هوشنك أوسي *
ربّما يكون عنوان هذه المطالعة غريباً أو صادماً، أو غير منطقي، بالنّسبةِ للعرب والأتراك، مِمَّن لا يتابعون الخطّ البياني لتجربة زعيم حزب العمّال الكردستاني، عبدالله أوجلان، بشكلٍ دقيق، بعيداً عن السّرديّة الرّسميّة. ذلك أنّ هناك مَن يتحدّث عن تجربة الحزب وزعيمه، بكثير من السّطحيّة، والكلام المَطروق المُكرَّر في الإعلام، سواء بشكل سلبي (انفصالي، إرهابي، قومي، علوي، يساري…)، أم بشكل إيجابي؛ (زعيم، مناضل، قائد، قائد الشّعب الكردي…). وطبيعيٌّ جدّاً أن تثير السطور التالية سُخطَ أنصار أوجلان مِن المُريدين وغضبه، من دون أدنى محاولة لمناقشة الأفكار الواردة فيها، وتقليب الأمور على أوجهها، بعيداً من سرديّات “العمّال الكردستاني” وخرافاته وأوهامه التي حشا ويحشو بها رؤوس الموالين له، كأيّ حزبٍ عقائدي شرق أوسطي فاسد ومفسد، عسكرتاري واستبدادي.
لماذا يمكن توقّع ذلك من أنصار الحزب؟ لأنَّ “النّاس أعداءُ ما جهلوه. ومَن جهل شيئاً عابهُ”، على حدِّ القول المنسوب لعلي بن أبي طالب. ولأنّ الحزب ربّى ويربّي أنصاره على هذا السّلوك العدواني التّخويني- “التّكفيري”، ضدّ أيّ رأي نقدي يحاول نزع القداسة عن أوجلان وحزبه، وحَربه العبثيّة التي كانت ولمّا تزل، وستبقى تخدم الدّولة العميقة في تركيا، وتحصدُ أرواحَ الكُرد والتّرك الأبرياء.
مناسبة هذه الأسطر الحديثُ عن خرافة الزّعامة الأوجلانيّة، وأكذوبة “العزلة المفروضة على أوجلان” في سجنه في جزيرة إيمرالي منذ 1999. ذلك أنَّ الحزب، بعد إعلانِهِ الطّلاق المُبرم والبيّن من شعاراته التي تأسّس عليها ومن أجل تحقيقها (تحرير كُردستان وتوحيدها)، وصدّر نفسه ثورة وحركة تحرّر وطني كردستاني، بعد “اختطاف” زعيمه، لم يبق لدى الحزب ما يحرّك به مشاعر الشّارع الكردي الموالي له، غير هذه الأهزوجة الأكذوبة التي ظلّ يروّجها عقدين ونصف تقريبًا، على أنَّ أوجلان يعاني الأمرَّين والعذاب في سجنهِ، والأخبار مقطوعة عنهُ، بسبب العُزلة وحالة التّجريد التي تفرضها السّلطاتِ التُّركيّة عليه!
الموالون للعمّال الكردستاني، شأنهم شأن أنصار حزب الله اللبناني، أو شأن الموالين للجماعات العقائديّة الجهاديّة التّكفيريّة، وعيهم مُصادَر وكذلك قرارهم، ليس أمامهم سوى الولاء، وإبداء كلّ أشكال وأصناف الطّاعة العمياء، والتّسليم والإذعان لما يقوله الحزب. فكلامُه يُعتنق، ولا يُردُّ عليهِ. ومن يشذُّ عن ذلك خائنٌ، مارقٌ ومرتزق أجير، يجب أن يُعاقب.
