غانية ملحيس *
أياً تكن مآلات حرب الإبادة الجماعية المحتدمة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 في قطاع غزة خصوصاً، وعلى امتداد فلسطين الانتدابية عموماً. والمنقولة وقائعها بالبث الحي على مدار الساعة ويراقبها العالم أجمع بذهول، دولاً ومؤسسات وشعوب. ويعجزون عن وقفها، رغم اعتراض غالبيتهم الساحقة على وحشيتها غير المسبوقة في التاريخ .
فقد أطلقت الحرب المروعة الجارية في قطاع غزة ديناميكيات تغيير لن تقتصر تداعياتها على فلسطين والمستعمرة الصهيونية فحسب، بل ستطال المنطقة العربية والإقليم والعالم. ولن يكون بالإمكان بعد انتهائها- مهما كانت نتائجها العسكرية- العودة بالأوضاع إلى ما كانت عليه قبلها.
هناك اختلال هائل في موازين القوى بين التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري وحلفائه في الأنظمة العربية والإسلامية {التي يشارك بعضها في الحرب على قطاع غزة، بتوفير الغطاء السياسي والغذاء والدواء للكيان الصهيوني وحجبه عن سكانه الفلسطينيين (2.3 مليون) الذين يتعرضون للإبادة والتطهير العرقي والتدمير المكاني والتهجير القسري والجوع والعطش والأوبئة}، وبين الشعب العربي الفلسطيني المستهدف بداية جزؤه الغزي المحاصر براً وبحراً وجواً من الأعداء والدول الشقيقة. والمُعاقب من أهله وذويه لاستعصائه على الرضوخ والإذعان، والمُحاط بتضامن شعوب العالم المغلوبة على أمرها. المصادر قرارها من قلةٍ نيوليبرالية معولمة لا حدود لجشعها، والمستنزفة قواها في تأمين قوت يومها. والعاجزة عن مد يد العون له بغير المواظبة على التظاهر في الساحات والميادين العامة. حيث فلسطين تجسيداً حياً لمظلومية شعوب العالم.
إلى جانب الإسناد العملي المُقيَّد والمحسوب من الحلفاء في محور المقاومة لإشغال العدو وتشتيت تركيزه. في هذه المرحلة التي يحشد فيها التحالف الاستعماري جل قواه، ويأمل أن تكون حرباً فاصلة تطيل أمد هيمنته الكونية.
والدعم القانوني الأهم الذي بادرت لتقديمه جمهورية جنوب إفريقيا برفع الدعوى القضائية أمام محكمة العدل الدولية، لوقف حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني. في سابقة تاريخية علها تُفلح في إخضاعه لنفاذ القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي. بعد ثمانية عقود من الإفلات من العقاب. والتأسيس، بذلك، للبدء بإنصاف مئات الملايين من البشر الذين استباحت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية حياتهم وأوطانهم على مدى قرون. وما تزال جميعها تفلت من العقاب على جرائمها المتواصلة ضد الإنسانية بسبب استمرار إحكام قبضتها على النظام الدولي.
ورغم الأهمية الكبيرة لهذا التضامن والإسناد والدعم وانعكاساته الإيجابية معنوياً. إلا أنه غير كافِ، بعدْ، للتأثير والضغط على صانعي القرار لوقف حرب الإبادة الهمجية. ما يترك قطاع غزة وحيداً في مواجهة كل طغاة العالم.
ويُضفي الاستفراد بالشعب الفلسطيني عموماً، وفي قطاع غزة خصوصاً، على حرب الإبادة المحتدمة فيه فرادة غير مسبوقة. وقد ركز المقال في الجزء الأول منه على الظروف والعوامل الفلسطينية والعربية والدولية التي أفضت لعملية طوفان الأقصى وجعلتها نقطة تحول تاريخي.
