نبيل الهادي *
في محاضرة أخيرة، بدأ “يوهان روكستروم” أحد أكبر علماء المناخ بتعريف ما نعيشه حاليًا بما يعرف بالكوارث المتعددة، وحددها بأربعة وهي: أولها كارثة التغير المناخي وثانيها كارثة تدهور التنوع الطبيعي وثالثها كارثة الفيروس كوفيد ١٩ ورابعها كارثة الحرب في أوكرانيا وغزة.
ما شدد عليه فيما قال هو أن هذه الكوارث متداخلة معًا، وهو ما يجعل ليس فقط كل منها أسوأ ولكن التأثير المُجمل لها على منظومة كوكب الأرض والكائنات التي تعيش عليه، ومنها نحن البشر طبعًا، أسوأ بكثير وربما تدفعنا بصورة أكثر تسارعًا لمناطق خطرة للغاية في الحدود الكوكبية التي تجعل حياتنا على سطح الأرض ممكنة أصلاً.
ويؤكد هذا المفهوم على الفكرة التي أصبحت الآن مدخلنا الرئيسي لفهم ما يحدث، أي أننا نعيش في إطار منظومة شديدة التعقيد يترابط أجزاؤها معًا بصورة قد ندرك بعضها ولا ندرك الآخر.
ولكن النتيجة الأهم هو أن تأثر مناطق من تلك المنظومة، بغض النظر عن حجمها الجغرافي، سيؤثر بلا شك على باقي أجزاء المنظومة، فبعضها سيتأثر أكثر من البقية وبصورة أسرع ولكن المنظومة كلها ستتأثر في النهاية. النتيجة الأخرى التي لا تقل أهمية أن التعامل مع المنظومات المركبة وأجزائها التي هي في الأغلب منظومات فرعية مركبة هي الأخرى لن يأتي بنتيجة فعالة إذا اكتفينا بمحاولة التعامل مع العوارض أو ما يظهر على السطح منها متجاهلون أو غير مدركين للمنظومة كلها ولجذور المشكلات أو الكوارث والتي يجب التعرف عليها والتعامل معها إن أردنا أن نعالج تلك الكوارث أو التحديات المعقدة. وكما في الكوارث المركبة، وكما كان واضحًا مثلا في التغير المناخي، علينا جميعًا أن نعمل لأن الاكتفاء بتوجيه الأصابع للآخرين لن يساعدنا.
كذا أن الآخرين وإن اغتروا بما لديهم من قوة اقتصادية وسياسية وغيرهما وظنوا أنهم قد يستطيعوا التعامل مع تلك الظاهرة بما يُبقي على مكاسبهم وقوتهم بل ربما وجدوا فيها فرصة لمزيد من المكاسب، هم في الحقيقة واهمون كما يظهر في دراسات وأبحاث العديد من علمائهم، وكما يظهر في العديد من الحركات الاحتجاجية في بلادهم والتي بدأت في كشف زيف العديد من الادعاءات التي تتبناها الحكومات وأيضًا الممارسات المشبوهة والمضللة والتي لن تمكنهم من النجاة في النهاية.
نحن في هذه البقعة من الجنوب العالمي في مواجهة موقف مركب للغاية لا نملك إزاءه أن نترك مجتمعاتنا لمصير لا نرجوه بالتأكيد لأنفسنا ولأجيالنا القادمة.
ولظروف متعددة فإن إمكانات العمل المؤثر لدينا محدودة للغاية ولكنها كما أظن ليست معدومة. لهذا الإدراك بطبيعة تلك الكوارث وتداخلها وموقعنا كبشر والبيئة الطبيعية تأثير كبير للغاية في صياغتنا للإطار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
ولأن هذا ينبغي أن يبنى على بيانات متعددة وتحليل لتلك البيانات وأنماطها وما تعنيه الآن، وعلى المدى القريب والمتوسط نستطيع أن نبني حوارًا قائمًا على معلومات وفهم أفضل للسياق الذي تشكله تلك الكوارث المتعددة. وكما يطرح العلماء سيناريوهات مستقبلية لعواقب التغير المناخي طبقًا لمسارات العمل التي تتبناها وتنفذها الحكومات المختلفة، فنحن في أشد الحاجة إلى سيناريوهات محلية تُحول تلك الكوارث المتعددة من خلال بيانات مفصلة إلى ما يمكن فهمه ووضع بدائل حالية ومستقبلية للتعامل معه، ويمكن من خلالها إشراك أفراد المجتمع الذي سيتأثر كل فرد فيه بأي مسار نختار.
وضع التحديات التي تواجهنا في هذا الإطار يمكن أن ينتج مُخرجات مختلفة تماماً، لأن تصور الاقتصاد المصري في أطر النظريات الكلاسيكية للاقتصاد سيكون مختلفًا تمامًا لو وضعناه في إطار مواجهة التغير المناخي وتدهور التنوع الطبيعي وجائحة كوفيد ١٩ وحربي أوكرانيا وغزة. ومخرجات هذا الإطار ستساعدنا بلا شك في تحديد مناطق الضعف والفجوات والمسارات التي يجب أن نتبناها.
وهذا ينطبق أيضًا على فهم ما يحدث في منظومة الطاقة ومنظومة المياه ومنظومة الطعام ومنظومة التنقل وباقي المنظومات الأخرى. وستؤثر المخرجات المتوقعة على ما يجب أن نقوم به بصورة عاجلة خاصة في منظومة التعليم والصحة. تضعنا تلك الكوارث المتعددة أمام لحظات فارقة ليس في مصير الكوكب ومن عليه ولكن في مصير مجتمعنا.
كما ذكرني الأستاذ الدكتور “محمد أسعد عبد الرؤوف” (الأستاذ بقسم الفيزياء بكلية العلوم جامعة عين شمس) في أحد النقاشات، فإن المنظومات المركبة (ومجتمعنا أحد تجلياته) لا يمكن إصلاحها من خارجها لأنها تُصاب بالعطب ولكن يجب إصلاحها من داخلها. لا نستطيع أن نترك الآخرين يدرسون ويُخططون ويُقررون بدلاً منا أو بدلاً من جيراننا المستضعفين في أماكن أخرى؛ لأنهم ببساطة لن يستطيعوا. وسيتطلب أخذ أمورنا بأنفسنا الكثير من الجهد والعمل اللذين يُمثلان الجانب العلمي والفكري جزءاً لا يستهان به فيه، ولكن ليس لدينا بدائل أخرى إن أردنا أن نتخلى أو نتوقف عن أحلام اليقظة وبدأنا الإعداد لمستقبل أفضل.
* كاتب صحفي مصري
المصدر: الشروق