عبد الباسط حمودة
«البعض يقفـون عند هـزيمة حزيران/ يونيو 1967، على أن صدمتها كانت السبب الجوهري في تراجع حركة القومية العربية وانكفاء فكرنا القومي، وأنا لا أذهب هذا المذهب؛ الحق أن هزيمـة حزيران كانت نكسة وحادثاً كاشفاً، وهي ما هزَمَتْ إلا نمطاً من التفكير وطرازاً من القيادات ومن البنى السياسية والعسكرية والمجتمعية أيضاً لم تكن في مستوى مواجهـة التحديات التي اعترضت سبيلها والمهمات التي ألقيت على عاتقها؛ أما حركة الشعوب فقد ظلت ثابتة عند أهدافها القومية، تطالب بالمراجعة والتغيير وتطـالب بالتصدي ومواصلة المسيرة». {جمال الأتاسي – حياتي بين الفكر والسياسة (1990)}
لقد كانت المشاركة العامة الأخيرة للدكتور جمال الأتاسي في المؤتمر الثامن لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي الذي انعقد يوميّ 20 و21 آذار/ مارس 2000، وقد كان له كلمة هامة في جلسة المؤتمر الافتتاحية باعتباره أميناً عاماً للحزب، وقد جلس حوالي 18 ساعة على كرسيه يتحمل الكثير من حواراتنا وأسئلتنا، بكل صبر وأناة، واحترام لما يُطرح من الجميع، وبعد عشرة أيام غادرنا، رحمةُ الله عليه، في 30 آذار/ مارس 2000، فكم كان يعاني صحياً، فيصبر ويتحمل؛ وبرحيله فقدَ الوطن والأمة وحزب الاتحاد الاشتراكي رجلاً من العسير أن يتكرر صلابةً وفكراً وعقلانية وأمانة وعصمة، فقد كان بالفعل شبيهاً بالمرحوم جمال عبدالناصر من حيث الخِصال الحميدة والصلابة بالحق والوعي والنضج السياسي والعقلانية واستشراف المستقبل والإيمان الذي لا يتزعزع بمستقبل الأمة وتحررها، وفي ذكرى رحيله نقول إنه سيبقى ذخراً لكل وطني ولكلِ قومي ووحدوي عربي.
رحل جمال الأتاسي بعد أن تركَ تراثاً فكرياً وسياسياُ وعلمياً طبياً ثرياً مستفيداً مما قدمته مدارس الطب والتحليل النفسي من معطيات في معرفة الإنسان ومن المدارس النفسية الفينومينولوجية والعضوية الديناميكية، وقد واجه مبكراً جميع محاولات افتعال التناقض بين الوحدة العربية والاشتراكية والوحدة العربية والحرية، وكان إيمانه مُطلق بأن لا مستقبل بلا ديمقراطية حقيقية، لقد قال جمال الأتاسي مع صديقه “سامي الدروبي” في تقديم كتاب “موريس دوفرجيه” (مدخل إلى علم السياسة): «.. إن ‘دوفرجيه’ يريد الاشتراكية الديمقراطية، ولأنه يريد الاشتراكية نراهُ يفضح النظام الرأسمالي، ويُعريه، ويكشف عن عُقمه، وعن ظُلمه، كما ولأنه يريد الديمقراطية نراهُ يتمنى على النظم الاشتراكية أن توفر للمواطنين ما يصّبون إليه من حرية»، ثم يضيفان: «.. أما بعد، فليس يهمنا كثيراً، حين نُترجم هذا الكتاب أن تكون آراؤه متفقة وآراؤنا، حسبنا أن يعرف الذين يتكلمون عن الاشتراكية في الأقطار العربية، أن الاشتراكية لن تؤتي ثمراتها من غير وحدة هذه الأقطار العربية.. وحسبُ هذا الكتاب أن يساعدنا على أن ندرك إدراكاً واضحاً أن لا اشتراكية مُثمرة في ظل التجزئة، وأن الاشتراكية والوحدة مترابطتان، وأن زواجهما هو الذي يلد الحرية.. ».