وسيُركز هذا الجزء الثاني على حرب الإبادة التي أعقبتها، والأسباب التي تجعلها تضاهي في تداعياتها الاستراتيجية الأحداث العالمية الكبرى. ويمكن تلخيص أبرزها بما يلي:
– الانعدام الكلي للتوازن بين قوى عالمية وإقليمية وعربية ومحلية، تلاقت مصالحها فوحّدت أهدافها وحشدت إمكاناتها وكثفت جهودها لتصفية بضعة آلاف من المقاومين. غير آبهين بإبادة عشرات آلاف الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين العزل المُسالمين.
– حدة الحرب وكثافة النيران التي تفوق قوتها التدميرية نحو ستة أضعاف القنبلة النووية التي ألقيت على هيروشيما خلال الحرب العالمية الثانية.
– طول زمنها وتواصلها للشهر السادس على التوالي دون أفق واضح لإنهائها.
– علانيتها ونقل فظائعها مباشرة لحظة حدوثها إلى سكان العالم أجمع.
– تكشف مقاصدها الحقيقية في محو الإنسان والمكان والتاريخ والذاكرة، وتقويض إمكانية العيش الآدمي في قطاع غزة. ونموذج- إذا ما نجح في تفريغ القطاع من سكانه- يمكن محاكاته وتكراره في القدس والضفة الغربية ومناطق 1948. وتفريغ فلسطين الانتدابية من كامل سكانها الأصليين. لاستكمال تحقيق الهدف المركزي المتعثر للتحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري. حيث ما يزال الحضور الديموغرافي الفلسطيني وازناً في فلسطين الانتدابية، رغم كل حروب الإبادة والتطهير العرقي المتواصلة للعقد الثامن على التوالي ضد الشعب الفلسطيني. وبالرغم من نجاح التحالف في اقتلاع وتهجير نصف الشعب الفلسطيني خارج وطنه. فما يزال عدد الفلسطينيين الأصلانيين في فلسطين الانتدابية يفوق عدد المستوطنين اليهود الأجانب الذين يتواصل استجلابهم من كافة بقاع الأرض.
ويُضفي تضافر وتفاعل هذه العوامل مجتمعة. وانكشافها لشعوب العالم قاطبة أثناء سير الحرب، خصوصية غير مسبوقة. فعوضاً عن أن تكون حرباً فاصلة لصالحه، كما يهدف التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري وأتباعه. فقد حولتها جرأة وشجاعة المقاومة الفلسطينية، واستبسالها في الدفاع عن شعبها ووطنها، والصمود الاستثنائي لحاضنتها الشعبية رغم فداحة جرائم التحالف فائق القوة والقدرة. وعجزه عن تحقيق نصر عسكري بعد أكثر من خمسة أشهر. وفشله في حسم الحرب لصالحه بالسرعة القصوى والكلفة الدنيا ، كما توقع وراهن الكثيرون . وجعلتها حربا كاشفة لطبيعته الهمجية المغايرة لكل ما عرفه التاريخ الإنساني المدون. بتجاوزه كل الخطوط الحمر، وانتهاكه لكافة القوانين والأعراف الدولية في الحروب التي خاضتها البشرية على مر التاريخ.
وباتت، أيضاً، حرباً كاشفة لعدالة القضية الفلسطينية، ولمظلومية الشعب الفلسطيني، الذي ما تزال أجياله المتعاقبة تتعرض للقرن الثاني على التوالي للإبادة والتجويع والحصار والتهجير. وتتشبث ببلوغ حقوقها الوطنية والتاريخية الثابتة غير القابلة للتصرف. وتواصل النضال بثبات وإرادة لا تلين، يحفزه قناعة ثابتة بتفوق قوة الحق على حق القوة مهما طال الزمن وعظمت التضحيات. وإيمان عميق بأنه (إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُون). واستعداد عالٍ لافتداء الوطن والشعب والاستشهاد في الدفاع عنهما. وتشبث بالبقاء فوق الأنقاض التي ما يزال يرقد تحتها أحبتهم. ورفض الغالبية الساحقة للتهجير رغم تفاقم صعوبات الحياة. حيث ذاكرة الفلسطينيين حول ذل اللجوء ما تزال حية وحاضرة في واقعهم اليومي المعاش. ما أكسب المقاومة الباسلة وحاضنتها الشعبية الصامدة هالة أسطورية تجعلها:
- نموذجاً ملهماً للمظلومين على امتداد الكرة الأرضية .
