(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة السادسة والثلاثون من الجزء الأول– حول تجربة حزب البعث(II)؛ بقلم الأستاذ “ياسين الحافظ”
حول تجربة حزب البعث
(II)
إن العاهة الأساسية للمُرتدين هي سيماهم الطبقية وعقلهم الانتهازي الذي جاء نتيجة إدقاع (لا فقر) في الثقافة، إن احتقارهم للجماهير الشعبية سلبهم الصبر والعناء الثوريين، كما أن إدقاعهم في الثقافة أعماهم عن فهم التجارب الثورية، هذا الاحتقار وهذا الإدقاع أورثهم وَهْم الوصول إلى الهدف بطريقٍ مختصر ومن «فوق» ومن وراء ظهر الجماهير. إلا أن القفز من وراء ظهر الجماهير أسلمهم للدوران في حلقة مفرغة، وبالتالي إلى أسلوب رخيص في التكتيك اليومي, فاذا أضفنا إلى هذا افتقاد الحزب بمجمله الأفق المرحلي، الذي يستشرف مرحلة كاملة من التطور تكشفت لنا نوعية المناورات التي برع بها المرتدون، فهي تذكر بألاعيب الحُواة الذين يجترحون الأعاجيب على المسرح، ولكن ما أن يحاول المتفرج الإمساك بالأعجوبة حتى يمْسك الخدعة نفسها. هذا هو الطابع الرخيص لمناورات المرتدين التي افتقدت أي نفس ثوري. فهي ليست المناورات الثورية التي ترى نقطة الضعف في الخصم لتضربه فيها كي تجّهز عليه، بل هي المناورات التي تدغدغ الجانب الضعيف في الخصم لتلتقط قسماً من فتاته ولتشاركه بعض نفوذه. سيحفظ التاريخ لحزب البعث العربي الاشتراكي (البعث العربي القديم بخاصة) نضاله الصحيح الدؤوب في سبيل الوحدة العربية. لقد تحسس الحزب فعلاً جوهر القضية العربية عندما أعلن بإلحاح: (أن كل نظرة ومعالجة لمشاكل العرب الحيوية في أجزائها ومجموعها لا تصدر عن هذه المسلمة «وحدة الأمة العربية» تكون نظرة خاطئة ومعالجة ضارة) وكان الحزب أول من وضع الوحدة العربية في مكانها الثوري الصحيح، إذ اعتبرها القاعدة الضرورية لكل تغير حقيقي في المجتمع العربي: «فالحرية التي يسعى اليها كل قطر عربي على حدة لا يمكن أن تبلغ من العمق والشمول والمعنى الإيجابي ما تبلغه الحرية التي تحققها الأمة العربية في وحدتها.. كما أن الاشتراكية تتقلص وتتشوه في حدود القطر العربي الواحد. في حين أنها تأخذ كل مداها النظري والتطبيقي عندما يكون مجالها الوطن العربي كوحدة اقتصادية».
وكتأكيد على أولوية الوحدة، فإن الحزب قد أعلن أن اهدافه في الوحدة والحرية والاشتراكية «متساوية في الأهمية.. ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن للوحدة تقدماُ ورجحاناُ معنوياُ يجب ألا يغفل عنه البعثيون, وأن فكرة الوحدة العربية يجب أن ترافق نضال الشعب العربي في سبيل الحرية والاشتراكية وتُوجهه»..
لقد أكد الحزب الطابع التقدمي للوحدة فوضعها في سياق ثوري يتحدى الواقع العربي الفاسد والمتخلف والرجعي، وإذا كان هذا التأكيد قد جاء على نحو متافیزيكي، أي مجرد حلم جميل يُراق على هدف عزيز: إلا أن سير تطور الأحداث قد أكد تلك الأفكار فأصبحت حقيقة ملموسة. إن الاستعمار والرجعية العميلة عدُوان مستقتلان ضد وحدة الشعب العربي. والبورجوازية العربية، التي لعبت أخواتها الأوربيات دوراً تقدمياً في النضال القومي، أصبحت عدوة للوحدة العربية أيضاً. لقد أكد التطور الموضوعي للنضال العربي الطابع الشعبي لحركة كان من المفروض أن تحتضنها البورجوازية… وهذه هي المسارب الجديدة التي فتحتها الحركة القومية العربية في التاريخ.
