معقل زهور عدي
ليست الوحشية سلوكاً استثنائياً منقطعاً لا أصل له ولا جذور، هي ليست كذلك بالنسبة للإنسان الفرد، كما أنها ليست كذلك بالنسبة للجماعات، وأخيراً هي ليست كذلك أيضاً بالنسبة للحكام والحكومات.
فالإنسان بطبيعته يحمل نزعات عدوانية تتدرج في عدوانيتها من الرغبة في سلب الآخرين أموالهم ونساءهم وصولاً إلى ايذائهم وتعذيبهم وأخيراً قتلهم.
من أين جاءت تلك النزعات العدوانية؟
الحياة البرية تُجيب على هذا السؤال، فمن يراقب الحيوانات في سلوكها الاجتماعي، وكيف يقوم الذكر القوي بتخصيص نفسه بالإناث ويخوض من أجل ذلك معارك دموية, وكيف ينشىء عائلته ويؤمن لأطفاله الغذاء من لحم ودم فرائسه من الحيوانات الأخرى, أقول من يراقب ذلك كله يجد في النزعة العدوانية الإنسانية انتكاسة طبيعية نحو الحياة البدائية التي كانت تشبه حياة الحيوانات .
توقفَ “فرويد”- الذي يُعتبر بحق أحد مؤسسي علم النفس الحديث- طويلاً عند الغرائز الأصلية في الإنسان, ودورها في تكوين شخصيته, هذا الدور الذي لا يظهر منه سوى جزء بسيط يشبه رأس جبل الجليد, بينما ينغرس معظمه داخل ذاكرة الإنسان وخلفية وعيه (اللاوعي) والذي يبقى مقيداً بالعقل الظاهر، الذي يخضع للمفاهيم الاجتماعية والدينية والأخلاقية السائدة.. (الأنا والأنا الأعلى).
الوحشية هي في الحقيقة انفلات إحدى الغرائز حين تتحرر من قيود العقل, إما بالجنون أو بالهيستريا الفردية او الهيستريا الجماعية, حين يشعر الفرد أن انفلات غرائزه لم يعد أمراً مُعيباً او مُحرماً من قبل جماعته (حزب, هيئة اجتماعية, طائفة..) بل هو أمر طبيعي أو مطلوب !
ويفسر لنا ذلك عدم الشعور بتأنيب الضمير لدى ارتكاب جريمة شنيعة مثل قتل الأطفال, فالضمير هنا قد اختفى ضمن ضمير الجماعة الذي يتقبل ذلك الفعل بصدر رحب سواء بتبرير ديني أو عنصري أو بشعور غامض بالخوف من الآخر لدرجة الرغبة في ازاحته من الوجود .
يشرح لنا “فرويد” كيف تفعل الغريزة فعلها في التكوين النفسي بالتركيز على تاريخ بناء التكوين النفسي للفرد, فهذا التاريخ يبتدئ في مرحلة مبكرة للغاية من عمر الطفل حين يتعلق بأمه تعلقاً يشبه العشق, ثم يبدأ يلاحظ وجود منافس جبار له في حب الأم هو الأب, فينمو لديه شعور سلبي تجاه هذا المنافس, يصل إلى حد أن يتمنى أن يُحذف من الوجود, ثم لا يلبث ذلك الشعور أن يتراجع ليحل محله الرغبة في التماهي بشخصية الأب, لكن المرحلة السابقة لا تمر دون أن تترك بصّمتها, وتتمثل تلك البصمة في أثرين متناقضين: الرغبة في التخلص من الأب والشعور بالذنب نتيجة إحساس الطفل بوجود تلك الرغبة لديه في فترةٍ ما .
يربط “فرويد” بين التاريخ الفردي للتكوين النفسي للإنسان, والتاريخ الاجتماعي للتكوين النفسي للإنسان المُتحضر, فالإنسان المتحضر هو ذاته الإنسان البدائي بعد أن مر بمراحل تشبه المراحل التي مر بها الإنسان الفرد الطفولة والمراهقة والنضوج .
يبتدئ تاريخ الجماعات الإنسانية بمجموعات بشرية (ربما تكون بالعشرات) تشبه القطعان, هذه المجموعات التي تجتمع مع بعضها لتتمكن من الدفاع عن نفسها بوجه الوحوش وعوامل الطبيعة تبدأ بإحياء ذات القصة قتل الأب ثم تقديسه, فالأب القوي المستبد الذي يختار أجمل نساء الجماعة ويستأثر لنفسه بأكبر نصيب من الغنائم، يُراكم يوماً بعد يوم حسد وكراهية الأبناء حتى يأتي اليوم الذي يُقتل فيه, لكن قتله يسبب في زعزعزة استقرار الجماعة واشتعال المنافَسات ضمنها وتمزقها فتنمو نزعة الندم ثانية لتحوّل الأب لأيقونة أو طوطم .