ومن حفلات الافتراء على أوجلان، وأكذوبة العزلة والتّجريد، دعوةُ الحزب جماهيرَهُ على الأراضي الأوروبيّة، في 17 الشهر الماضي (فبراير/ شباط) إلى مظاهرة حاشدة في مدينة كولن الألمانيّة. وبعد استنفار الحزب عناصر منظمته في أوروبا، والتّرويج الإعلامي ذلك النّشاط شهرين، وتخصيص حافلات استأجرها لنقل مؤيديه من البلدان الأوروبيّة، ناهيكم عن ممارسة الجبر والضّغط والإكراه، بعد ذلك كله؛ نجح في جمع الآلاف في ساحة Deutzer Werft 50679 Köln. لكن إعلام الحزب قدّم على أن الحشود بلغت مئات الآلاف. يعني أكثر من ثلاثمائة ألف شخص، على أقلّ تقدير. لكن السّاحة لا تتسع لأكثر من عشرين أو ثلاثين ألفا، حدّا أقصى. ويمكن لأيّ شخص مشاهدة مكان الاعتصام- المظاهرة ـ المسيرة، بصرف النظر عن التّسمية، سيتأكّد من أنّه لا يتّسع لعُشرِ الرّقم الذي روّجه الحزب[1]. زيدوا على هذا وذاك، الصّور والفيديوهات، تقطع الشّك باليقين، وتفنّد أكذوبة الأرقام المُبالغ فيها جدّاً. أمّا البوليس الألماني الذي وجد في المكان لحماية المعتصمين، ذكر في بيان أنّ عدد المشاركين وصل إلى 15 ألف شخص[2]. إذن، قياساً على هذه المبالغة الكبيرة في الأعداد الحقيقيّة المشاركة في نشاط كولن “الاحتجاجي”، يمكننا تخمين الكمِّ المهول من الخرفات والأوهام التي يسوّقها الحزب عن نفسه وعن زعيمه، ويحقنُ بها أذهان مؤيديهِ على أنّها حقائق دامغة مُطلقة، غير قابلة للنّقاش والدّحض!
خدمات أوجلانيّة:
السّؤال الذي لا يطرحهُ المحازبون “الأوجلانيون”: لماذا تفرضُ تركيا العزلة والتّجريد على أوجلان؟ ما الخطر الذي يشكّله هذا الرّجل على أمن تركيا واستقرارها؟ وللإجابة، ينبغي العودة إلى كُتب أوجلان التي خرجت من سجنه، تحت أنظار وبموافقة الاستخبارات التركيّة. صيغت تلك الكتب على أنّها “مرافعات” مقدّمة للمحاكم التركيّة ولمحكمة حقوق الإنسان الأوروبيّة، وطُبِعت في تركيا أيضاً، وبيعت في المكتبات التُّركيّة. تلك الكتب ــ المرافعات، المراجعات، اتّخذها الحزب كدستور عمل استراتيجي، لفترة ما بعد اعتقال أوجلان. وكلّ ما طالب به الأخيرُ حزبه، جرى تنفيذهُ بالحرف والنصّ. بموجبها، تمّ إجراء تعديلات وتغييرات جذريّة، طاولت بنية الحزب؛ أهدافه، شعاراته. بل وصل الحال بأوجلان وحزبه إلى مدح مؤسِّس الدّولة التّركيّة مصطفى كمال أتاتورك، ومدح المرحلة التأسيسيّة للجمهوريّة التركيّة، وأنّ الشّعب الكردي وزعيمه الشّيخ سعيد بيران، استعجل في الانتفاضة على الجمهوريّة الوليدة (راجع مرافعة أورفا – عبدالله أوجلان. منشورات حزب العمال الكردستاني). وأنّ تلك الانتفاضة لم تكن قوميّة، بل ذات طابع ديني، هدفها استعادة دولة الخلافة… إلى آخر تلك التّخرّصات التي كان الهدف منها تبنّي الرّواية الرّسميّة للدولة التركيّة وقتذاك، والتي بموجبها، تمّ إعدام الشّيخ سعيد بيران ورفاقه سنة 1925. صار أوجلان، بموقفه ذاك، يبرّئ ساحة أتاتورك وذمّته مما ارتكبه في حقّ الكُرد، سواء في انتفاضة 1925، أم في انتفاضة 1938، التي اعتذر عنها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، سنة 2011[3].