إن إصرار الحزب على أولوية الوحدة، مهما كان الأفق الذي أطل منه (وهو أفق قومي غيبي) جاء من الناحية الموضوعية معبراً على نحو عميق ورائع عن مصالح الجماهير الشعبية بصورة خاصة وعن مصالح الشعب العربي بصفة عامة، لأن آمال الوحدة- كما ذكر ميثاق الثورة الجزائرية- « تأتي اليوم ضمن أفق تاريخي صحيح، وهي تعبر عن حاجة الجماهير إلى التحرر وعن رغبتها في تحريك أكبر قدر ممكن من القوى لتحطيم العراقيل التي تقف في طريق رقيها..)
ولم يكتف الحزب بطرح هذه الموضوعة نظرياً، وإنما أصبحت المضمون العملي لسياسته ومهماز نضاله، فجرى تنظيم الحزب على مستوى الوطن العربي (ومن الناحية العملية في المشرق العربي) كتجسد لفكرته التي تعتبر «البلاد العربية وحدة لا تتجزأ واعتبار الحل الجدي الوحيد لمشاكل هذه البلاد هو العمل العربي المنظم الواحد».
ولكن لا بد للمرء أن يتساءل: إذا كان الحزب قد طرح مشكلة الوحدة بمثل هذا الإصرار ووضعها في مثل هذه المرتبة… وإذا كان الحزب قد جمّع جماهيره وكوّن نفسه على أساس هذه الفكرة.. فلماذا انفجر إذن عندما واجه قضية الانفصال؟ لماذا تشرذم إذن عندما انتقل من الوحدة- الأسطورة إلى الوحدة الملموسة؟
– إنه الفقر الإيديولوجي أولاً.. والفقر الإيديولوجي آخراً… إنه منبع المشكلة. إن الحزب وإن وضع مسالة تحقيق الوحدة على نحو صحيح، بشكل عام، عندما اعتبر وحدة النضال الطريق إلى الوحدة.. إلا أنه لم يتصدَ لصياغة نظرية كاملة تستشرف الطريق إلى الوحدة وأسلوب تحقيقها وضماناتها, حقاً إن وحدة النضال تصفي الشعور بالعزلة والتجزئة، إلا أنها ليست الأداة الموضوعية لإقامة الوحدة. لم يقل الحزب لأعضائه أن الوحدة الملموسة.. دولة… مجرد دولة وليست جمهورية أفلاطون، فلها أخطاؤها ولها انحرافاتها ولها كبواتها.. إلا أنها دولة العرب على كل حال.
لم يشرح الحزب لجماهيره الجوانب الإيجابية لكل وحدة(3) رغم كل المظاهر السلبية التي قد تلازمها. لم يفعل الحزب شيئاً من ذلك وإنما اعتبرها مجرد «تاب» وزركشة بالألوان الجميلة وأطلق حوله التعاويذ والترانيم. وفي مواجهة هذا «التابو» الذي تكشف- من الناحية العملية- عما يخالف أحلام وأوهام ومطامح ومطامع التركيبات والعناصر المتباينة في الحزب.. اهتز الحزب وانفجر وتشرذم. فبقي قسم حول الوحدة- التابو يندب الحظ العربي العاثر، ويناضل لإعادة وحدة عاشت عمر الزهور ثم ذوت؛ وراح قسم آخر يلعن الوحدة الملموسة ويتغنى بالوحدة الأسطورة؛ وعاد قسم إلى «سراقيا» يلعن الوحدة الملموسة والوحدة الأسطورة معاً ووضعها على الرف وأخذ يعاديها ويعمل ضدها بأقصى طاقاته والتحق بصفوف الرجعية والشعوبية والإقليمية، ففي الكيان الصغير مرتع خصب «للوجهاء» و«المخاتير»؛ ويئسٌ قسم من النضال وانكمش يرقب الأحداث من بعد؛ وذهب قسم يتلمس دروباً جديدة للنضال.