هذه الحلقة المترابطة المتكررة عدداً غير محدود من المرات هي النواة التي كونت تاريخ الطفولة البشرية بما يشبه / ويتصل / بتاريخ الطفولة الفردية للإنسان .
يعزو “فرويد” كثيراً من الطقوس القديمة لتلك النواة, ومنها تقديم الذبيحة, فالذبيحة ليست سوى الأب المقتول الذي يجتمع الأولاد لأكله بعد قتله حتى يتخلصوا من الشعور بالذنب ولكي يكون أكله تماهياً مع روحه التي تتوزع فيهم .
أي أن الذبيحة هي استعادة السيناريو لمسرحية أصلية مع استبدال الممثلين أو لنقل الاستعاضة عن الكائن الأصلي برمز له .
يمكن بسهولة لمن يدرس بتتبع تاريخ القوانين البشرية اعتباراً من قوانين حمورابي التي ليست سوى تلخيص لخبرة القضاء في الحضارات المغرقة في القدم- ما قبل حمورابي- كالحضارة السومرية، بغض النظر عن الطابع الإلهي الذي أعطاه لها حمورابي حين صور نفسه في النقوش القديمة وكأنه يتسلم تلك القوانين من الآلهة, أقول: يمكن بسهولة للمتتبع لتطور تلك القوانين ملاحظة كم يزداد عنف العقوبات ويشتد ويأخذ طابعاً دموياً لأقل الأسباب كلما اتجهنا نحو القِدم, فعقوبة السرقة كانت القتل, وعقوبة إيواء العبد الهارب من سيده كانت القتل, وعقوبة اتهام الرجل لزوجته بالزنا دون دليل كانت أن ترمى في النهر فإن غرقت فهي زانية، وعقوبة العجز عن دفع الدين كانت العبودية وهكذا …
وشيئاً فشيئاً بدأت تخف تلك العقوبات مع تطور الحضارة, فعقوبة العجز عن دفع الدين أصبحت في الشريعة العبرية العمل لمدة محددة لدى الدائن, وبعدها لا بد من تحرير الشخص المدين. وعقوبة السرقة صارت قطع اليد وليس القتل, أما التي يتهمها زوجها بالزنا دون دليل فلم تعد تعّرض للامتحان السابق الرهيب بل تم استبداله بحلف اليمين في المعبد أمام رجل الدين .
هذا الخط المتصاعد من الاقتصاد في استخدام العنف نجده باستمرار في مختلف مراحل تقدم الحضارة الإنسانية, لكن ما يحصل مع الأسف هو أيضاً مراحل من الانتكاسات نحو العنف البدائي الكامن, مما يمكن تسميته بطفرات الوحشية التي تشبه اندفاع الصخور النارية من فوهات البراكين بين الحين والحين .
يمكن القول بكل ثقة: أن مفاهيم الرحمة والإنسانية والعدالة والمحبة هي مفاهيم وليدة للحضارة والمدنية, وبصورة أكثر تحديداً فهي مفاهيم نشأت وتبلورت في المدن, بينما كانت البداوة باستمرار أرضاً خصبة للعنف والوحشية .
مثلما كانت المدنية دائماً خلال آلاف السنين جُزراً محاطة بالمجتمعات البدوية القاسية, كانت القيم الإنسانية المرتبطة بها مقيدة ونسبية, كما كان هناك دائماً الانقسام الطبقي ضمن المجتمع المدني بين أحرار وعبيد, وبين أشراف لهم امتيازاتهم المرتبطة على الأغلب بخدماتهم المتميزة في القتال لحماية البلاد والحاكم وآخرون هم عامة الشعب من حرفيين ومزارعين وتجار.. الخ .
من أجل ذلك رأينا أن إنسانية الحضارة اليونانية وقيمها العليا مقيدة بالطبقة الارستقراطية, وحين يتصل الأمر بالعبيد فالأمر مختلف تماماً, أما روما التي ورثت الحضارة اليونانية دون أن تصل إلى ذراها الفكرية والفلسفية فقد كانت أكثر قسوة تجاه العبيد, وتجاه (البرابرة) الذين هم كل الشعوب الأخرى .