لقد عاش حياته مُفكراً مناضلاً وباحثاً عن مخارج سياسية لمعضلات شعبه السوري وأمته العربية، وفي ظل الجمهورية العربية المتحدة، حاصرت أجهزة الوحدة جمال الأتاسي، وضيّقت الخناق على صحيفته “الجماهير” فكتب مقالته الشهيرة (الصمتُ موقف)، ولقد كانت المرة الأولى والأخيرة في حياته التي يكتفي فيها بالصمت، كموقف، ذلك أنها دولة الوحدة حجرُ أساس الحُلم، لكن ما أن وقع انفصال الإقليم الشمالي، حتى انطلق حركياً، وفكرياً، وبكل ما يملك تنظيمياً، مناضلاً لإعادة الجمهورية العربية المتحدة، فكتب في «دورية» (في الفكر السياسي) التي صدرت في جزأين عام 1963 عن (“دار دمشق للطباعة والنشر” “مكتبة تنبكجي” بدمشق)، بمشاركة ثلاثة من رفاقه “عبد الكريم زهور عدي” و“الياس مرقص” و“ياسين الحافظ”، لقد كتب يقول: «إن التحرك الجماهيري الثوري الذي يمتد اليوم من الجزائر إلى بغداد، متجاوزاً الفواصل والحدود، ليُوحد القوى الثورية العربية حول شعارات وأهداف واحدة، مبشراً بيوم قريب تلتقي فيه هذه القوى الثورية، في تنظيم موحد وفي مشروع مشترك للعمل والنضال، كان حصيلة معارك وتجارب لم تخلُ من كثير من العثرات والنكسات، فمن خلال النضال الطويل الشاق تفتحَ وعي كتل جماهيرية واسعة على وحدة مصالحها ووحدة مصائرها وأهدافها، ليتجاوز النضال الشعبي إطاره الوطني الإقليمي، ويأخذ مجراه التاريخي كحركة تحرر كلي تنّشَد لاستكمال الوجود القومي للأمة العربية وتستهدف التحرر الإنساني الكامل، إن الاتجاه الثوري العربي استطاع أن يتقدم في وجه جميع أعدائه، وأن يُسجل نصره الكبير في إقامة وحدة مصر وسورية، متحدياً مخططات الرجعية والاستعمار، وكان لا بد لهذا النصر- ككل انتصار ثوري حقيقي- من أن يتجاوز إطاره المُحدد، ومن أن يعطي ثماره على صعيد الوطن العربي كله، فقامت ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 في العراق، وأخذت ثورة الجزائر تقترب من النصر، وأخذت ريح الثورة تعصف في جميع أرجاء المجتمعات العربية لتُزعزع عروش الرجعية وقواعد الاستعمار في كل مكان»؛ (لنلاحظ هنا كم كانت الأحلام تبدو قريبة، كما كانت عليه أحلامنا عند انطلاق ثورة 2011 المتواصلة).
أين كانت المشكلة حينذاك إذاً، ومن أين بدأ الانكسار؟ يقول جمال الأتاسي: «لكن تلك الانتصارات الأولية لم تستطع أن تُعزز بقاءها واستمرارها بشكل حاسم، فالحركة الشعبية الثورية تقدمت ولكنها لم تُجّهز على أعدائها، وبخاصة على أولئك الانتهازيين والمتآمرين الذين ظلوا يدبّون في أوصالها، والقيادات السياسية لتلك الحركة كانت في أكثرها دون مستوى مهماتها، فهي لم تسّتطع أن تبلور ذلك النضج الثوري للجماهير، في حركة ثورية قائدة، أو في إيديولوجية واضحة تخطُ أمامها طريقاً واضحة للعمل والنضال، فتعثرت تجربة وحدة مصر وسورية في تناقضات وأخطاء كثيرة، مما أحاط مصيرها وطريقها بكثير من الشكوك، وأخذت الحركة الثورية في الأقطار العربية تواجه أعداءها مُنفردة مشتتة القوى».
لقد كان جمال الأتاسي في طليعة الشباب الذي التحق بثورة “رشيد عالي الكيلاني” الوطنية العراقية في ربيع عـام 1941 بوجه الحملة البريطانية التي تحركت المشاعر القوميـة في الشارع السوري بحدة لمؤازرتها والتضامن معها، والتضامن مع انتفاضات وثورات الشعب الفلسطيني اعتباراً من النصف الثاني من الثلاثينات. (هذه الانتفاضات والثورات التي مازالت مستمرة حتى أيامنا هذه وسوف تستمر حتى النصر وطرد الاحتلال الصهيوني ودحر أعوانه على الأرض العربية).