- ودالة على قدرة الإرادة عند تفعيلها للدفاع عن الحق- رغم شح الموارد والإمكانات- على اجتراح المعجزات.
- وتذكيراً لباقي أبناء الشعب الفلسطيني والشعوب العربية خصوصاً، ولشعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وشعوب العالم عموماً، بأن بؤس واقعهم المعاش ليس قدراً محتوماً. وإنما هو نتاج لتفاعل منظومة بنيوية متكاملة رسختها القوى النيوليبرالية المعولمة العابرة للقوميات والأديان والألوان والعقائد، التي تتشابك مصالحها وتحتكر المال والقوة والسلطة، وتتحالف معا لإحكام سيطرتها على الموارد والثروات وإدامة هيمنتها .
- وتنويراً للوعي الجمعي، بأن الإنسان هو صانع قدره ومحدد مصيره عندما يمتلك الإرادة. ويصر على بلوغ حقوقه المشروعة. ويتسلح بالمعرفة الدقيقة بتجارب التاريخ الإنساني المدون عموماً. والتاريخ الفلسطيني الممتد لآلاف السنين خصوصاً. الذي تعاقب عليه غزاة كثر من مختلف الأعراق والأجناس والقوميات والعقائد. وحكمته إمبراطوريات عظمى تسيدت العالم قروناً. لكنهم زالوا جميعاً وباتوا أثراً عابراً في تاريخه. فبقيت فلسطين عصية على الزوال. وبقي شعبها العربي الفلسطيني عصي على الفناء.
- وتأكيداً للطبقة السياسية الفلسطينية المتشككة والمشككة بجدوى المقاومة، بأن مواجهة العدو وكسر هيبته ممكنة. لكن هزيمته مشروطة بتوفير موجباتها، سيتم التطرق لأهمها في مقالات لاحقة. ولا يعني ذلك إغفال أهمية النقد أو المطالبة بتأجيله. فجميعنا يدرك التداعيات الكارثية لغياب المراجعة النقدية الدورية والتقييم الموضوعي للتجارب النضالية الفلسطينية المتتابعة على مدى أكثر من قرن. والتي كانت سبباً رئيساً في مفاقمة المعاناة الفلسطينية، وإضعاف المناعة الوطنية والمجتمعية، ورفع كلفة النضال التحرري الفلسطيني.
والمراجعة النقدية التي أعني، لا علاقة لها بالأساسيات والمبادئ والمواقف من شرعية وجدوى الكفاح المسلح كآلية فعالة في النضال التحرري، إلى جانب الوسائل النضالية الأخرى التي لا تقل أهمية: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدبلوماسية والقانونية إلخ.. ضد العدو الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري. الذي يرى في الشعب العربي الفلسطيني نقيضاً وجودياً. ولا يحتاج لسبب أو ذريعة لمواصلة حروب الإبادة للتخلص منه. (الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى، ونهج السلطة الفلسطينية في المقاومة الديبلوماسية منذ أوسلو، وخصوصاً منذ تولي الرئيس محمود عباس السلطة في العام 2005 نموذجاً). فالعدو الصهيوني لا يخفي هدفه بمحو الشعب الفلسطيني. ومنذ إنشاء الكيان الصهيوني العام 1948, تواصل حكوماته المتعاقبة العمل بمختلف الأساليب والوسائل من أجل بلوغ هذا الهدف. وعليه، فإن مواجهته والتصدي لسلوكه العدواني الاستئصالي- الإحلالي المتواصل، أيا كانت الوسائل النضالية المستخدمة- مسلحة أم سلميه- تنطوي على خسائر بشرية ومادية مؤلمة، متفاوتة الحدة- بالجملة أم بالتجزئة-. وتاريخ الشعوب التي تحررت قبلنا حافل بالشواهد التي تؤكد محورية دور المقاومة بكافة أشكالها، وفي مقدمتها الكفاح المسلح لفعاليته في رفع كلفة الاحتلال وتسريع إنهائه. وفلسطين ليست استثناء من ذلك، فهي آخر بلاد العالم التي ما تزال تحت استعمار استيطاني أجنبي عنصري إجلائي- إحلالي «مع الأحواز العربية» رغم انتهاء عصر الاستعمار. وهي تواجه استعماراً مغايراً لما شهده التاريخ الإنساني. باستثناء الاستعمار الاستيطاني الإفرنجي- الصليبي الذي شهدته فلسطين قبل عشرة قرون.
