محمد سامي الكيال *
أثار ما يعرف بـ«المنظمات غير الحكومية» كثيراً من الجدل في العالم العربي، منذ بروزها على الساحة السياسية مطلع هذه الألفية. إذ انتقلت من طابع «المنظمات الحقوقية» التي تؤرشف وتسجّل انتهاكات الأنظمة العربية لحقوق الإنسان، إلى خطاب أكثر شمولية، وخصوصية في الوقت نفسه، يقدّمها بوصفها المدافعة عن «فئات نوعية» معيّنة، على رأسها النساء والمثليون والمتحولون جنسياً، وغيرهم من الفئات «غير النمطية» في الثقافة والتشريعات العربية السائدة. في المرحلتين، أجمع أعداء تلك المنظمات على الهجوم عليها بحجة مصادر التمويل، إذ اعتُبرت «صنيعة» لسياسات غربية، تموّل أفراداً وجماعات، لأجل نشر سياساتها وأفكارها، وتحقيق سلسلة من الأهداف، من «تحطيم بنى الدول والمجتمعات» وحتى «الإمبريالية الثقافية».
يمكن رصد كثير من أساليب التعاطي مع تلك المنظمات، في الدول التي تُتهم بالسلطوية، مثل المجر وروسيا ومصر، والتي حاولت على الأغلب التضييق على عملها في جوانب معينة، لكن دون حظرها بشكل كامل، إلا أن هناك تطورات لافتة مؤخراً، إذ قامت روسيا مثلاً بتصنيف منظمة مؤيدة لحقوق المثليين ضمن لائحة الإرهاب، باعتبارها «متطرفة»؛ فيما واجهت بعض المنظمات هجمة كبيرة في العراق ولبنان، خاصة من طرف الميليشيات الموالية لإيران.
قد يبدو أن المشكلة مع تلك المنظمات تندرج في إطار الصراع السياسي بين «الغرب» وقيمه؛ ومجموعة من الدول والحركات السياسية، التي ترفض تعميم تلك القيم بشكل فوقي، إلا أن الصورة ليست بهذه البساطة، خاصة في العالم العربي، فحتى لو حُظرت كلمة «جندر» وواجه النساء والمثليون، وعموم «المهمشين» اعتداءات قاتلة في كل مكان، يظل هناك نوع من التعايش الغريب بين «المنظمات» والدول التي تعمل فيها. ومظاهر هذا التعايش لا تقصر على سعي المنظمات للبقاء والاستمرار في ظرف صعب، بل لها جانب مالي، عبر اقتصاد كامل للمعونات والإغاثة والمِنَح؛ والأغرب، جانب أيديولوجي، إذ بيّنت الأحداث الأخيرة، خاصة حرب غزة، أن أنصار «اللا نمطية» قد يصبحون في غاية النمطية، عندما يتعلق الأمر بمعارك كبرى ضد «الهيمنة الغربية» إلى درجة أنهم قد يدمجون كثيراً من البلاغة القومية والإسلامية في خطابهم «الذاتي».
يبدو كل هذا ظاهرة محيرة وصعبة التفسير: كيف يمكن لمتموّلين، من جهات غربية غالباً، أن يكونوا معادين لـ«الهيمنة الغربية»؟ وكيف يستطيع «لا نمطيون» تأييد أيديولوجيا قومية/إسلامية، لا تخفي نواياها في قمعهم، أو حتى إلغائهم جسدياً؟
منظمات الجيد والقبيح:
يدور في العراق حالياً جدل كبير، حول تعديل قانون المنظمات غير الحكومية، التي يُتهم كثير منها بأنها مجرّد «غطاء» إما لنمط من الفساد، أو لتخريب قيم المجتمع، أو دعم الإرهاب. إلا أن كل هذه الاتهامات لم تدفع أي طرف، مهما بلغ تشدده، إلى المطالبة بإلغاء وجود المنظمات من أساسه. على العكس، تبدو السلطات الحالية، وعلى رأسها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، المُتهم بـ«سودنة الدولة» أي جعلها فضاءً من المحسوبية للمقربين منه سياسياً وعشائرياً، مهتمة للغاية بدعم عمل المنظمات، والاستفادة منه، لكن بعد فرز المنظمات «الإيجابية» عن المنظمات «السيئة» التي تروّج لكل ما هو «قبيح» مثل تشبّه الرجال بالنساء، والمثلية، و«الجندر».