لكن جمال الأتاسي لا يقف عند تحليل ما جرى، وإنما يبثُ روح المواجهة بعد ضربة الانفصال التي يصفها بأنها كانت أخطر مؤامرة استعمارية رجعية فيقول: «اليوم وبعد أن تعزز الاتجاه العربي والاشتراكي، ثورة الجزائر، ثورة اليمن، ثورة العراق.. ندرك بعمق أن الحركة الثورية العربية، الحركة الاشتراكية الوحدوية هي الحركة الظافرة في الوطن العربي، وأنها وحدها الحركة المُنسجمة مع مجرى التاريخ.. إن نضج الوعي الجماهيري، وإن هذا التفاعل المباشر بين القوى الثورية في الوطن العربي هو الذي استطاع أن يتجاوز نكسة الانفصال، ليُحقق تلك الانتصارات الرائعة للحركة الثورية العربية، وأن الوضع الرسمي الانفصالي القائم في سورية ما هو إلا ستارة واهية، تتحرك وراءها قاعدة شعبية ثورية كبيرة أصبحت تعي طريقها وأهدافها وأخذت توحد قواها واتجاهاتها في ساحة المعركة الدائرة ضد قوى الانفصال، وهي لا بد أن تفرض إرادتها في وقت قريب»؛ لقد عبر بهذا الموقف عن الرأي العام الذي كان يتعاظم كل يوم في سورية بأن عودة العربية المتحدة يمكن توقعها في أقرب وقت!
كانت هذه الكتابات لجمال الأتاسي- ومعها الكثير أيضاً خاصة بجريدة البعث منذ تأسيس حزب البعث لحين مغادرته عام 1961- قبل تأسيس حزب الاتحاد الاشتراكي العربي في سورية عام 1964 الذي استمر- رحمهُ الله- مناضلاً في صفوفه حتى وفاته، وقد جاء في تقديمه لكتاب (في الفكر السياسي- الجزء الأول) عام 1963 ما يلي: «إن النظرية الثورية، لا يمكن أن تُصّطنع ولا أن تلقّن، وهي لا تُستعار من الغير، بل هي عملية خلقْ لا تقوم إلا من خلال المعاناة والنضال، وجميع الذين يؤمنون بثورية العمل الشعبي في الوطن العربي، مُطالبون بأن يجندوا أفكارهم لتخطيط مبادئ ونهج هذه الثورة.. والثورة في الفكر مثل الثورة في العمل، إنها تبدأ من الرفض ومن موقف سلبي، لكي تصل إلى البناء، إنها تنّشُد تحرير الإنسان، تهدف لخلق إنسان جديد، وفي هذا السبيل لا بد لها أن تبدأ رفضاً صارماً لواقع الظلم ولكل ما يُضيّع الإنسان ويستبد بحريته ومصيره»، ويتابع قائلاً: «وثمة مسلمة ينطلق منها كل تفكير ثوري: إنك لن تستطيع أن تقهر إلا الشيء الذي تستطيع أن تدّحضه، ليس بمقدورك أن تتمثل إلا التفكير الذي تضعه على محك النقد، ومن هنا يكون البدء».
وفي تقديمه للجزء الثاني من كتاب (في الفكر السياسي) قال: «إن الحقيقة الأولى التي تثبتها تجربة الوطن العربي هي وحدة النضال القومي الديمقراطي والنضال الاشتراكي؛ فالنظام الرأسمالي عاجز عن تحقيق المهمة الأساسية المطروحة على عاتق البلدان المتخلفة: وهي التصنيع الجدي والنمو الاقتصادي السريع، وإن الهوة الفاصلة بين الشرق المتخلف والغرب المتقدم تزداد عمقاً واتساعاً يوماً بعد يوم، إذ أن معدلات نمو الإنتاج في الدول الاشتراكية وفي الدول الرأسمالية الغربية هي أكبر وبشكل ملحوظ من معدلات نمو الإنتاج في بلدان العالم الثالث».