بمعنى آخر، عبدالله أوجلان، منذ لحظة استيقاظهِ على متن الطّائرة التي أقلّته من نيروبي إلى أنقرة، ملتزمٌ تمامًا بما قاله: “أريد خدمة تركيا. أنا أحبُّ الأتراك. أمّي تركيّة….”[4]. وعليه، بفضل أداء أوجلان وتعليماته، لم يخرج حزبُه عن السّيطرة. تَحدُثُ أحيانًا خروقات هنا وهناك، لكن أوجلان، ومن خلفه الدّولة العميقة في تركيا، بقيا مسيطرين على “العمّال الكردستاني”. حتّى تلك الخروقات (الاشتباكات العسكريّة)، مِن دون استثناء، جرى استثمارها لصالح حزب العدالة والتّنمية (الحاكم) بشكل خاصّ، ولصالح تركيا بشكل عام، على الصّعيد الداخلي والإقليمي والدّولي. يعني، بفضل هذا الحزب وزعيمه، تحافظ تركيا على وجودها العسكري والاقتصادي في العراق وكردستان العراق، حتّى أكثر من وجودها في جمهوريّة قبرص الشّمالية التابعة لتركيا! وبفضل هذا الحزب، جرى احتلال مناطق عفرين، رأس العين، تل أبيض…، ومناطق أخرى على الشّريط الحدودي السّوري- التّركي. وغالب الظنّ إنّ مصير هذه المناطق، بعد عقد أو عقدين، كمصير أهالي لواء إسكندرون، وسيُصار إلى ضمّها لتركيا، عبر استفتاء شعبي صوري، كالذي جرى سنة 1939.
معطوفاً على ما سلف، القاعدة الجماهيريّة المؤيدة لأوجلان وحزبه، سواء في تركيا أم سورية أم العراق أم المهجر، هذه الحشود غير القليلة، مشحونة بمشاعر كراهية وبغضاء شديدة تجاه كردستان العراق، وعشيرة البارزاني، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وإزاء أيّ طرح استقلالي، بالضّدِّ من العقيدةِ الأوجلانيّةِ الحاليّة؛ الكارهةِ والطّاردة أيّ مشروع قومي يسعى إلى تشكيل كيان كردي مستقل. إلى درجة أنّ أنصار أوجلان أهانوا علم كردستان العراق مرّات عديدة، بالطّريقة نفسها التي أهان بها المتطرّفون الأتراك العلم الكُردستاني.
إذن، والأحوال تلك؛ لماذا تفرض تركيا العزلة على أوجلان، وتسمح لأنصارهِ بدخول البرلمان التُّركي، وتشكيل كتل نيابية فيهِ، وتمنحُ الدّولةُ التُّركيّة من ميزانيتها تمويلاً لهذا الحزب، الذي تعرف أنّه الجناح العلني القانوني والرّسمي لـ”العمّال الكردستاني” في تركيا؟ لماذا تفرض تركيا العزلة على رجلٍ، تؤكّد الأرقام والمؤشّرات أنّه يخدم مصالحها؟ وربّما يتساءل أحدهم: لماذا لا تُطلق سراحه، طالما أنّه يقدّم هذه الخدمات الجليلة لتركيا؟
أية عزلة؟
ربّما لا يعلم كُثر أنّ مكان أوجلان، (يُفترض أنّه سجن جزيرة إيمرالي) يحظى بحماية قوّات البحريّة والجويّة التّركية. وأنقرة لن تطلق سراح أوجلان، إلاّ إذا اقتضت المصالح التركيّة ذلك، وأصبحت فوائد وجوده خارج السّجن، أضعاف ما تجنيه تركيا من وجودهِ داخل السّجن. هذا إذا كان موجوداً أصلاً في السّجن، كما تروّجه تركيا و”الكردستاني”، على حدٍّ سواء.
