الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

النهوض.. أو الزوال بعد حين

سمير العيطة *

لم يَعُد كثرٌ يتذكّرون أنّ أحد أسباب اندلاع «الثورة السوريّة الكبرى» ضدّ الانتداب الفرنسي، كان أدهم خنجر، ابن جبل عامل الذى قاد مقاومة الاحتلال منذ 1920. حاول الخنجر اغتيال الجنرال غورو سنة 1921 بين دمشق والقنيطرة. لكنّ الجنرال ومرافقيْه، الجنرال “كاترو” وحقي بك العظم، والي دمشق، نجوا من محاولة الاغتيال. وقام الجيش الفرنسي بملاحقة مُخططي الأمر: أحمد مريود، الدمشقي وإبراهيم هنانو، الحلبي. التجأ خنجر إلى منزل سلطان باشا الأطرش في قرية القريّة، حيث هاجمه الفرنسيّون واعتقلوه منه. فثار الأطرش وهاجم القوّات الفرنسيّة التي هرّبته بالطائرة إلى دمشق كي يُحاكم ويُعدم سنة 1923.

حينها، لم يكن الشعبان السوري واللبنانيّ ينظران بالحدة المتواجدة اليوم، إلى أن خنجر شيعي والأطرش درزيّ ومريود سنىّ وهنانو كرديّ. كان معظمهم يرون أن القوى العظمى خانت وعودها لهم بدولة مستقلة بعد أن حاربوا معها ضد العثمانيين، الذين هيمنَ حزب الاتحاد والترقّي على دولتهم ودخلت في صراعات داخلية عرقية ودينية ومذهبية. وكان وقعُ الخيانة أكبر بعد «مؤتمرهم السوري العام» الذي وضع فيه أبناء مُختلف المدن والمناطق والطوائف، بمن فيهم اليهود، دستورًا حضاريًا، ما زال يُعتبر اليوم أفضل ما أنتجه البلدان بعد ذلك من دساتير وتوافقات.

  • • •

التخوّف من الوعود الخارجيّة وألاعيبها عادَ من جديد خلال الحرب العالميّة الثانية. استقلالٌ تمّ إعلانه سنة 1941 مقابل المساعدة في طرد الفرنسيين المتعاونين مع النازية (حكومة فيشي) دون إنجازه، ووطنٌ للصهاينة وحدهم بدل فلسطين تعدديّة. نوديَ حينها بوحدة عربية، خاصة اقتصادية ودفاعية، انتهت إلى «جامعة عربية»، لم توحَدْ يومًا لا الاقتصادات ولا حتى تعريف من هو العدو وكيفية مجابهته. وكلف الأمر كي ترحل القوات الأجنبية اعتقالًا لحكومات منتَخبة وقصفاً لدمشق وبرلمانها وشكوى سورية- لبنانية مشتركة أمام مجلس الأمن الذي ساهم البلدان في إنشائه.

ثم أتت صدمة النكبة وتشريد الشعب الفلسطيني، والعدوان الثلاثي على مصر وزخم الهوية العروبية بعد أن فشل العدوان وتحرّرت الجزائر. إلا أن نكسة 1967 لم تَهزِم مجرد الجيوش المصرية والسورية والأردنية، بل أيضًا إمكانية التوافق العربي ولو بالحد الأدنى، ومركزية قضية فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني كقضية جامعة وموحدة. وما شهدهُ سوريا ولبنان وشهدته بعدها معظم البلدان العربية، بمن فيهم الشعب الفلسطيني، ليس سوى صراعات بينها وداخل كلٍّ منها.

كلٌّ يبحث عن طريقهُ وحده دون الآخرين، وكلٌّ يركّز على خصوصيته: تونس أولًا، والمغرب أولًا، ثم مصر أولًا، والأردن أولًا، ولبنان أولًا، هذا في الوقت الذي أقام فيه الأوروبيون اتحادًا وبرزت تجمعات اقتصادية كبرى في آسيا.

مُحقّ من يجهد لتنمية بلده وتقوية اقتصاده ولخلق الرفاهية لأبنائه وبناته. لكنّه لا بد أنه يعرف أن هذه التنمية والاقتصاد والرفاهية لا استدامة لها إذا كان المحيط القريب خرابٌ وفوضى.