لقد كتب الدكتور جمال الأتاسي أغلب ما سطره وهو ضمن صفوف حزب الاتحاد الاشتراكي منذ 1964، وبكل ما يخص النضال الوطني والقومي، من دراسات وأبحاث سياسية وفكرية وتنظيمية لا تحصى، نذّكر منها كراس المنطلقات الفكرية عام 1966، و(سلسلة في دروس النكسة) عام 1967 التي مهدت لعقد المؤتمر الرابع لحزب الاتحاد الاشتراكي عام 1968، والذي شكل نقلة هامة على صعيد النضال السياسي والعمل التنظيمي لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي، ثم كانت (سلسلة تشرين المستقبل العربي) عام 1973، ودراسة بعنوان (من الحوار السياسي إلى الحوار الإيديولوجي) في أيلول 1974، وكذلك دراسة بعنوان (الحرية أولاً) عام 1978، وكرّاس (الحوار مقدمة العمل.. والديمقراطية غايةٌ وطريق) عام 1979، وكلها- على مدار عقد السبعينات تقريباً- مهدت إلى لقاء القوى الوطنية الديمقراطية السورية المعارضة لنهج الاستبداد والنهب ومن ثم تشكيل وتأسيس (التجمع الوطني الديمقراطي في سورية) عام 1979، وكتابه النقدي (اطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر) عام 1981، ثم سلسلة دراسات كان منها (في سبيل برنامج للتغيير الوطني الديمقراطي) والتي خُتمت بالدراسة الهامة جداً بعنوان (المثقفون الديمقراطيين وثورة الشعب الثقافية) عام 1983، وكان معه (حوار شامل أجراه معه الأخ مجدي رياض) عام 1986، فضلاً عن اطلاعه ومشاركته بجميع تقارير مؤتمرات حزب الاتحاد الفكرية والتنظيمية والسياسية حتى وفاتهِ رحمه الله.
إنها تجربة غنية وعميقة، بمشاركةً مع مناضلين آخرين من الأخوة بصفوف حزب الاتحاد الاشتراكي العربي ومن الرفاق في قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية في سورية، ونختم في هذا المقام بمقتطفات من مقابلة طويلة هامة معه- حسب اعتقادي- بعنوان (حياتي بين الفكر والسياسة) عام 1990، حين يقول: «إن حركات التحرر العربي بعد أن تقدمت أشواطاً بعدد من المجتمعات العربية على طريق تجاوز بُناها وتكويناتها وعصبياتها وأيديولوجياتها ما قبل القومية ونهضت في إطار مشروع عام للتحرر الوطني والاستقلال وإقامة حكم وطني وتجمُع وطني ديمقراطي، والذي جاء مُلازماً لمشروع نهوض قومي ووحدة قومية، والذي أعطى في الخمسينات ما أعطاه من نهوض شعبي عربي بحركة القومية العربية في تلك الحقبة التاريخية التي نسميها بالحقبة الناصرية، كانت حركة تقدم قومي فكراً وممارسة، اجتماعياً وسياسياً، ولكنها الحركة التي واجهت أخطر ما يمكن أن تواجهه حركة تحرر قومي، من أعداء وضغوط ومؤامرات وتهديدات، من الاستعمار وقوى السيطرة العالمية قديمها وجديدها، ومن إقامة الكيان الصهيوني الاستيطاني التوسعي في أواسطها وقِـبَلها، ومن مقاومات القوى الرجعية والمحافِظة لها في داخلها، ولكن هذا لم يكن وحده سبب التراجع والانكفاء ولربما كانت تلك الأخطار والتحديات الخارجية حافزاً لتقدمها؛ فلقد كانت لها قصوراتها الذاتية أيضاً، سواء في تقدم حركة الوعي والأفكار، أو من التقدم ديمقراطياً في بناها السياسية والاجتماعية بالقدر الذي يُصلّبُ عودها في مواجهة التحديات الخارجية والحروب العدوانية، أو في مواجهة النكسات وحركات الردة من داخلها».
ويضيف: «ولقد قام بالفعل نمط من المراجعة والتغيير ومن إعادة البناء في بعض المواقع، وبخاصة في مصر عبدالناصر، لكن ذلك لـم يُستتّبع ولم يتعمّم، وذهب عبدالناصر ومنهج عبدالناصر المُتجدد وجاءت الردة وتلك النظم القطرية المُرتدة باستبداديتها ضد شعوبها ومجتمعاتها الشعبية، والأنكى أنها جاءت من داخل النظم والحركات التي تقول بالقومة العربية وتحمل شعارات الفكر القومي والوحدة، والأنكى أيضاً أنها، وهي التي كرست الهزيمة والفكر الانهزامي وأعادت الأمة إلى أطر الانقسام والتابعية، تظل تقف بالأمة عند أعتاب حرب حزيران تلك وكأنهـا كانت النهاية، للتغطية على ردّتها وتبريرها نهجها الراهن».