فرغم كونه امتداداً لذات النهج الاستعماري الاستئصالي- الإحلالي العنصري الذي سبق أن سلكته المستعمرات الاستيطانية التي أنشأها الأوروبيون قبل أربعة قرون (الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب إفريقيا). وتحولت جميعها لاحقاً إلى دول لمواطنيها. فإن الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري ينفرد بخاصية تجعله عاجزاً عن محاكاة مآلاتها. فخلافاً لها، والتي نشأت جميعها في ظل صعود وتطور النظام الرأسمالي والتوسع الاستعماري. وأقيمت في أقاصي الأرض، وفي غياب المواصلات السهلة ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. جاءت نشأة الكيان الصهيوني معاكسة لاتجاه تطور حركة التاريخ الانساني لتزامنها مع أفول عصر الاستعمار. كما أنه يقيم دولته الاستعمارية الاستيطانية العنصرية في مركز العالم، وفي قلب منطقة مأهولة بسكانها الأصلانيين المتجانسين حضارياً (رغم تنوعهم العرقي والإثني والديني والطائفي إلخ..) الذين يتشاركون الجغرافيا والتاريخ منذ قرون، ويؤمنون بوحدة المستقبل والمصير. ما يتعذر معه استنساخ ذات النموذج الذي نجح قبل قرون في إبادة الغالبية الساحقة من السكان الأصليين والحلول مكانهم، واكتساب الشرعية محلياً وخارجياً بعد تحولها إلى دول لمواطنيها. فهو- خلافاً لها- ليس كياناً قائماً بذاته. وإنما تم تخليقه لأغراض وظيفية تتعدى حدوده. ما يلزمه بالبقاء مشروعاً مفتوحاً على الاستيطان والتوسع الدائم.
فقد تواطأت الإمبريالية اليهودية بالغة الثراء والنفوذ، الساعية لشراكة استراتيجية مع الإمبريالية الأوروبية والأمريكية في القيادة العالمية. وتوافقوا سوياً على تبادل المنافع والخدمات:
– بمقايضة حاجة الإمبريالية اليهودية (التي تتولى إنشاء المنظمة الصهيونية العالمية) لدعم القوى الإمبريالية الغربية لتمكينها من إقامة مركز جغرافي يخضع لسيطرتها ويستوطنه عدد وازن من اليهود حصرياً. واعترافهم رسمياً بشرعية احتكار الحركة الصهيونية لتمثيل يهود العالم. واضطلاعها بتأطيرهم وتعطيل انصهارهم في أوطانهم الأصلية، والإبقاء عليهم كاحتياطي استراتيجي لمد المركز الاستعماري الاستيطاني المستحدث باحتياجاته الديموغرافية.
