جمال الشوفي *
مضى قرابة قرن على ذكرى معركة المزرعة التي خاضها ثوار الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي، وثمانية وسبعون عاماً على ذكرى استقلال سوريا من المستعمر الفرنسي، وما زال السوريون يحتفلون في ذكرى الاستقلال في الضريح المشيد في بلدة المزرعة في السويداء تخليداً لذكراها.
وتشير مذكرات منير الريس عن الثورة السورية الكبرى أن ما يقارب 400 ثائر بقيادة سلطان الأطرش بعتادهم البسيط من البنادق والسيوف تمكنوا من هزيمة الحملة الفرنسية بقوام 13000 مقاتل مجهزين بالرشاشات والدبابات والطائرات. لتخلد في ذاكرة الأجيال اللاحقة مدى أحقية وأهمية الدفاع عن الأرض والوطن مهما بلغت قوى العدو. فيما جيل الحاضر السوري واحتفالاتهم في ذكرى الاستقلال بالمكان ذاته هو سؤالهم المتكرر: هل هذه هي الدولة التي ضحى الآباء لأجلها؟
بين جمهوريتين:
تتقاسم سوريا اليوم خمسة قوى أجنبية متعددة الأصناف، وجميعها أتت بوجود نظام حكمها القائم وبموافقته عليها. حيث تم هدر كل تضحيات السوريين سواء في الثورة السورية الكبرى أو ثورة الحرية والكرامة عام 2011، لتصدق مقولة عبد الرحمن الكواكبي أن الطغيان يجلب الاحتلال. ففي التاريخ، موضوعياً مرت سوريا بمرحلتين مفصليتين:
1- مرحلة الجمهورية الأولى عام 1932، والتي مثلت مرحلة نيابية انتخابية بُنيت على أساس دستور 1932 وتعديلاته 1950 الذي أعطى الحياة السياسية بعدها النيابي الأولي. رغم أن سوريا حينها كانت ترزح تحت ظل الانتداب والاحتلال الفرنسي، لكنها تكللت بما نحتفل به نحن السوريين لليوم في ذكرى الجلاء بتاريخ 17/4/1946 برحيل آخر الجنود الفرنسيين.
الجمهورية الأولى بقيت انتخابية وبرلمانية لحين دخلت سوريا مرحلة الانقلابات العسكرية، وآخرها حين أحكم عسكر البعث هيمنته على الحكم بانقلاب 8/3/1963.
2- مرحلة الجمهورية الثانية الممتدة من 1963 لليوم، المرحلة التي أعلنت انتهاء الحياة السياسية السورية تدريجياً وتحولها لدولة الحرمان السياسي “دولة سلطة البعث” والقهر المجتمعي وكل أشكال التنكيل والهيمنة، وصولاً لما نحن فيه اليوم من تدمير وتهجير وموت جماعي.
مقابل هذا، يرغب قوميو البعث اعتبار الجمهورية الأولى السورية هي تلك التي بدأت بعد تاريخ 17/4/1946 حتى أتى حكم البعث فيما يسمونه ثورة آذار وتشكيل الجمهورية الثانية المستمرة لليوم! وما يؤلم السوريين اليوم، ليس فقط أنهم باتوا في مواجهة الخيارات الأقسى في تاريخ الإنسان، خيار الحياة أو الموت! فكل ما عداه من خيارات سياسية أو مادية أو اجتماعية على أهميتها وضرورتها، لكنها قابلة للحوار أمام لغة الموت بكل صنوف أسلحة القتل والتدمير التي نعيشها منذ 13 عاماً. فكيف أن عسكر البعث وطغمته الحاكمة أنكروا التاريخ النيابي والحريات السياسية التي عاشتها سوريا حتى وهي تحت ظل الانتداب الفرنسي، بينما حرمت منها في ظل ما يُسمى سلطة “وطنية”. وما يجعل الألم مضاعفاً، أن السوريين هم ضحية وثوقهم في نظام العسكر هذا المدعي بناء سوريا الحديثة منذ استيلائه على الحكم عام 1963! ليتمكن من التلاعب بمشاعر السوريين الوطنية وتحويلهم إلى جمهور عاطفي يردد شعارات “الوحدة والحرية والاشتراكية”، و”دولة المقاومة والممانعة” وما بينهما من دحر إسرائيل ورميها بالبحر. ليتحول ما يُسمى حكماً “وطنياً” إلى قوة هيمنة أيديولوجية وسياسية على قوى المجتمع قاطبة، أحالته لطغم محكومة سيكولوجياً واجتماعياً بمؤسسات أمنية وبوليسية عميقة تدير الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية السورية بقبضة من حديد، وحسبما تريد ويحقق هيمنتها المطلقة.