بِحُكم أنّ كاتب هذه المقالة كان مؤيدًا لحزب العمّال الكردستاني، ومدافعًا عنه، في الإعلاميْن العربي والكردي، حين كان ملاحقاً من النّظام السوري (2003-2010) وقبل ذلك أيضاً، وعملتُ ضمن المؤسّسة الإعلاميّة التّابعة للحزب، ما زلتُ أمتلك بعض الخيوط (المصادر) التي تسرّب لي بين الفينة والأخرى، بعض المعلومات الحسّاسة. منها: ليس أوجلان في عزلة. بل يتواصل بالهاتف مع بعض القياداتِ الثّقاتِ الموجودة في أوروبا. يوجّه بعض النّصائح والتّعليمات. كيف يجري ذلك؟ يتّصلُ مسؤول أمني تركي مكلّف بأحد الكوادر القياديّة قائلا: “غدًا في السّاعة كذا، سيتّصل بكم عبدالله أوجلان”. بالفعل، يتمّ الاتصال، وتكون مدّته تتراوح بين 20 إلى 40 دقيقة، وتصل أحياناً إلى ساعة. وفي آخر اتصال أجراهُ أوجلان، ركّز على ثلاث نقاطٍ رئيسة: إنَّ أردوغان أصبح يسيطر بشكل كامل ومطلق على كلِّ مفاصل الدّولة. سابقا كان أوجلان يبحث عن مُخاطب (مُحاوِر) والآن وجدتُه. [يقصد أردوغان]. على الحزب عدم ارتكاب أعمال عنيفة (الأعمال العسكريّة). في الانتخابات البلدية المقبلة (نهاية مارس/ آذار) يجب ألا يكون “العمّال الكردستاني” مطيّة لأيٍّ من الطّرفين؛ حزب العدالة والتّنمية، وحزب الشّعب الجمهوري. ما يعني أنّه يودُّ تحييد أصوات الموالين للكردستاني. طبعاً، أوجلان حين يطالب جماعته (HDP – DEM) بالحياد، هذه يعني أنّه يرفض أيّ اتفاق سرِّي أو علني مع حزب الشّعب الجمهوري (CHP) بالضّدّ ممّا فعلهُ “الكردستاني” في الانتخابات البلديّة والبرلمانيّة السّابقتين. ولأنّ الأصوات الكرديّة هي “بيضة القبّان”، مجرّد تحييد أصوات الجماعة القنديلية (نسبة إلى جبل قنديل حيث قيادات الحزب- الأوجلانية)، هذا يعني، بشكل غير مباشر؛ ترجيح كفّة “العدالة والتّنمية”. ذلك أنّ أوجلان لا يمكنه أن يطلب من جماعته بشكل صريح ومباشر؛ التّصويت لحزب أردوغان. إذا فعل أوجلان ذلك، فسيفتضح السّيناريو الخفي، والميل والتّبعيّة الأردوغانيّة.
المقصد ممّا سلف ذكره أن أوجلان ليس في عزلة، بل يتواصل مع حزبه عبر الاتصال الهاتفي، بالتّنسيق مع الدّولة. وأنه حاليّاً أردوغاني الميل والهوى. وهذه فكرة كتبتُها في مقال سابق، نشره موقع تلفزيون سوريا في 8/5/2019 بعنوان: “هكذا تكلّم أوجلان الأردوغاني”[5]، أشرتُ فيه إلى أمور طالب بها أوجلان، وكانت كلُّها تصبُّ في صالح “العدالة والتنمية”، وزعيمه أردوغان، ومصلحة الدّولة التّركيّة.
خرافة الزّعيم المعصوم:
يحلو لأنصار حزب العمّال الكردستاني وصف زعيمهم بأنّه “مانديلا” الكُرد. لكن، بمقارنة بسيطة بين سجنيهما ومستوى الخدمات والحماية، نرى الفارق المهول بينهما، لصالح سجن زعيم “الكردستاني” طبعاً. زد على ذلك، منذ اختطاف و”اعتقال” أوجلان، لم يسجّل التّاريخ أنّه أضرب يوماً واحداً، احتجاجاً على سوء المعاملة، وطلباً لتحسين أوضاعهِ “المزرية البائسة”! في الوقت عينه، يضرب مئاتٌ من كوادر الحزب وعناصره في السّجون التّركيّة عن الطّعام، لعشرات الأيّام، بهدف تحسين أوضاع أوجلان.
ثمّة مؤشّرات عديدة تلقي بظلال الشّك والشّبهة حول حقيقة زعامة أوجلان، ومدى علاقتها بالدّولة العميقة في تركيا، إلى درجة يمكن القول فيها: عبدالله أوجلان، سرُّ من أسرار الدُّولة التُّركيّة، ستحاول الحفاظ عليه، وحمايته، ولن تكشف عنه، حتّى بعد استنفاد خدماته، والتخلّص منه. ومن تلك المؤشّرات:
أولاً، عندما كان أوجلان في دمشق تحت رعاية نظام حافظ الأسد وحمايته ودعمه، كان يعيشُ حياة مرفّهة، يجوب الأماكن السياحيّة (تؤكّد عشرات الصور ذلك وتوثّقه) بينما يرسل أبناء الكرد وبناتهم إلى القتال والموت في جبال كردستان.