ثم: «لقد كُتب الكثير وقيل الكثير عن تلك النظم القطرية العربية وكيف قامت وكيف تمكنت وتحولت، وعن الدور السلبي الذي أدته وتؤديه في إحباط حركة نهوض مجتمعاتها وتفكيك عُرى لُحمتها الوطنية وإحباط حركة نهوضنا القومي وتلاحُم قوى الأمة، وليس عندي ما أضيفه، وإنما أقف عند نتيجتين من نتائج هذه المسيرة المُتراجعة».
ثم يضيف: «وفي السياسة، وإذا ما أخذنا بها، كما قلت في البداية، من حيث أنها علم الإرادة، فإننا نجد أنفسنا وفي أعقاب أية مرحلة قطعناها مطالبين بمراجعة نقدية لمسارنا على ضوء ما أعطته التجربة الحية ومُعاندات الواقع لما أردناه ولم نستطعهُ، وإذا كان الإنسان قد راكم على طريق المعرفة جملة من المعلومات والتجارب والخبرات، فإننا في السياسة نجد أنفسنا وفي كل مرحلة وكأننا أمام عملية اختراق جديدة لواقع الظلم والاستبداد، واقع التجزئة والتخلف الذي يعود وينتصب أمامنا، ومن تلك الاختراقات ما حمل شعارات الثورة والتغيير الثوري، وقال بحرق المراحل لبلوغ الهدف المرجو، ولكن الثورة ما كانت تلبث أن تستحيل إلى نظام تسلطَ على المجتمع الشعبي بدلاً من التقدم الديمقراطي بالمجتمع وإلى بيروقراطية حاكمة وأجهزة وإلى مكاسب في الحكم لفئة لا يعود همها إلا تكريس استمراريتها في السلطة وركـوبها على المجتمع المدني وإخضاعه، وبذلك تقطع طريق التجديد وطريق التقدم».
ثم يقول: «إن الشعوب التي سبقتنا في مضمار التقدم ونجحت في صياغة الوحدة القومية وإنهاء توحيد فئاتها وأطرافها، وفي إقامة دولتها القومية الموحدة كدولة للأمة وكأمة- دولة، كانت تلك الوحدة سبيلها إلى إشاعة الديمقراطية السياسية والاجتماعية في أرجائها وتثبيت دعائم نظمها الديمقراطية الحديثة، وهذا ما ينطبق على أكثر دول أوربا الغربية والشمالية التي ظلت راسخة ومستقرة رغم كل ما جرى في العالم طوال هذا القرن من حروب ومتغيرات.. أما بالنسبة لنا كعرب فالذي نلمسه بعد المعاناة الطويلة والتجارب المريرة، أن لا سبيل لنا إلا أن تأتي الديمقراطية السياسية بدايةً، فالتغيير الديمقراطي داخل كل قطر أصبح مدخلاً لا بديل عنه للتقدم بمجتمعاتنا المدنية وإطلاق الإرادة الحرة للشعوب ومبادراتها للتقدم على طريق الوحدة القومية وإقامة دولة الأمة الحرة الديمقراطية الموحدة».
في آخر الاقتباس نرى كيف يحدد فهمه لدور الفكر والسياسة بالقول: «.. وما كان دور الفكر في حياتي مجرد تراكمات لمعارف وعلوم وثقافات أو لقناعات تشكلتْ وعبرتُ عنها، فأنا ما أنتجتُ في هذا المجال ولا كتبتُ نشرةً أو مقالةً أو بحثاً، ولا ترجمتُ كتاباً إلاّ وكان ذلك من خلال موقف أيديولوجي وسياسي، ولإحداث فعل وتأثير هادف في مرحلة معينة من مراحل عملنا الوطني والقومي، ولا السياسة كانت حرفة لي أو وظيفة أو تطلعاً لموقع نفوذ أو سلطة، فالسياسة التي استأثرت بالقسط الأوفر من اهتماماتي كانت وما تزال في حياتي التزاماً بقضية وإحساس بمسؤولية وواجباً وطنياً وقومياً لتغيير واقع، والعمل في إطار جماعة ملتزمة بأهداف النضال القومي، كمشروع للتحرر والنهوض العربي والوحدة.. ».