دولة سلطة البعث:
“دولة البعث” ليست مقتصرة على حزب البعث بجناحه العسكري وحسب، بل هي نظام حكم قانوني الطوارئ وبعده الإرهاب عام 2011. وما مثلاه من معاقبة للمجتمع السوري بتهم مقولبة تسمى بعدة مسميات أشهرها: إضعاف ووهن الشعور القومي ومعاداة الاشتراكية وتهم التعامل مع الخارج والإرهاب، وذلك فقط لكونك صاحب رأي مخالف! وكل ما بني على أساسه من اجتثاث السياسة من المجتمع ونزع الحالة المدنية عنه. بحيث يصبح القانون هو حكم السلطة لا سيادة القانون الوضعي المنصوص عنه دستورياً! هذا كله قبل سوريا الثورة التي اجتاحتها قوى النظام بكل حلولها العسكرية والأمنية لقمع مسارات تحولها للجمهورية الثالثة، جمهورية الحريات والقانون والوصول لدولة لكل السوريين، لا لمتنفذي البعث ومن خلفه المنظومة الأمنية العسكرية المتمكنة من كل مفاصل الدولة اقتصادياً وسياسياً وحياتياً.
إن الفرق بين طبيعة وهوية شكل الجمهورية السورية الأولى أو الثانية، هو ذاته الفرق القائم بين مبررات وضرورات قيام الثورة السورية العصرية. فالموقف من الحياة السياسية المدنية، والتنافس البرلماني والكتل السياسية وحرية الانتخاب والعقد الاجتماعي السوري المتآلف حول الوطن هي النقاط الأساسية التي بررت موضوعياً قيام ثورة الحرية والكرامة عام 2011، ضد حكومة العسكر ودولة سلطة البعث الأمنية التي جسدها نظام الحكم القائم طوال ما يزيد على ستين عاماً. وهي المبررات ذاتها اليوم التي تجتاح السوريين في تقاربهم السياسي من مشروعهم الوطني واحتفالات المزرعة في انتفاضتها في السويداء اليوم، خلاف مشاريع التقسيم أو التفتيت العمودي للبنية الاجتماعية والنسيج السوري. تلك التي أسست لها سياسات وممارسات نظام الحكم البعثي فيما يسمونه “سوريا العصرية”. وهو ذاته الفرق بين قيم الثورة وروحها النابذة للعنف وقتل المدنيين واستحقاق مقاومة الاحتلال، وهذا مختلف عن أن تكون سلطة البلاد هي جالبة كل أشكال الاحتلالات الروسية والإيرانية والاسرائيلية والأميركية والتركية! فالحرب التي شنّها النظام ونتائجها الكارثية على سوريا والسوريين حولت الثورة من عمل مدني وسياسي يستهدف التغيير السياسي إلى عمل عسكري طويل الأمد استنزف كامل بنى المجتمع السوري. وحول معظم الساحة السورية لمعركة دامية استجرت خلفها كل أشكال التدخلات الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى نمو قوى التطرف والإرهاب المتمثلة بالقاعدة وداعش والميليشيات الطائفية.
نحو الجمهورية الثالثة:
في الطريق إلى الجمهورية الثالثة السورية، يختلط الحديث بين منابر فكرية متعددة أو سياسية متخالفة ومتباينة وتصطدم جميعها لليوم في موضوعة الحسم السياسي أو العسكري في مسألة الحل السوري، هذا الحل الذي بات الأعقد لليوم من اشتباكات الحرب العالمية الثانية المتسعة على ساحة الكوكب. كيف لا والساحة السورية، والتي تصر سلطة البعث على الاحتفال بذكرى الاستقلال و”سيادة سوريا واستقلال قرارها السيادي” المبتذل، باتت ساحة عالمية تتكثف بها ساحة الصراع العسكري والمحاور السياسية الإقليمية والدولية والتي أتت على ثورة شعب يطلب استرداد دولته من حكم العسكر ويعيش في دولته الوطنية كجمهورية ثالثة يستحقها.
اليوم يجدد السوريون احتفالاتهم بذكرى الاستقلال ويعلنون أن سوريا دولة للسوريين وليست لقوى الاحتلال المتعددة وحكم العسكر. فنتائج حكمه حلقات متتالية من الاستبداد كنظام هيمنة وغطرسة، والذي ما إن يبدأ بالزوال من الحياة السياسية السورية حتى تبدأ مخلفاته ومنتجاته بالزوال معه وخلفه. حينها فقط يمكن للسوريين الاحتفال بذكرى فعلية لاستقلالهم وحريتهم لا من الاستعمار الخارجي وحسب، بل من أعتى نظم الاستبداد في المنطقة وأكثرها عنفاً.
* كاتب وباحث سوري
المصدر: تلفزيون سوريا