لسنا الآن بصدد الحديث عن المضمون الاجتماعي للنضال الوحدوي، ولكن لا بد من التنويه إلى أن الأفق القومي الغيبي الذي كان يطل منه الحزب على قضية الوحدة لم يستطع أن يمنع ردة مرذولة، لم تقتصر على بعض الأفراد. ولو أن الحزب قد أجهد نفسه وتقصى طابع التحرك الوحدوي، بعد أن امتلأ بمضمونه الطبقي وبأهدافه الاشتراكية وبتعبيره عن حاجة الجماهير إلى التحرر الكامل من الاستعمار.. حيث أصبحت الوحدة مهماز النضال اليومي للملايين من الجماهير العربية، ولم تعد- بالتالي- حالة نموذجية سيحققها الشعب العربي وهو في حالة نموذجية.. لو أن الحزب فعل ذلك وصاغ نظرية كاملة واضحة للوحدة لامتنع على الانتهازيين في الحزب تجريد حركة الوحدة من مضمونها الفعلي ومن نتائجها النضالية البعيدة ولعجزوا عن إفراغها من محتواها الطبقي وطَرْح مشكلتها على نحو جامد ومبتذل وسطحي . فقد ذهب أحد المرتدين في “خربشاته(4)” النظرية إلى أن الوحدة العربية لن تتحقق إلا إذا توفرت جمهورية أفلاطون في كل قطر.. وأن الدولة العربية المنشودة ستكون- بالتالي- جمهورية أفلاطون الكبرى. ولكن لا بد للمرء أن يتساءل: إذا ما حقق كل قطر حالة نموذجية بصورة منفردة (وهذا مجرد افتراض مناقض للواقع) فما هي حاجته الملموسة والمباشرة إلى اللُقيا مع الأقطار الأخرى والذوبان فيها?! فالوحدة واقع نضالي يتحقق خلال المعاناة المباشرة الموحدة للواقع المتخلف والمجزأ؛ والوحدة مجابهة مصيرية مشتركة لكل ما يعرقل التقدم العربي.. وخلال هذه المعاناة وفي معمعان هذه المجابهة تولد الوحدة كائناً عضوياً حياً كاملاً معافى.
والمُرتد لم يكتفِ بهذه الخربشة المتهافتة بل ذهب إلى التشكيك (ولا يجرُأ على أكثر من التشكيك) في مبدأ الوحدة ذاته.. عندما أبرز- في معرض حديثه عن الوحدة والانفصال- ظاهرة استثنائية وعارضة.. ظاهرة وجود أمة واحدة في كيانات سياسية متعددة؛ في حين أن الحقيقة التي تفقأ العين هي أن الواقع القومي الموحد قد أصبح أساس جميع الكيانات السياسية والدول الموجودة في العالم، وأن تجسيد القومية في دولة واحدة قد أصبح الظاهرة الأساسية. والشاملة والدائمة في العصر الحديث.. ولكن هل يرى المرتدون هذه
الحقيقة?! لا. لقد عادوا إلى ضربْ من «الاقليمية الجديدة» المدثرة بستار شفاف مفضوح من العروبة.. فالعودة إلى «سراقيا» لن تتم دفعة واحدة، والإقليمية الجديدة خطوة في طريق التراجع الكامل العلني.
ما هو طابع الانفجار الذي أصاب حزب البعث وما هي جذوره؟ لأن مشكلة الوحدة والانفصال لم تكن إلا حصيلة لأسباب أعمق وأبعد مدى. لا بد أن ننوه- منذ البدء- أن ما أصاب الحزب ليس الإنقسام المألوف الذي خبرناه في الحركات الاشتراكية في أوروبا.. أي الانقسام إلى أجنحة، يمينية ويسارية.. ثورية وانتهازية، بل هو بالضبط انفجار في قلب الحزب شَرْذمةُ إلى مجموعات وتكتلات. وفيما عدا كتلة المرتدين التي تعفنت نهائياً فليس هناك خط مبدئي أساسي أو مضمون طبقي يستطيع أن يحدد ملامح كل مجموعة بصورة قاطعة وواضحة وحاسمة، لأن الفقر الأيديولوجي قد أمحى الوضوح والتحديد عن سيماء مجموع الحزب.. لذا كانت تكتلاته الجديدة حاملة نفس السيماء الباهتة الغامضة. إن ما وضع الحدود بين هذه التكتلات هو ردود الفعل العفوية التي جابهت بها كل مجموعة من الأعضاء عاهات الحزب ومشاكله، كما وضعْ هذه الحدود ضربْ من المُجابهة الساذجة الذاتية للمشاكل العربية المباشرة أو نوع من الانغلاق الذي يمليه روح التقديس الشخصي أو الكفر بهذا التقديس. وهكذا بقيت تكتلات الحزب الصغيرة مجرد نُسخ صغيرة (غير جديدة) من البعث العربي الاشتراكي الكبير القديم… ولهذا السبب وصفنا أزمة الحزب بأنها انفجار. فالانقسامات الجناحية ظاهرة نمو ونضج إيديولوجي في الحركات الجماهيرية، أما الانفجار من المركز فهو ظاهرة فقر إيديولوجي فيها.. هي تنفيس لـ«وَرَم» مرضي فيها.
