتمام الإعلامي، فهل هذا انزياح لمعارك غزة عن مسارها الحقيقي أم أن غزة ليست سوى مسرح لجولة من جولات ليّ الأذرع بين نتنياهو وملالي طهران؟
لا تخفي إيران أهدافها الاستراتيجية المتمثلة بالحصول على السلاح النووي، وتعزيز قدراتها العسكرية التقليدية وتعاظم نفوذها ودورها الإقليمي الذي يتيح لها القيام بدور الشرطي في المنطقة، ولقد استطاعت بالفعل انتزاع الإقرار الأميركي الإسرائيلي، ومن ثم الأوروبي، بشرعنة مسعاها، وإلّا ما معنى الدفع الأميركي والأوروبي نحو التفاوض مع إيران حول ملفها النووي، وكذلك الاعتراف العلني بمصالح إيران كقوّة إقليمية كبرى في المنطقة؟ وهل مساعي إيران لإنجاز القنبلة النووية بمساعدة روسيا والصين بات أمراً بعيداً عن أعين واشنطن وحلفائها الأوروبيين؟ ولكن على الرغم من ذلك، يبدو أن التصعيد الإسرائيلي بات ضرورة لا بدّ منها، أو ربما هو المخرج الوحيد الذي يمكّن حكومة نتنياهو من استمراريتها في السلطة من جهة، ويجنبها مواجهة استحقاقات فشلها أمنياً وعسكرياً في هزيمة حركة حماس، وكذلك فشلها في تحقيق أي منجز ميداني نوعي على الرغم من إيغالها في ممارسة التوحّش والإبادة من جهة أخرى، فضلاً عن إخفاقها في استرداد الأسرى الإسرائيليين لدى حماس، وربما من غير المستبعد أن تكون ثقة نتنياهو بقدرة إيران بل ورغبتها كذلك، على احتواء تصعيده العسكري هي إحدى مُحفّزات هذا التصعيد أيضاً.
لم تكن قضية فلسطين غائبة عن جميع الحروب التي خاضتها إيران منذ وصول الخميني إلى السلطة 1979، سواء تلك الحروب التي خاضتها أصالةً أو بالوكالة، إذ إن إصرار الخميني على رفض وقف الحرب مع العراق طيلة ثماني سنوات إنما كان بذريعة أن الطريق إلى القدس لن يكون إلّا عبر البصرة، ولو أن الخميني وصل البصرة آنذاك بالفعل وتمكّن من إسقاط النظام (البعثي الكافر) لأعلن بأن الطريق إلى القدس بات محكوماً بالمرور عبر دول الخليج وسوريا والأردن، وها هي ميليشيات إيران بالفعل تملأ دمشق وباقي الأنحاء السورية، لكن دون أن تطلق طلقة واحدة باتجاه إسرائيل، في حين أنها لا تتردّد في محاولاتها اختراق الأردن من خلال تعزيز وجودها ونشاطها على الحدود السورية الأردنية، وكذلك مواجهاتها التي قامت بالوكالة عبر ذراعها اللبناني (حزب الله) سواء في عام 2006 أو 2008، إنما بدأت باسم فلسطين وانتهت جميعها بمقايضات لا صلة لها إلّا بمشروعها الرامي للتوسع والهيمنة. بل يمكن التأكيد- في هذا السياق- على أن نزعة العداء الإيراني للبلدان العربية بالأصل تتأسس على مزاعم نصرة قضية فلسطين التي تتهم إيران الدول العربية بخذلانها ومناهضة محور المقاومة، بل الأصح أن إيران تتّهم علانية دول الخليج بالعمالة لأميركا والغرب، وهي مبررات كافية- وفقاً لإيران- لتكون تلك الدول هدفاً دائماً لسياسات إيران التوسعية وليكون أمن تلك الدول تحت رحمة العصا الإيرانية. ومن هنا يمكن التماس مقاربة جديدة لمفهوم (مركزية القضية الفلسطينية) وفقاً لتفسير حكام إيران، من جهة أن قضية فلسطين تبدو حاجة ضرورية كذخيرة لاهبة للشعارات، وبالتالي هي جزء من البناء الإيديولوجي الذي تتقوّم عليه سياسة طهران، مثلها في ذلك مثل الإيديولوجيا الدينية الشيعية، ومن هنا يبدو حرص إيران الشديد على أن يكون شعار فلسطين ركناً عضوياً من أركان خطابها السياسي الذي يفقد كامل مفاعيله التعبوية بمجرّد الانفكاك عن القضية الفلسطينية، ولعل الحقائق الماثلة التي تؤكّد ذلك أنه على الرغم من سخونة المواجهات المزعومة بين طهران وتل أبيب فإن إمكانيات احتواء هذه السخونة يبقى أمراً متاحاً على الدوام، لذلك من غير المُستغرب أن تبدي إيران رغبة كبيرة بعدم اتساع المواجهات العسكرية مع إسرائيل، بل تقوم بإرسال رسائل عدة بهذا الاتجاه تارة من خلال الروس وأخرى من خلال واشنطن ذاتها، في إشارات واضحة وصريحة تؤكّد أن المشروعين الإيراني والإسرائيلي يمكن أن يتعايشا إذا التقت المصالح بين الطرفين، في حين أن مبدأ تعايش إيران مع جيرانها العرب يبدو أمراً متعذّراً.
* شاعر وكاتب سوري
المصدر: موقع تلفزيون سوريا