وصحيح أن كل بلد عربي شهد تطورات اجتماعية واقتصادية، وخاصة سياسية، خلال عقود طويلة تجعل تحقيق التوافق صعبًا مع جاره. وصحيح أن الانقسام السياسي في البلدان العربية لم يعُد بين يسار ويمين، وبين سبيل وآخر لمحاولة تحقيق التنمية، بل بين تيارات تتبنى أفكارًا فئوية ومذهبية وإثنية، عادت كما خلال مرض الدولة العثمانية، لتعتمد كلٌّ منها على دولة خارجية لتحقيق طموحاتها وتتواجه مع «الآخر» الذي شاركها حياتها قرونًا طويلة، داخل حدود دولتها الحديثة وقبل إنشاء جدرانها.

إلا أن هذا كله لا أفق له، سوى كما جرى مع «الرجل المريض»، أي الدولة العثمانية في نهاية عهدها، الشرذمة والتبعية.. وخيانة طموحات هذا وذاك، وبالخصوص من قِبل من ادعى أنه الساند والداعم. ليس فقط في البلدان العربية التي أصبحت دولها «هشة» وتفجرت داخليًا، بل لدى الأخرى التي تغض طرفها عما يحدُث في جاراتها.

  • • •

إن منطق الصراعات العالمية الكبرى لا يأبه بالمنطق الفئوي عندما تسنح الفُرص. فكما استغلت دول كبرى وأخرى أقل شأنًا «الربيع العربي» وعدم حكمة القائمين على بلدانه لنشر الفوضى والتصارع بالوكالة، في ليبيا وسوريا واليمن واليوم في السودان، تستغل إسرائيل الفرصة لإنهاء القضية الفلسطينية.

ستة أشهر من القتل الإجرامي، رغم تُهمة الإبادة الجماعية من قبل محكمة العدل الدولية لإسرائيل والتواطؤ في هذه الإبادة لمن يدعمها. ولا وقف لإطلاق النار. بل عندما يقر أخيرًا مجلس الأمن بضرورة إيقافه وإيقاف تجويع أبناء وبنات غزة، لا يحدث شيء سوى مزيد من السلاح والذخائر للحرب وضوء أخضر لقيادات «الكيان»، ليس فقط لعملية «مضبوطة« (!) في رفح، بل للانتقال إلى الهجوم على جنوب لبنان وعلى سوريا.

ليست غزة قضية إسلام سياسي سني. وليس جنوب لبنان قضية إسلام سياسي شيعي. وليست سوريا قضية صراع مناطق وطوائف. وليست ليبيا قضية صراع فئوي بين شرقها وغربها بملبوسات مختلفة. وليست السودان قضية عشائر ومناطق.. وليست كل هذه الصراعات فقط قضايا إنسانية وضحايا من أطفال ونساء ورجال يُقتلون ويجوَّعون، يشهد العالم معاناتهم كل يوم على شاشات التلفزة.. في الوقت ذاته التي تثير هذه الشاشات ذاتها النعرات الفئوية حسب مصالح من هم وراءها، وتستقبل «خبراء» إسرائيليين ينثرون «سمومهم» أن الفلسطينيين هم المُعتدون!

ولن تُحلّ هذه القضايا جميعها لا في أروقة الأمم المتحدة ولا عبر اللقاءات الدبلوماسيّة. والعبرة في قادة إسرائيل الذين لم يعودوا يهتمّون بالعزلة الشعبيّة العالمية التي ترتّبت على إجرامهم، رغم الجهود الحثيثة التي يبذلونها في تهمة «الآخرين» بأنّهم مُجرمون ومُعادون للساميّة وفي تنشيط جميع «مجموعات الضغط» في أرجاء الدنيا لتسكيت الأفواه وقلب الحقائق. إنهم يستغلّون الفرصة.. لقلب الطاولة في المنطقة وشرذمة المحيط ولتوسيع الاستيطان. عسى أن يتناسى الجميع بعد خمس أو عشر سنوات، ما حدث.. وما سيحدث. وتعود سيادة «الواقع».. ومنطق المصالح.

  • • •

كل الصراعات التي تشهدها فلسطين وتشهدها دول عربية أخرى تُشكل مخاض تحولات المنطقة برمتها.. لن يَسّلمْ من جحيمها أحد. إنها علامات «مرض» لا شفاء منه إلا عبر الخروج من المنطق الضيق، الفئوي والمذهبي.. و«الخصوصي».

إما أن تنهض المنطقة برمتها سويةً للتنمية والحريات والتآخي والسلام.. كما حَلِمتْ يومًا.. أو تبقى عقودًا وقرونًا.. أرض حرب وصراعات «الآخرين».

* كاتب سوري وباحث  اقتصادي ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.