لا يبدو إذن أن هنالك خلافاً بنيوياً مع تلك المنظمات، وإنما تظل من ركائز سياسات الدول والجماعات المسلّحة المقرّبة منها، كل ما هنالك أن الأمور قد تصل إلى صِدام محدود مع خطاب عدد منها، في حالات معينة، ومنها الانهيارات الاقتصادية، والأزمات السياسية الكبرى، إذ يؤكد نقّاد تلك الدول أنها بحاجة إلى صناعة عدو داخلي في زمن الأزمة، للحفاظ على تماسك جمهورها. لكن لماذا لا يلغي سياسيون وقادة ميليشيات، مثل السوداني وحسن نصرالله، تلك المنظمات تماماً، على سبيل الحشد والتعبئة؟ ربما كان الالتفات إلى أنظمة التمويل المعقدة للمنظمات قادراً على تفسير ضرورتها، فهي مصدر غني للمساعدات المالية والعينية؛ كما أنها قد تقوم ببعض المشاريع الاجتماعية والتنموية المحدودة، في ظل استقالة أجهزة الدول من هذا النوع من المسؤوليات. ومن المستبعد أن تضيّع السلطات، في بلدان على قمة تصنيفات الفساد العالمية، مثل العراق ولبنان، فرصة الاستفادة من كل هذا.
يمكن القول إن شبكات معقدة من المصالح قد نشأت بفضل تمويلات المنظمات، تربط مسؤولين حكوميين وقادة ميليشيات ومتنفّذين محليين، بالعاملين والناشطين، القادرين على تأمين التمويلات، ما يدفع للحديث عن نوع من «منظماتية المحاسيب» على غرار «رأسمالية المحاسيب» Crony capitalism، أي الوضع الاقتصادي، الذي تلعب فيه المحسوبية، والعلاقة بأجهزة السلطة، دوراً كبيراً في حيازة الموارد والأصول، والقدرة على الاستثمار، وعقد الصفقات والشراكات، خاصة مع جهات خارجية. وقد ازدهرت تلك «الرأسمالية» في عديد من الدول العربية، إبان حقب «الانفتاح الاقتصادي» الذي لم يتخلّ يوماً عن الدور التوجيهي والتدخّلي المفرط للدول. يبدو أن «الانفتاح على العالم» في حالتي منظماتية ورأسمالية المحاسيب، يؤدي دائماً إلى تعزيز شبكات النفوذ والسلطة القائمة، وإعادة تدوير الفئات المسيطرة نفسها، لكن غالباً بوجوه شابة.
لكنّ «منظماتية المحاسيب» تبدو أكثر «عصرية» من ظواهر الانفتاح الأخرى، وذلك لأنها الأقدر على التمازج مع شبكات المصالح المعاصرة في الدول الفاشلة، التي تنحدر للحالة الميليشياوية. فـ«المنظمة» ذات بنية «مرنة» وهيكلية إدارية هرمية غير ديمقراطية، وهي بذلك تشبه الميليشيا تنظيمياً، في كلتا الحالتين، نحن أمام أجسام منفصلة عن أي متن اجتماعي متمتّع بالسيادة، وقادر على المحاسبة؛ لديها علاقاتها، وشبكاتها، وأيضاً صداماتها ومعاركتها، التي تتم في حيز متعالٍ عن العموم؛ وقادرة، في الوقت نفسه، على ادعاء تمثيل فئة أو هوية، أو حتى أمةً وديناً بأكملهما، دون أن تضطر لخوض حسابات السياسة الديمقراطية وتعقيداتها.
معظم «المنظمات» قادر إذن على التأقلم مع أكثر الظروف فساداً وانحداراً وقمعية، لكن ما مشكلتها مع «الغرب الازدواجي» والمُمَوُّل؟
عصر «نزع الاستعمار»:
قد يُفاجأ أي متابع للمفاهيم، التي تنشرها كثير من «المنظمات غير الحكومية» من مدى «تقدميتها» و«يساريتها» بل إن بعضها يبدو «راديكالياً» أكثر من خطاب ما تبقّى من الجماعات اليسارية المسلّحة حول العالم. سبب المفاجأة أن ممولين كبارا، ومنهم مؤسسات حكومية غربية، ورأسماليون مشهورون بـ«نيو ليبراليتهم» مثل جورج سوروس ومؤسسته «المجتمع المفتوح» لديهم اهتمام كبير بمفاهيم تتراوح من «نزع الاستعمار» وصولاً حتى إلى «استعادة المشاع».