إذ ارتبط جمال الأتاسي بمشروع للنهوض القومي للعرب وقد كان رجل غير متصالح مع الواقع، ولم تتغير أهدافه البعيدة، وإن اغتنى محتواه مع الأيام وتغيرت الأهمية النسبية لمكوناته مع تطور الأحداث، فهو لم يكن يرى من مستقبل سياسي حضاري للعرب، إلاّ من خلال نهوض وحدوي وديمقراطي جديد، ولم يكن يتطلع لمستقبل لهم في العالم إلاّ من خلال حضورهم كأمة موحدة وناهضة، فكم نحن بحاجة لتمثُل نهجه وخطه الناظم وتفكيره الاستشرافي، وكان الدكتور جمال الأتاسي يقول كيف يمكن أن نصل لوضع برنامج لبناء التحالف التاريخي القومي الذي تحدث عنه جمال عبد الناصر؟.. وهو التحالف الذي حمل جمال الأتاسي دعوته إلى جنبات المؤتمر القومي والقومي الإسلامي بعد تأسيسه في تسعينات القرن الماضي، وكيف يمكن أن نصل لهذا التحالف الذي لا بدّ أن يُشكل رافعة حقيقية لحركة الأمة وجماهيرها، وحاضنة لكل أطيافها السياسية، ومرتكزاً لقيادة وتطوير وتقدم حركة النهوض والتحرر الوحدوية الديمقراطية لأمتنا؟
فبعد 24 عاماً على غياب الدكتور جمال الأتاسي، و13منها على الثورة السورية، وبسبب تعمق الاستبداد والتوحش أكثر في سورية وعقابيل الحكم الفئوي فقد المجتمع السوري السيطرة على تاريخه الخاص، سواء في إنتاج النظام السياسي الذي يمثله أو إنتاج العِلم والمعرفة، أو في الإنتاج التكنولوجي، وفقدَ، بالتالي، قدرته على صناعة هويته الخاصة، فالمجتمع الذي لا يختار تمثيله السياسي التي كم حذر من عقابيلها الدكتور جمال الأتاسي، كحال مجتمعنا السوري اليوم، إذ سيكون شكل الحكم المفروض عليه غريباً بدرجة ما عن هويته، أو لا يعكس هويته تماماً، وكان من نتائج تحطُم ثورة 2011 أن حرر هوياتٍ عديدة في سورية أكثر مما أعلى من شأن الهوية الوطنية السورية، التي لم تشكل انتماءً جامعاً قادراً على الصمود في وجه الانتماءات الهوَوية الأخرى بما فيها الهويات الطائفية والمذهبية!
والذي حدث هو أن الدفاع الوحشي لنظام آل أسد عن وجوده عرّضَ تماسك المجتمع السوري، الضعيف أصلاً، لقوى شد عنيفة أودتْ به وأدت لتفككه، فكان أن انبثقت هويات مختلفة ومتعارضة بين بعضها البعض ترافقت مع عديد الاحتلالات التي استدعاها نظام الاستبداد الفئوي القاتل، ما أدى لتراجع الوطنية السورية في المحصلة وليس العكس؛ والوطنية السورية التي حاولت الثورة، في بدايتها، أن تُعليها، تضعضعت في غضون صراع الهويات الأخرى، والتنوع السوري الذي يمكن أن يشكل جانباً من الهوية السورية، يُشكل اليوم أحد مصادر استمرار المأساة السورية، وأن تسييس التنوع السوري القومي والمذهبي تسبب في ضعف التماسك الوطني، ثم شكل تالياً محطات استقبال “متنوعة” لقوى وتأثيرات خارجية؛ ولقد كان بروز الهويات المختلفة (قومية ودينية ومذهبية) في سوريا مع تحطُم ثورة 2011، على حساب خفوت هويتين اثنتين فيها هما الهوية القومية العربية، والهوية الوطنية السورية التي كان يمكن تعزيزها بفعل الثورة، الشيء الذي لم يحدث، والتي هي المظلة الوحيدة التي يمكن التعويل عليها في استيعاب الهويات الأخرى حين تكف هذه عن السعي إلى كسر محيطها الوطني.
أخيراً وفي ذكرى رحيلك يا مُعلمي: “لقد تبوأت عن جدارة موقع الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي، لأنك صاحب الفكرة ولدورك الجامع الحاضن المُثابر والمؤثر في التأسيس والمتابعة والإنجاز فكراً وعملاً، وهو الأمر الذي نفتقده في هذه الأيام بمواجهة التفتت والتشظي للمجتمع السياسي السوري الحاصل، كما أنك تبوأت عن جدارة أيضاً موقع الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي، منذ المؤتمر الرابع عام 1968 وحتى لقيت وجه ربكَ العلي القدير”.. لكَ الرحمة والجنان ولروحكَ السلام.