– ومبادلة هذا الدعم والاعتراف بتلبية حاجة القوى الإمبريالية الغربية الساعية للتوسع، والمتطلعة لحل المسألة اليهودية المتفاقمة في أوروبا بفعل تنامي العنصرية، بإدراج البرنامج الصهيوني الخاص باستعمار فلسطين وتهويدها، في البرنامج الإمبريالي التوسعي العام، لتلبية حاجة القوى الإمبريالية الغربية لقاعدة استعمارية استيطانية أجنبية متقدمة في مركز الوصل الجغرافي والديموغرافي والحضاري للمنطقة العربية- الإسلامية الممتدة، المستهدفة بالإخضاع. والتي تلعب السيطرة عليها دوراً محورياً في ترجيح موازين القوى الدولية. لمركزية موقعها الجيو- استراتيجي في ملتقى البحار والقارات. ولثراء مواردها الطبيعية والمعدنية الوفيرة، ولكونها مركز إشعاع حضاري وموئلاً للديانات السماوية الثلاث التي يدين بها ثلثا البشرية. ما يجعل متعذراً استقلال الكيان الصهيوني عن داعميه من القوى الإمبريالية، ويرفع كلفته عند افتراق المصالح، لارتباط وجوده وبقائه باستمرار دعمها وحمايتها. وتحتم فرادة الكيان الصهيوني البنيوية والوظيفية، الحفاظ على خاصيته العنصرية- اليهودية، التي تغذيها الصهيونية ومعاداة السامية من جهة. وخاصيته الوظيفية الإمبريالية من جهة أخرى، بحماية مصالحها في المنطقة. ويفرض بالتالي إدامة الصراع مع الشعب الفلسطيني الأصلاني ومحيطه الجغرافي العربي والإسلامي. ويوجب ترابط الدور اليهودي الخاص والإمبريالي العام، استمرار نجاح الكيان الصهيوني في تحقيق ما يلي:
أولاً: توفير ملاذ آمن ومزدهر لمستوطنيه اليهود المستقدمين من مختلف دول العالم. وإدامة استقرارهم في موطنهم الجديد.
ثانياً: تعزيز قوة ونفوذ يهود العالم، وجعل الكيان الصهيوني مركز دعم وجذب دائم لهم، يحافظ على تمايزهم ويمنع ذوبانهم وانصهارهم في أوطانهم الأصلية. ويضمن، بذلك، ارتباطهم وولاءهم، ويسهل تجنيدهم عند الحاجة.
ثالثاً: حماية مصالح القوى الامبريالية الغربية في المنطقة، والحفاظ على هيمنتها عليها. ومواجهة تهديد ومنافسة القوى الإقليمية والدولية الوازنة، لإدامة تفردها بالقيادة العالمية. لقد تسببت عملية طوفان الأقصى، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر2023، واختراق نحو ألفين من المقاومين الفلسطينيين لحدود المستعمرة الصهيونية الحصينة، المقامة فوق أرض وطنهم المحتل، بسرعة فائقة وسهولة بالغة ونجاح مذهل فاجأ المقاومون والعدو ورعاته والعالم أجمع. وتسبب- وأغلب الظن دون أن يقصد مخططو الهجوم- بخلخلة أساسات المشروع الصهيوني الخاص والإمبريالي العام معاً. ما أكسب ملحمة طوفان الأقصى بعداً استراتيجياً، وجعلها مرحلة فاصلة بين زمنين. زمن الانكسار والخضوع والعجر. وزمن التمرد والشروع بالنهوض.
وعليه، فإن تقييم الملحمة البطولية والمقاومة الباسلة والصمود الأسطوري لقطاع غزة، ينطوي على جانبين متناقضين:
الجانب الأول: مُظلم ومُحبط، تعكسه النتائج الكارثية التي تلت عملية طوفان الأقصى. وتعادل، وربما تفوق في فداحتها نتائج نكبة العام 1948. حيث تشير الإحصاءات الأولية إلى أنه خلال 155 يوم فقط من حرب الإبادة الجارية في قطاع غزة، ألقى التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري أكثر من 70 ألف طن من المتفجرات على