ثانياً، صدرت كُتبٌ عديدة، سواء لضبّاط أتراك متقاعدين، أم لصحافيين استقصائيين، يؤكّدون علاقة أوجلان بالاستخبارات التركيّة. على سبيل الذكر، الصّحافي التُّركي أوور ممجو (Uğur Mumcu) الذي اغتيل سنة 1993[6] بسبب كتابه عن أوجلان ونشأة “الكردستاني” وعلاقته بالاستخبارات التركيّة. والعقيد المتقاعد حسن أتيلا أوور (Hasan Atilla Uğur) الذي كان أوّل من حقق مع أوجلان[7]، وعمل منتصف التّسعينيات مُلحقاً عسكرياً في السّفارة التركيّة في دمشق، وسَكَنَ شقّةً في بنايةٍ (في حيّ المزّة الدّمشقي) فيها أيضًا شقّة لـ”العمّال الكردستاني”، كان أوجلان يتردّد عليها. معطوفًا على ما سلف؛ السّفير التُّركي في دمشق، طوال فترة التّسعينيات؛ صبري جينك دوعاءتَبه (Sabri Cenk Duatepe) [8] كان عديل يالجين كوجوك (Yalçın Küçük) صديق أوجلان، وأستاذه، وضيفه الدّائم في دمشق. وكان كوجوك يخرج من عند أوجلان في دمشق، ليزور عديله السّفير التّركي، وقتذاك.
ثالثاً، منذ 1993 وشيوع أخبار عن علاقة أوجلان بالاستخبارات التركيّة (MIT) ما عاد في إمكانه نفي ذلك، وحصر الأمر في بداية تأسيس الحزب (1975- 1978). وبرَّر الأمر أنّه كان يخدع الدّولة واستخباراتها. طبعاً، يصدّق المحازبون هذه الأكذوبة المضحكة، أن شخصاً مثل أوجلان نجح في خداع دولة، عضو في حلف النّاتو.
رابعاً، معظم أعضاء اللجنة المركزيّة الذين أسّسوا حزب العمّال الكردستاني في 27- 28/ 11/ 1978، إمّا قتلوا بأوامر من أوجلان، أو قضوا نحبهم في السّجون التّركيّة أو الجبال، ولم يتبقَ سوى أربعة: عبدالله أوجلان، جميل بايق، دوران كالكان ومصطفى قره. هؤلاء لم يصب أحد منهم بخدش، طوال فترة الصّراع مع تركيا.
خامساً، طوال فترة وجود أوجلان في سورية ولبنان (1979- 1998)، لا يوجد في أرشيف الحزب وأدبيّاته سطر واحد، عن أيّة محاولة اختطاف أو اغتيال استهدفت أوجلان، سواء في لبنان أم في دمشق، باستثناء محاولة واحدة جرت في صيف 1996، قريباً من معسكر الحزب في ريف دمشق (منطقة شبعا، على طريق مطار دمشق الدّولي). وبالرّغم من أنّ معسكر الحزب في سهل البقاع اللبناني كان معروفاً للأتراك، وتركيا كانت ترسل صحافيين يعملون في صحف تابعة للدولة (حرييت، ملليت) كي يجروا مقابلات مع أوجلان، لو كان الأخير يشكّل خطراً كبيراً، لماذا لم تحاول تركيا اختطافه أو اغتياله، وقتذاك؟
سؤال:
أحد المتابعين لقناتي على “يوتيوب” طرح سؤالاً مفاجئاً، وأعتبرهُ مهمّاً: لماذا سعت تركيا إلى استرداد أوجلان من دمشق؟ بتلك الطّريقة الهوليوديّة المعروفة، والتي بات “العمّال الكردستاني” يحييها كلّ 15 فبراير/ شباط، باعتبارها “المؤامرة الدّوليّة على أوجلان والشّعب الكردي”، وانتهت باختطاف زعيم الحزب من نيروبي!
