د- عبد الناصر سكرية
منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023؛ تفجرت أحداث كثيرة وطرأت متغيرات كثيرة أيضاً على صعد مختلفة، فيما يتعلق بقضية فلسطين أولاً ثم فيما يتعلق بالصراع العربي- الصهيوني وواقع حال العرب رسميين وشعبيين، ولقد تعاملت الأطراف الشعبية العربية مع الحدث وما تلاه ونتج عنه من أحداث ومتغيرات، بعضها كارثي يتمثل في التدمير الهائل وحرب الاقتلاع الشاملة التي يشنها العدو الصهيوني وخلفه ومعه كل قوى الغرب الاستعماري وبتواطؤ مباشر أو خفي من الإقليمية العربية أولاد سايكس- بيكو الاستعمارية.
وعلى العموم كان الموقف الشعبي العربي متحمساً ومؤيداً ومتفاعلاً مع مقاومة أهل فلسطين الشعبية الباسلة متألماً جداً مما تدفعه من أثمان باهظة، ومع استمرار العدوان الصهيوني إلى مدة غير متوقعة ربما وما يصاحبه من مآس وفواجع في غزة ومعاناة في حياة أهلها الأحياء بلغت آفاقاً لم يشهد مثلها تاريخ الحروب حتى في أبشع صوره وأشكاله؛ برزت بعض المواقف التي تشكك بخلفية العمل العسكري الذي قامت به حماس، وبعضها الآخر راح يطالب بوقف القتال بأية وسيلة حفاظا على الأرواح الحية الباقية نظراً لجسامة الأرواح التي أزهقت. كما ظهرت مواقف تعتبر أن حماس ربما لم تحسب لها حسابا يفتح آفاق حرب طويلة الأمد، حرب حولت المقاومة الشعبية إلى جيش مقاتل وهل يستطيع هذا الجيش الاستمرار وإلى أي مدى.
معظم هذه التساؤلات تنبع من خلفية التأييد والتضامن مع شعب فلسطين ونضاله ونضال أهل غزة ومقاومتهم، والحرص على بقائهم في أرضهم ولحماية وجودهم وحياتهم وأرواحهم بعدما بلغ العدوان الصهيوني مبلغاً يكاد يلغي كل مقومات البقاء والحياة في غزة.
بين من يشكك بطوفان الأقصى على خلفية موقف سياسي أو عقائدي من حركة حماس، أو على خلفية علاقتها بإيران، وبين من يشكك بعمل المقاومة ضد العدو الصهيوني على خلفية موقفه الداعي إلى التطبيع والسلام مع دولة الكيان.
وبين من يبرر تقاعسه وتخاذله وتواطؤه حيال شعب فلسطين وقضيتها متذرعاً بحجم الدمار الهائل وأعداد الشهداء والجرحى الضخم.
ثمة من يؤيد المقاومة الشعبية المسلحة كخيار وحيد لمواجهة المشروع الصهيوني، وإن كانت له انتقادات على حركة حماس كحزب سياسي.
كما ثمة من يدعو الى الالتفاف على المقاومة الشعبية الفلسطينية ودعمها وتوفير غطاء شعبي داعم ومؤيد ومدافع عنها وترك أي حديث نقدي لما بعد انتهاء العدوان على غزة.
ثمة من يشكك بالسلطة الفلسطينية وموقفها المتواطئ مع الاحتلال ومن يدعو لوحدة الصف الفلسطيني وتشكيل قيادة وطنية فلسطينية موحدة للتعاطي مع الاحداث واستثمارها سياسياً وشعبياً، في اطار منظمة التحرير أو خارجها.
تنوعات في المواقف وتساؤلات شعبية حول ما يجري في غزة والموقف الوطني والقومي السليم منه.
أمام هذا التنوع في المواقف مما يجري ينبغي الاتفاق على ثوابت أساسية تشكل ضوابط للموقف الشعبي العربي الأصيل من فلسطين ومن العدوان الصهيوني المتفاقم باستمرار:
1- لا يعنينا في هذا المقام موقف أولئك الرافضين لفكرة المقاومة الشعبية ولا المتخاذلين أو المتواطئين دعاة ما يسمى السلام مع دولة العدو الصهيوني، فمثل هذه المواقف فضلاً عن فداحتها حيال حق شعب فلسطين في الحرية والحياة الحرة الكريمة، فهي لن تبقي أصحابها بمنأى عن الأضرار الفادحة التي سوف تطالهم وبلادهم أيضاً جراء هيمنة وتوسع المشروع الصهيوني واعتماد قاعدته الاستعمارية أداة لسوق جميع العرب، نعم جميع العرب، للرضوخ للهيمنة الاستعمارية بما يعني ذلك من بقائهم في وضعية المنهار الضعيف المنكوب المستجدي للحماية الأجنبية الباهظة الثمن.
2 -إن المقاومة الشعبية هي السبيل الأساس والرئيس المتاح أمام شعب فلسطين للدفاع عن وجوده وحقه في الحياة الحرة الكريمة واسترداد أرضه وبلاده من المغتصب الصهيوني، والمقاومة ليست عملاً عسكرياً فحسب بل تشمل كل الجوانب الإنسانية والحياتية.
3 -العدوان الصهيوني على شعب فلسطين لم يتوقف منذ مئة عام، وكل ما يقوم به هذا الشعب من مقاومة أكانت مسلحة أم مدنية شاملة إنما هو عمل مشروع لتأكيد حقه وتحرير بلاده، وعليه فإن عملية طوفان الأقصى وما تلاها من أعمال عسكرية فدائية بطولية تقوم بها الفصائل الوطنية الفلسطينية ، إنما هي تجسيد لحقها في الرد على العدوان الصهيوني المتفاقم دائماً وأبداً.
