علي محمد فخرو *
لنقارن بين زخم الدعم الشعبي العربي في الخمسينيات من القرن الماضي لكل شعب عربي في أي قطر عربي يواجه الاستعمار، مثل مواجهته في مصر أو فلسطين أو الجزائر، وبالتالي الضغط على أنظمة الحكم لتتبع خطاه، حتى لو كانت مرغمة على ذلك.. لنقارن تلك المشاهد التضامنية الرائعة، باسم الأخوة والهوية العروبية الواحدة، بمشاهد حراكات الشعوب العربية المترددة الخائفة التائهة، وبالتالي مواقف أنظمة حكمها العاجزة المخجلة غير الأخوية، تجاه حملة الإبادة التي ترتكبها القوى الصهيونية ومناصريها من الاستعماريين في فلسطين المحتلة، وعلى الأخص في غزّة، المحاصرة المدمرة الملطخة بدماء شهدائها وأطفالها ونسائها في كل مكان.
ما الذي كان يحرك ذلك الزخم الرائع في الخمسينيات، وما الذي أوصل إلى مشاهد الضعف والذل التي تميز أيامنا؟
الأسباب كثيرة، ولكن أهمها وأكثرها تألقاً هو وجود الأيديولوجيا القومية العروبية الملتزمة المناضلة، وترسخها في الجسد الشعبي العربي في الخمسينيات مقارنة بتراجعها والعبث بها الذي يميز الحاضر. من هنا الأهمية الكبرى لموضوع الأيديولوجيا، الذي قدمنا له في المقالتين السابقتين، وسنستمر في إبراز كل جوانبه كجزء من الثقافة السياسية الضرورية لشابات وشباب هذه الأمة. لن تتحرك الحياة السياسية العربية الآسنة التائهة، وشلل وجودها في صفوف الجماهير الشعبية وفي مؤسسات المجتمعات العربية المدنية، لن تتحرك إلا إذا حسمنا بصورة قاطعة موضوع الأيديولوجيا في الحياة السياسية لتكون هي المجيّش وهي المفعّل وهي أحد أهم طرق الصعود إلى المستقبل العربي.
إذن، لنواصل نقاش الموضوع:
سواء في المجتمعات الأخرى، أم في بلاد العرب تركز نقد، ومن ثم رفض، فكرة الرجوع إلى إحياء الأيديولوجيات الكبرى الشهيرة، تركز على بعض ممارسات تلك الأيديولوجيات الخاطئة وممارسيها، أكثر مما تركز على مبدأ وجودها الفكري، أو على مبدأ أهمية لعب دورها الضروري في الحياة السياسية لتلك المجتمعات. ويدرك أغلبية الناقدين أن التفتيت والتسطيح والتعليب الفكري والحياتي والسلوكي، الذي ران على هذا العالم، من خلال الثقافة الجماهيرية النيوليبرالية الرأسمالية العولمية السطحية، لا يمكن مواجهته إلا بأيديولوجيات متنوعة تحاورية دائمة التجدد وبراغماتية غير متزمتة، أو منغلقة على ذاتها. إن أشد ما يؤخذ على طرح وممارسة الأيديولوجيات في السابق هي أنها كانت لا تحاور الآخر الأيديولوجي، وإنما تسعى إلى تهميشه أو استئصاله. كانت تلك منهجية تفتقد للعقلانية المتزنة وللروح الديمقراطية، وتؤدي بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى تطويع الجماهير والتلاعب بعقول شبابها وشاباتها على الأخص. وباختصار تمثلت الاعتراضات على وجود الأيديولوجيات تحت ثلاثة عناوين كبرى: أولاً، افتراضاتها من أنها وحدها تعرف الطريق إلى بناء المجتمعات الإنسانية المتحضرة، وأنها وحدها لديها القيادات القادرة على إدارة وقيادة وصون التغيرات السياسية والاجتماعية المطلوبة، سواء في شكل الحزب القائد أو الانقلاب العسكري المنجي أو غيرهما، وثانياً، فشلها في الاعتراف بأهمية وضرورة التنوع والتعدد الأيديولوجي.. وثالثاً، الصلات الحميمة بين بعضها وقوى التسلط والديكتاتورية الشمولية، مثل علاقات بعض الليبراليين بالفاشية والنازية في ألمانيا وإيطاليا وعلاقات بعض الاشتراكيين والشيوعيين بالستالينية في روسيا.
في بلاد العرب، من خمسينيات القرن الماضي إلى نهاية القرن واجهت الحياة السياسية في العديد من الأقطار العربية تلك الإشكالات الفكرية والسلوكية والعلائقية المشبوهة نفسها، بين الأيديولوجيات التي حملها هذا الحزب أو ذاك، أو ادعى هذا النظام أنه حاميها ومجسّدها أو ذاك، لنكتشف بعد حدوث كوارث عديدة في الكثير من الأقطار العربية، أن أحد أسباب تلك الكوارث هو الفهم أو التعامل الخاطئ لهذه الأيديولوجية أو تلك. ونحن على الأخص معنيون بالدرجة الأولى بالأيديولوجيا القومية العربية، بشتى صور طرحها ومسمياتها. فهذه الأيديولوجيا هي التي كانت بالفعل التي نجحت في أن تكون جزءاً من ضمير ووجدان الملايين في كل أقطار الوطن العربي، وهي التي كانت مرشّحة لأن تنقل الأمة كلها من حال تاريخي متخلف إلى حال متقدم متمدن إنساني. ولكن دعنا نؤكد أن المهم ليس ممارسة النقد لما مضى، وهو جزء من التاريخ الذي يجب أن نتعلم منه، وإنما المهم هو الإجابة على السؤال التالي: هل ما زالت أوضاع الأمة العربية، التي تغيرت كثيراً في السنين الأخيرة، ستحتاج إلى أن تكون الأيديولوجيات جزءاً من مسارح أنظمتها السياسية المطلوبة، وعلى الأخص لنجاح النظام الديمقراطي، الذي ننشد الانتقال إليه، أم سنحتاج إلى التفتيش عن مسار آخر، غير أيديولوجي، لنسير فيه؟
* كاتب بحريني
المصدر: القدس العربي