وتبدو طفرة الوحشية ضمن المدنية ظاهرة للعيان في حفلات المصارعة التي تنتهي بقتل المُصارع المهزوم أمام الجمهور المهووس بمنظر القتل الوحشي .
وحتى قبيّل انتصار المسيحية كان المسيحيون الأوائل يتعرضون للتعذيب وتقديمهم للوحوش في حفلات عامة للجمهور الذي كان يستمتع بمنظر دمائهم وافتراس الأسود الجائعة لهم وهم أحياء .
كانت المدنية ومفاهيمها الإنسانية دوماً مقتصرة على مجتمع معين, مدينة محددة, شعب محدد, طبقة اجتماعية محددة, وكذلك وإلى حد كبير مذهب معين وطائفة محددة .
وخارج تلك التعريفات كانت المفاهيم الإنسانية المرتبطة بالحضارة تُختزل إلى حد كبير, أو تضمحل, ليحل مكانها إباحة لوحشية كامنة يتم توجيهها نحو الخارج .
ولنأخذ اليهودية كمثال, فضمن دائرتها الداخلية هناك مفهوم الأخوة في الدين, وهناك التحريمات المعروفة وأهمها القتل, السرقة, الزنا, ومنها تحريم الربا ضمن اليهود, وتحريم استعباد اليهودي لليهودي . أما خارج دائرة اليهودية فالأمر مختلف, فالقتل ليس حلالاً فقط بل هو مطلوب أيضاً بالنسبة لكل الشعوب الساكنة في الأرض الموعودة .
ليس قتل المحاربين فقط ولكن قتل الجميع وحرق البيوت والمزارع, في معنى الإبادة التامة، وكذلك الربا فهو حرام ضمن اليهودية أما تجاه الآخرين (الغوييم) فهو حلال ولا مانع منه أبداً.
في المجتمع الإغريقي القديم الذي شهد بزوغ فكرة الديمقراطية, كانت الديمقراطية مقتصرة على الطبقة الارستقراطية التي تتضمن الأمراء المقاتلين ومُلاك الأراضي أما عامة الشعب والنساء فلا دور لهم في الديمقراطية بل هم خارجها .
الوحشية والعنف :
يمكن القول إن الوحشية هي صورة للعنف في أعلى درجاته, فليس يمكن تصور الوحشية بدون العنف, لكن الوحشية ليست فقط حالة تصعيد قصوى للعنف, فالعنف مهما ازداد يبقى موظفاً لخدمة هدف سياسي أو شخصي, أما الوحشية فهي شكل مُتفلت من أشكال العنف يمتد أكثر مما يتطلب الهدف ليتصل بنزعات مكبوتة من السادية والثأر .
فالتعذيب قبل القتل لا يمكن تفسيره سوى برغبة سادية مكبوتة تتلذذ بتعذيب الآخر, ورغبة في الانتقام والثأر.
وهنا ليس من الضروري أن يكون الشخص ذاته مرتكباً ما يستحق الثأر, فيكفي أن يكون مصنفاً ضمن الآخر حتى يصبح محلاً للثأر .
يرى “فرويد” في التحليل النفسي أن الشخص الذي يقوم بضرب ذاته إنما يُعبر عن رغبة مكبوتة في ضرب الآخر لا يستطيع تفريغها. وبالتالي فغني عن القول أن مثل ذلك الشخص سيفعل بالآخر مثل ما يفعل بنفسه بل وأكثر بكثير حين يكون ذلك مُتاحاً له .
ان طقوس التعبير عن الندم التي تتضمن تعذيب الذات لدرجة الاقتراب من القتل تُسبب في تكوين نفسي كاره للآخر ومستعد لنفيه من الوجود بطريقة غير واعية .
وكذلك الخوف الشديد من الآخر والانعزال عنه حين يتكرس في نفس الجماعة عبر مئات السنين يخلق روحاً جمعية مستعدة لإبادة الآخر لأجل تلبية حاجة النفس للطمأنينة وإنهاء الخوف .وهنا لا تصبح الوحشية صفة سيئة مُدانة أخلاقية كما لو كانت تتم داخل دائرة (نحن) وليس دائرة (الآخر) .
وحين يتم تحريض الشعور بالخوف من الآخر تتعاظم الوحشية بصورة أكبر بكثير من الحدث الذي تسبب في تحريضها, فبعكس ما يحدث في مجتمع طبيعي يتسبب مقتل شخص واحد أو حتى مجرد اشاعة مقتله في ردود أفعال هائلة لا تتناسب إطلاقاً مع الحدث المحرض لها .