قطاع غزة البالغة مساحته الإجمالية 365 كم2، ويسكنه 2.3 مليون فلسطيني. أي ما يعادل 5.8 ضعف القنبلة النووية التي ألقتها الولايات المتحدة الأمريكية العام 1945على مدينة هيروشيما اليابانية (905.01 كم2) وبلغت قوتها التفجيرية، آنذاك، 12 ألف طن. وأدت إلى استسلام الإمبراطورية اليابانية وانتهاء الحرب العالمية الثانية. وارتكب التحالف خلال هذه المدة القصيرة 2746 مجزرة، أسفرت عن استشهاد 30.960 شخصاً، بينهم 13.500 طفلاً (23 منهم قضوا بسبب المجاعة). و9 آلاف امرأة. و4327 طالبا وطالبة، و3 رؤساء جامعات، و94 من العمداء والأساتذة، 17 منهم بدرجة استاذ (بروفسور) و59 من حملة الدكتوراة، و18 ماجستير. و438 من الفرق الطبية، و48 من الدفاع المدني و133 صحفياً. و163 موظفاً في الأمم المتحدة، وفقدان 7800 ما يزالون تحت الأنقاض. وجرح 72.524 فلسطينياً، 72% منهم من الأطفال والنساء. واستهدف التحالف خلالها 32 مستشفى تم إخراجها من الخدمة من أصل 36 مستشفى. و126 سيارة إسعاف. ودمر جميع الجامعات و396 مدرسة (منها 65 مدرسة تابعة للأونروا) إضافة إلى المنشآت الثقافية والفنية والتاريخية والمكتبات والمطابع. و200 جامع و3 كنائس. وأكثر من 65% من الوحدات السكنية في القطاع. وجرف الطرقات والأراضي الزراعية، ودمر معظم المصانع والمتاجر. وأجبر 2.2 مليون غزي على النزوح من منازلهم، أصيب نصفهم بأمراض معدية. ويعاني90% من سكان قطاع غزة من فقدان الأمن الغذائي. ويستهدف التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري بحرب الإبادة للإنسان والمكان والتاريخ والذاكرة، تحويل قطاع غزة إلى مكان غير صالح للسكن الآدمي. وجعل ذلك عبرة لكل من يتجرأ من شعوب المنطقة والعالم على التمرد.
ندرك أن حجم الكارثة هائل ومرعب بكل المقاييس. وقد تسرع بعض الفلسطينيين والعرب بتوجيه اللوم للمقاومة الفلسطينية، وتم اختزالها بحركة حماس لمبادرتها بعملية طوفان الأقصى. بدعوى توفير الذريعة للتحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري لتحقيق هدفه في استكمال استبدال فلسطين بإسرائيل، واستبدال شعبها العربي الفلسطيني بالمستوطنين الصهاينة.
واللافت أن قلة قليلة منهم يعيشون في قطاع غزة. وهؤلاء معذورون في لومهم إذ يواجهون وعائلاتهم خطر الموت قصفاً أو قنصاً أو جوعاً أو مرضاً أو تهجيراً. مثلما يواجه المقاومون وعائلاتهم.
لكن اللائمون من خارج قطاع غزة، وهم الأغلبية الساحقة، يأخذون على المقاومة انتهاج الكفاح المسلح في مواجهة الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري بذريعة التباين الشديد في ميزان القوى. ويعولون على المقاومة السلمية في إنهاء الاستعمار، ويستشهدون بغاندي، ولا يوقفهم اختلاف الظروف والمعطيات. ويتناسون أن الاستعمار عموماً، والاستيطاني العنصري خصوصاً، لا ينتهي إلا عندما تتفوق كلفة استمراره على عوائده. ويغفلون أن إبادة واقتلاع الشعب الفلسطيني من فلسطين الانتدابية، كان (منذ مؤتمر كامبل 1907 الذي قررت فيه القوى الاستعمارية الغربية إعادة هندسة المنطقة العربية- الإسلامية بتجزئتها ومنع تطورها، وإقامة دولة استعمارية استيطانية عازلة في فلسطين تشكل امتداداً للغرب الاستعماري وتفصل الجزء الإفريقي عن الآسيوي. فتخلص أوروبا من يهودها. وتجندهم في الآن ذاته بتنفيذ المشروع الاستعماري التوسعي في المنطقة). وما يزال وسيبقى هدفاً مركزياً للتحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري لإدامة هيمنته على المنطقة.