4 -إن الموقف الشعبي العربي ينبغي أن يتمثل بالالتفاف التام والتأييد الكامل للمقاومة الشعبية الفلسطينية بصرف النظر عن اعتراض هنا أو نقد هناك لخلفية حزبية قد تكون لا تزال مؤثرة في تصورات حماس أو في هندسة علاقاتها السياسية، فلطالما بقيت الحرب مستعرة والعدوان قائما والمقاومة متصاعدة، لا يجوز الخوض في أحاديث تضعف الالتفاف الشعبي المطلوب حول غزة وفلسطين أو تثير الشكوك أو تفتح ثغرات في تماسك الموقف الشعبي الوطني والقومي.
5 -إن أية تقييمات لما جرى ويجري تؤجل لما بعد انتهاء العدوان ووقف الحرب، ولن تكون إلا على قاعدة المصلحة الوطنية الفلسطينية ومتطلبات تدعيم الصمود وتمتين الموقف الشعبي واستثمار إيجابيات حصلت ووضع كل الإمكانيات لإزالة آثار العدوان، وهي مهمة جبارة نظراً لهول الدمار والخراب وأعداد الشهداء والجرحى وحجم التهجير والمآسي من كل نوع.
6 -وإن كانت التحركات الشعبية العربية غير ذات فعالية مؤثرة لكونها محكومة ضمن إطارات الخوف والتشتت والأجهزة وغياب التنظيم، فإنه يتوجب الاستمرار في كل ما يزيد من التوعية والتعبئة النضالية والتضامنية بكل ميادينها ومجالاتها، بدءا من التبرع المادي ومروراً بكل عمل أو نشاط كتابي وإعلامي يبقي حالة التأهب التضامني مشدودة إلى ما يجري في فلسطين، ولعل التوعية والتعبئة في الأوساط الشعبية والشبابية تحديداً، مهمة للغاية مع ما ينبغي أن يرافقها من شرح لوسائل المشاركة والتبرع والتضامن والاستثمار، فلا حجة للقاعدين ولا عذر للمنتظرين.
7 -استمرار الحض على تشكيل قيادة وطنية جبهوية فلسطينية من كل الطاقات الوطنية أفراداً ومنظمات وفصائل وإعادة بناء وتنشيط مؤسسات منظمة التحرير مع التمييز بينها وبين السلطة وبين فتح والسلطة أيضاً، وهذه ضرورة لإمكانية استثمار الإيجابيات الكثيرة التي حدثت وتحدث لا سيما على صعيد الوضع الداخلي المتضعضع لدولة الكيان أو لجهة التعاطف الشعبي العالمي مع حق شعب فلسطين وحرية ورفضاً وإدانة للعدوان الصهيوني المجرم.
8 -العمل على تشكيل جبهة مساندة شعبية عربية تلتف حول المقاومة الوطنية الفلسطينية تؤازرها بكل ممكن ومتاح وتذود عنها معنوياً وإعلامياً وتعبوياً كما وتبقيها في إطار الموقف الوطني الحر المتكامل مع الموقف القومي السليم.
9 -إن معارك تحرير فلسطين ودحر المشروع الاستعماري الصهيوني هي معارك متنوعة الميادين شاملة كل مناحي الحياة ومجالاتها، فكراً وثقافة وتماسكاً اجتماعياً وأخلاقياً ونهضة علمية وبناء اقتصادياً وتحرراً سياسياً من كافة أشكال النفوذ الأجنبي والتبعية له، وهي قضية كل عربي حر أينما كان وفي أي موقع أو ميدان، وبالتالي عليه مسؤولية العمل والتنوير والتضامن والتثوير لتبقى القضية محوراً ومركزاً لكل القضايا العربية، ففي فلسطين يتقرر مصير كل العرب بمن فيهم المتواطئون عنها أو اللاهثين وراء سلام مخادع موهوم.
فليعمل كل في ميدانه وفق ما يتيسر له وتتيحه له ظروفه وإمكانياته للتفاعل مع فلسطين وشعبها ونضاله، ولا عذر للسلبيين واللامباليين فالجميع في خطر وجودي داهم.
10 -ومع إغراق كل بلد عربي بقضايا وطنية ذاتية متشعبة وما يبدو فيها وعليها من إرباكات وتعقيدات تبدو وكأنها تتناقض مع أي التزام قومي وفقاً لوحدة المصير العربي، ومع نشوء تباينات في تلك القضايا بين بلد وآخر، تبقى قضية فلسطين هي المحور المركزي فأعداء فلسطين ومغتصبوها هم أنفسهم أعداء كل قضية وطنية عربية لأي بلد عربي أيا كان، حتى تلك القضايا المفعمة بالمحلية على ما تبدو، من توفير أبسط مقومات الحياة الى التنمية والتعليم والبناء والصحة والتطور.
وهذا يعني أن كل نضال وطني هو نضال لأجل فلسطين، وكل نضال لتحرير فلسطين هو نضال وطني لنهضة كل بلد عربي وتقدمه وتطوره وحمايته من أي عدوان وحفظ أمنه وأمن أهله وناسه.
إن مصير العرب ووجودهم ودورهم يتقرر في فلسطين، فعليهم أن يكونوا على مستوى المسؤولية التاريخية وإلا فهم إلى مزيد من التدهور والضعف والهوان.