أعتقدُ أنّ محاولةَ اغتيال أوجلان الفاشلة، بسيّارة مفخّخة، في دمشق، صيف 1996، كما ذكرت، لم تكن من تدبير الدّولة العميقة، بل أحد أجنحة الدّولة. دقّت تلك المحاولة ناقوس الخطر على حياة أوجلان، فإذا مات رجل تركيا الخفي، من دون أن تحضّر الدّولة بديلاً له، غالبُ الظّنِّ أنَّ الحزبَ سيخرجُ من تحتِ السّيطرة. لذا، لن يكون هناك مكان أكثر أماناً من حضن الدّولة العميقة، حتّى يستكمل أوجلان فيهِ مهامّهُ وخدماته للدّولة.
زدْ على هذا وذاك، نجحت تركيا في فرض اتفاق أضنة الأمني المُذلّ والمهين على نظام الأسد الأب. بموجبه، تخلّى النّظام السّوري نهائيّاً عن لواء إسكندرون السّوري لتركيا. ناهيكم عن إطلاق يد تركيا في الشّمال السوري لمسافة تزيد عن 20 – 30 كيلومتراً. كما نجحت تركيا في استنزاف طاقات الكرد في سورية والمهجر، عبر إلهائهم بصراع دموي عبثي، ووجدت لنفسها موطئ أقدام في كردستان العراق. إذن، حياةُ أوجلان في غاية الأهميّة لمصالح تركيا في الدّول الإقليميّة، بخاصّة سورية والعراق. وهذا ما يحدُث، من تحت الطّاولة، أمّا فوقها، فمزيج من الصّراع والتّصادم العسكري والإعلامي الذي يصبّ في طاحونة المصالح التركيّة، أيضاً وأيضاً.
حاصل القول: تشير مجمل تفاصيل (ونقاط) الخطّ البياني لتجربة أوجلان، أقلّهُ منذ 15 فبراير/ شباط 1999 إلى أنّه “زعيم” كردي، يمدح أتاتورك، الذي أباد الكرد، ودمّر اتفاقيّة سيفر. وصار أوجلان يطالب بالجمهورية الديمقراطيّة، التي هي إحدى المبادئ الأتاتوركيّة التي يقسم بها أعضاء البرلمان التّركي. أوجلان حالياً؛ أتاتوركي على أردوغاني، ومبرمج وفق مصالح الدّولة العميقة في تركيا. لا أكثر، ولا أقل.
………………
هوامش:
[1] القسم العربي في وكالة فرات نيوز التابعة للعمال الكردستاني: 18/2/2024 – “سجل التاريخ مسيرة 17 شباط في كولن! مئات الآلاف قالوا؛ القائد آبو هو إرادتنا”
[2] تصريح البوليس الألماني: 15 ألف شخص شاركوا في اعتصام كولن المؤيد لأوجلان والكردستاني
[3] القدس العربي – 23 نوفمبر 2011: أردوغان يعتذر عن المجازر ضد الأكراد العلويين في ديرسم في ثلاثينات القرن الماضي
[4] تصريحات أوجلان على متن الطائرة: 15/2/1999
https://www.youtube.com/watch?v=okhq–ozeto
[5] مقال: هكذا تكلّم أوجلان الأردوغاني. موقع تلفزيون سوريا 8/5/2019
[6] أوور ممجو: الكاتب والصحافي الاستقصائي التركي
https://en.wikipedia.org/wiki/U%C4%9Fur_Mumcu
[7] العقيد المتقاعد حسن أتيلا أوور يوقع كتابه “كيف استجوبت أوجلان” 27/9/2014 – سي أن أن تورك
https://www.cnnturk.com/kultur-sanat/kitap/ocalani-sorgulayan-albay-ugur-kitabini-imzaladi
[8] السفير التركي في دمشق: صبري جينك دوعاءتبه
https://tr.wikipedia.org/wiki/Sabri_Cenk_Duatepe
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب كردي- سوري، وروائي مقيم في بلجيكا
المصدر: العربي الجديد