ويتجاهل اللائمون للمقاومة أن جميع حكومات الكيان الصهيوني- العلمانية والدينية- وجميع الأحزاب السياسية- اليمين واليسار والوسط- ملتزمون منذ إنشائه العام 1948 بذات الهدف، وإن اختلفت أساليبهم في بلوغه. ويقفزون عن حقيقة أن الائتلاف اليميني الديني والقومي الصهيوني الحاكم قد أعلن فور تسلمه مقاليد الحكم عزمه على حسم الصراع . بعد أن مهد الائتلاف الذي سبقه وترأسه نفتالي بينيت، لذلك، بتبنيه سياسة خفض الصراع عبر تغييب ومحاصرة الشعب الفلسطيني. وسبقهم نتانياهو بنزع المواطنة عن فلسطينيي العام 1948 بإقرار قانون القومية عام 2018. وسرعوا جميعاً الاستيطان في القدس والضفة الغربية، وضاعفوا الاعتداءات على الشعب الفلسطيني ومقدساته الإسلامية والمسيحية. وأعدموا الأطفال والنساء والشيوخ والشباب والصحفيين في الطرقات. وحرقوا “حوارة” و”ترمس عيا” ومضارب البدو في “يطا”، وواصل مستوطنو وجيش المستعمرة الصهيونية اقتحاماتهم الليلية والنهارية للمخيمات والقرى والمدن الفلسطينية. وحاصروا السلطة الفلسطينية وأوقفوا تحويلات المقاصة التي تسهم بـ65% في موازنتها، بالرغم من تقاعسها وامتناعها عن حماية شعبها واكتفائها بالشكوى. كما حاصروا الأونروا مالياً وطالبوا بإلغائها لتصفية قضية اللاجئين. ورفع رئيس الوزراء نتانياهو خريطة فلسطين الانتدابية في الأمم المتحدة باعتبارها إسرائيل. وخير وزراءه الشعب الفلسطيني المقيم داخل وطنه بين الموت وبين الاستسلام وبين الهجرة.
وما يزال بعض الفلسطينيين وكل النظام العربي الرسمي يعولون على النظام الدولي الذي يسيطر عليه الغرب الاستعماري لإنصافهم. ويتجاهلون أن بريطانيا هي التي أنشأت الكيان الصهيوني. وألمانيا هي التي مولته. وفرنسا هي التي زودته بالسلاح النووي. ودول أوروبا الغربية والشرقية وروسيا زودوه بالمستوطنين وبالدعم الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي. ويراهنون على الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود بنفسها حرب الإبادة (توجيهاً وتسليحاً وتمويلاً فضلاً عن استخدام الفيتو خمس مرات لمنع وقف الحرب). ويتجاهلون حقيقة أن جميع الرؤساء الأمريكيين، منذ “وودرو ويلسون”، الذي شارك شخصياً بالصياغة النهائية لوعد بلفور. و”هاري ترومان” الذي اعترف بإسرائيل فور إعلان قيامها. و”ليندون جونسون” الذي أرسل سفينة التجسس (يو إس إس ليبرتي) في حرب حزيران/ يونيو 1967. و”ريتشارد نيكسون” الذي وفر جسراً جوياً للكيان الصهيوني في حرب تشرين الأول/ اكتوبر 1973. و”جيمي كارتر” الذي نجح في إخراج مصر- القوة العربية الأهم جغرافياً وديموغرافياً وعسكرياً- من دائرة الصراع العربي- الصهيوني عام 1978. و”رونالد ريغان”، الذي رعى عملية اقتلاع منظمة التحرير الفلسطينية من آخر معاقلها في لبنان عام 1982. و”جورج بوش” الأب الذي وظف انهيار الثنائية القطبية وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالقيادة الدولية لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي خارج إطار الشرعية الدولية وقراراتها المُلزمة بحل القضية الفلسطينية في مؤتمر مدريد عام 1991. واستهدف، آنذاك، احتواء الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى، وبالتوازي إطلاق المسارات التفاوضية العربية- الإسرائيلية. و”بيل كلينتون”، الذي رعى عام 1993 اتفاقات أوسلو حول الحكم الذاتي الانتقالي الفلسطيني، ثم مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 لتأبيده. و”جورج بوش” الإبن الذي وظف هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 لتدمير العراق، القوة العربية الثانية جغرافياً وديموغرافياً وعسكرياً. ورعى