يُثبت انبعاث النازية وما رافقها من جرائم تقشعر لها الأبدان مدى هشاشة ما أحرزته الإنسانية عبر التاريخ من تقدم أخلاقي ورغم هزيمتها أمام الديمقراطيات, لكن شبح عودتها, أو عودة ما يماثلها من ديكتاتوريات مازال ماثلاً .
ما ينبغي الإشارة إليه هنا أن جيوش التحالف الذي حارب النازية باسم الديمقراطية وباسم الشيوعية لم يكن أقل وحشية في الانتقام عند انتصاره على النازية, وأبسط شاهد على ذلك أعمال الاغتصاب للنساء وتعذيبهن وقتلهن بعد احتلال برلين، وهناك تقديرات متفاوتة لعدد النساء الألمانيات اللواتي تعرضن للاغتصاب والتعذيب، وتتراوح الأرقام بين المليون والمليونين في أوسع جريمة جماعية من نوعها تعرض لها شعب في التاريخ الحديث, تلك الجريمة الفظيعة التي جرى ويجري طمسها من قبل المنتصرين بينما تُنسب الوحشية للنازية فقط .
ولعل أكبر تحدٍ يواجه البشرية اليوم هو الاختيار بين تعميم مفاهيم الديمقراطية وحقوق الانسان على نطاق العالم بما يتناسب مع العولمة الاقتصادية وثورة الاتصالات وبين الإبقاء على تلك المفاهيم محصورة ضمن نطاق الحضارة الغربية والنظر للعوالم الأخرى باعتبارها خارج دائرة تلك المفاهيم أي باعتبارها (غوييم) من وجهة النظر الغربية .
ان بقاء تلك النظرة المزدوجة المعايير لا يُهدد فقط الحضارات والثقافات الأخرى ولكنه يُهدد ثبات واستمرار تلك القيم في الحضارة الغربية ذاتها .
تعطي الانطلاقة الوحشية لروسيا في قصفها للمدن والمدنيين في سورية بحجة مكافحة الإرهاب مؤشراً لإمكانية انبعاث البربرية المتسلحة بأكثر انواع الأسلحة فتكا وتدميراً, فالوحشية لا تعني البدائية في استخدام العلم والتكنولوجيا, بل يمكن للوحشية الانبعاث مترافقة مع أكثر أنواع الأسلحة تقدماً وتدميراً, والغرب الذي يغض النظر اليوم عن الوحشية الروسية حين يعتقد أنها موجهة ليس ضده بل ضد (الأغيار) سيدفع الثمن غالياً فيما بعد حين تخرج الوحشية من عقالها, لتبحث عن فريستها المُقبلة التي لن تكون سوى الغرب ذاته .
وبعد سنوات عديدة حدث ما كان متوقعاُ, وأصبحت المقارنة بين ما تفعله روسيا في أوكرانيا ضمن سياسة الأرض المحروقة وبين ما فعلته في حلب وغيرها في سورية مادة للعديد من الصحف في الغرب. لكن القليل فقط يربطون بين التواطىء الغربي مع روسيا وتغطية جرائمها في سورية وبين اندفاعها لغزو اوكرانيا متشجعة بما لمسته من تغطية لجرائمها في سورية, ويظهر ذلك كم أن الغرب مازال بعيداً عن فهم أن العالم لم يعد بالإمكان النظر إليه كعالميّن منفصليّن, عالم الغرب الذي تسود فيه قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, والعالم الآخر خارج الغرب, ذلك العالم المكافئ للنظرة التوراتية للأغيار الذين لا يمكن تصور تطبيق قيم الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان عليهم كما هو الحال بالنسبة للغرب .
صحيح أن تلك النظرة ظلت سائدة في أوربة لمئات السنين دون أن تهددها صرخات متناثرة لبعض الفلاسفة والمفكرين الأحرار, كما لم تكن تنعكس سلباً على أوربة ذاتها بل كانت أداة ايديولوجية مفيدة لنهب واستعباد الشعوب الأخرى, لكنها اليوم أصبحت عقبة في وجه العولمة, ولم يعد ممكناً تقسيم العالم إلى عالمين, وما فعلته روسيا في سورية والطريقة التي أفلتت فيها من أي مُسائلة لسياسة الأرض المحروقة, وشعورها بتحقيق الانتصار هناك دون أية ردود أفعال غربية كان بلا شك السُلم الذي صعد عليه بوتين ليصل إلى غزو أوكرانيا ثم اتباع سياسة الأرض المحروقة ذاتها ثانية.
المصدر: صفحة الكاتب على وسائل التواصل