بعيداً عن كل من نظرية المؤامرة اليمينية؛ والافتراض «اليساري» حول استيلاء الرأسمالية على القيم و«تسليعها» يبدو أن السياسات الرسمية لكثير من الدول الغربية، باتت أقرب لدعم أفكار «ما بعد الاستعمار» بكل ما يرتبط بها من قيم إيكولوجية و«تشاركية» وذلك لأسباب معقدة، منها بالتأكيد التغيرات الثقافية في المجتمعات الغربية المعاصرة؛ وكذلك ميل دول مختلفة لتصفية ذاكرتها مع المستعمرات السابقة، ودمج مواطنيها والمهاجرين إليها، ممن يتحدّرون من تلك المستعمرات؛ إلا أن تلك الأفكار لها أيضاً «ربحيتها» في إطار العولمة المعاصرة، إذ أن نقد «الماضي الكولونيالي» وتفكيك «المركزية الغربية» يجعل انتقال الأموال والمنتجات والبيانات أكثر سلاسة، عبر بيئات متنوعة ثقافياً، وذات تواريخ معقدة، خاصة وأنه يمنح «الاعتراف» بالمعاناة التاريخية لتلك البيئات، وخصوصياتها الثقافية والحياتية؛ ويمكّنها من التعبير عن تجربتها وذاكرتها الجمعية.
انتقلت تلك الأفكار لكثير من أنصار «المنظمات غير الحكومية» عبر التمويل و«التوعية» التي تقدمها المؤسسات الراعية، الغربية غالباً، وبالتالي فلا مشكلة جديّة لأولئك الأنصار مع «الغرب» مهما هتفوا ضده، تماماً كما لا صراع بنيوي بينهم وبين الشبكات الزبائنية والميليشياوية في الدول العربية. لكن إلى أي حد يمكن لتلك المعادلة أن تستمر، في شرط حدث مزلزل مثل حرب غزة؟
منظماتية الحرب:
يهتف كثير من أنصار «المنظمات غير الحكومية» للمقاومة اليوم، كما يؤكدون موقفهم ضد «الكولونيالية» ويبدو أنهم مستعدون لتقبّل، بل حتى تكرار، أكثر الصيغ الإسلامية والقومية تشدداً. ما يثير التأمّل، أنه باستثناء حالات محدودة، لقطع مؤسسات غربية التمويل عن بعض المنظمات في بداية الحرب؛ وحالات أقل عدداً، لرفض بعض المنظمات العربية استمرار تلقي التمويل من جهات معينة، فإن كل ذلك الحماس ضد الاستعمار، لم يؤثر جذرياً على التمويل في معظم الدول العربية. يبدو أن «نزع الاستعمار» الموصوف أعلاه، مبدأ راسخ لدى الممولين، واستراتيجية طويلة المدى، لا تتأثر بالهزّات الحربية.
من جهة الحكومات والميليشيات العربية، فقد تناسى كثير من «لا نمطيي» المنظمات خلافاتهم معها، والتهديد الجسيم الذي يتعرضون له، سواء عبر القوانين أو المسلّحين، ويبدو أن هنالك «شبكات» معينة، تساعدهم، أو تتغاضى عن بروزهم، بهيئتهم «اللا نمطية» ليهتفوا للمقاومة المكرّسة و«النمطية» جداً، في لبنان مثلاً. هل هنالك «لا نمطية» فعلياً إذن في العالم العربي؟ لا توجد مجتمعات كل أفرادها معياريون بالتأكيد، لكن حرب غزة الأخيرة بيّنت أن معظم الأيديولوجيات السائدة في المنطقة، مهما كانت «تقدمية» نمطية بالعمق. تبقى معاناة مئات آلاف البشر من الاضطهاد الاجتماعي، الذي لن يجدوا بالتأكيد حلاً لها في «المنظمات».
* كاتب سوري
المصدر: القدس العربي