إن هؤلاء الذين شخصوا عاهات بالحزب في القيادات جمدوا عند حدود هذه النظرة السطحية، وأخذ موقفهم شكل الرفض فقط، دون أن يستطيعوا- أو يحاولوا- تلمُس الأسباب الحقيقية لبروز الطابع الشخصي في قيادات الحزب. فلو كان لدى الحزب وجهة نظر واضحة محددة، لما كان الأشخاص (مهما سَمَوا) إلا مجرد أدوات في يد الحزب. ففي غيبة دليل نظري للعمل، لا بد أن يملأ الأشخاص هذا الفراغ وينهضوا بمثل هذه المهمة، ولما سادت الانقسامات داخل الحزب تبعاً لتنوع النماذج القيادية وعقليتها وأمزجتها.. ولما تشتتت سياسة الحزب وتقلبت وضاعت في متاهات الطريق. إن التفاف قسم من جماهير الحزب وأعضاؤه حول شخص ما, ما هو إلا ضربْ من الإسقاط الذي ضل طريقه وتحوّل من الإيديولوجية التي لم توجد إلى الشخص الموجود. لذا فإن الذين اتخذوا موقف الرفض من القيادات التقليدية في الحزب، دون إدراك عميق علمي لمشكلة الحزب, وقفوا حيرى في منتصف الطريق.. فلكي يكون الرفض بداية سليمة يجب أن يُملأ بمضمون إيجابي ونظري.. وإلا فإنه ضياع كامل وتخبط أعمى. فالمسألة ليست مسألة قيادات سيئة أو انتهازية إلا من حيث النتيجة؛ فالأساس في المشكلة هو فقدان الدليل النظري للعمل، الذي خلق ما يسمى مشكلة القيادات. فالمشكلة تتسلسل- إذن- على هذه الصورة: افتقاد النظرية، بروز الطابع الفردي للقيادات، التكتلات العشائرية أو الانتهازية.. فالانفجار.
في التيارات اليسارية في العالم (وفي روسيا والغرب بشكل خاص) يعكس الانقسام (لا الشرذمة) تحولاً في الواقع الفعلي الملموس (مثلاً تبرجُز الفئات العليا من الطبقة العاملة خلق التيار الانتهازي في الحركات الاشتراكية). إلا أننا في صدد الظاهرة التي تمثلت في حزب البعث العربي الاشتراكي لا يمكن أن نجد لها تفسيراً إلا في قلب الحزب نفسه.. فالمجتمع العربي هو هو والمشاكل العربية هي هي، وليس من جديد في الموضوع سوی أن القضية العربية قد طُرحت على نحو واضح وحاسم وملموس. وفي هذا المنعطف الجديد الذي وصلت إليه القضية العربية، وحيث لا يملك الحزب أي سلاح نظري يواجه به الواقع المتطور الملموس تشخصت عاهاته وتعمقت وأصبح انفجاره النتيجة الحتمية الوحيدة لواقع الحزب.
إن حل الحزب تنفيذاً لشروط عبد الناصر، كان ذا دلالة هامة بالنسبة لتكوينه. وإذا كانت جماهير الحزب قد رأت في الحل تضحية لهدف أكبر، فإنه بالنسبة لبعض القادة كان هرباً من مشاكل الحزب وطلباً للراحة في ظلال عبد الناصر. ثم جاء الانفصال ليكشف الغطاء عن حقيقة الوضع في الحزب.
………………..
الهوامش:
(3) الوحدة التي نعنيها هي كل وحدة مهما كان شكلها لا تفيد- من حيث الحصيلة- الاستعمار ولا تدعم حكما ًرجعياً عميلاً، على أن تحمل بنفس الوقت ضمانات استمرارها وانفتاحها على وحدة أوسع.
(4) کراس أصدره أكرم الحوراني بعنوان: “رأي في الوحدة العربية” وكان الغرض الأساسي من إصداره الدفاع «النظري» عن الانفصال وتبريره وتكريسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع.. الحلقة السابعة والثلاثون بعنوان: ثانياً(1)– تشخيص بعض الجوانب السلبية في تجربة البعث؛ بقلم الأستاذ “ياسين الحافظ”