الانقلاب الاسرائيلي على اتفاق أوسلو عام 2002 وإعادة اجتياح مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني في اليوم التالي مباشرة لإطلاق القمة العربية لمبادرة السلام. وأغفلها كلياً في دعوته لحل الدولتين في 24/6/2002، واشترط قيام الدولة الفلسطينية بإزاحة عرفات ونظامه من المشهد السياسي الفلسطيني وانتهت باغتياله. ولم تسفر الاستجابة الفلسطينية بالإتيان بنظام سياسي مسالم عام 2005، وقبوله بالإشراف الأمني للجنرال الأمريكي “دايتون”، والاقتصادي للبنك الدولي. ولم يؤد إلى إحداث أي تغيير في السياسة الأمريكية. فقاد “باراك أوباما” الثورات المضادة لثورات الربيع العربي، وأشعل الحروب الأهلية والبينية التي دمرت سوريا وليبيا والسودان واليمن. وقبيل انتهاء ولايته بأشهر وقع على اتفاقية تقضي بتقديم مساعدات عسكرية بقيمة 38 مليار دولار إلى إسرائيل على مدى 10 سنوات. وسرع دونالد ترامب عند توليه الرئاسة العام 2016 الخطى لحسم الصراع، فاعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل عام 2017 وفي العام 2018 نقل سفارته إليها، وقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية، وعن الأونروا. وأوقف دعم مستشفيات القدس، وأغلق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، وطرد السفير الفلسطيني. وأغلق الحسابات المصرفية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ودمج القنصلية في القدس مع السفارة الأمريكية. وأقر بشرعية الاستيطان في العام 2019 فأعلن وزير خارجيته “مايك بومبيو” أن بلاده لم تعد تعتبر المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة “مخالفة للقانون الدولي”. وأطلق عام 2020 صفقة القرن. وأيد خطة الضم الإسرائيلية دون إصدار قرار. وقاد عملية التطبيع العربي مع إسرائيل ورعى توقيع اتفاقيات أبراهام بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان. وواصل خلَفه جو بايدن ذات النهج- رغم اختلافهما على كل شيء آخر-. ولم ينفذ من وعوده الانتخابية سوى تقديم بعض المساعدات الإنسانية، وتمويل السلطة الفلسطينية للحفاظ على التزاماتها الأمنية اتجاه إسرائيل. وتم استبعاد السلطة الفلسطينية – المحاصرة والمغيبة سياسياً- عربياً وإقليمياً ودولياً. وكل ذلك قبل عملية طوفان الأقصى. (تم استدعاؤها مؤخرا بسبب تعثر حرب الإبادة الجماعية في تحقيق نصر عسكري بعد أكثر من خمسة أشهر من القتل والتدمير. وهو استدعاء مشروط بتعديلات هيكلية للقيام بدور الوكيل التنفيذي للقضاء على المقاومة وإخضاع خاضتها الشعبية).
الجانب الثاني: مشرق وواعد بتحولات استراتيجية تعكس وتصوب مسار حركة التاريخ. يدلل عليها التغيرات الجوهرية غير المسبوقة التي أطلقتها ملحمة غزة. وما تزال تأثيراتها تتعمق فلسطينياً وعربياً وإقليمياً ودولياً. ما يستوجب التمعن في دلالاتها الاستراتيجية دون تهويل أو تهوين. للتعرف على الإمكانات التي تتيحها التضحيات الهائلة للشعب الفلسطيني في قطاع غزة. وتبين ما توفره من فرص مهمة لتحقيق إنجازات ملموسة تؤسّس لعودة الشعب الفلسطيني إلى الخريطة الجغرافية. والتي باتت تحظى بقبول ودعم دولي رسمي وشعبي غير مسبوق. فقد أعادت عملية طوفان الأقصى والصمود الأسطوري للمقاومة وحاضنتها الشعبية إدراج القضية الفلسطينية على رأس جدول الأعمال عربياً وإقليمياً ودولياً. بعد تغييب طويل وتجاهل كلي على مدى عقود طويلة. أسهم فيه تيه النظام السياسي الفصائلي الفلسطيني، وسوء خياراته السياسية، وتكلس بناه التنظيمية والمؤسسية. وانفصاله عن شعبه. وانحرافه عن الأهداف التحررية بذريعة الواقعية السياسية، وجعلها رديفاً للقبول بالتنازلات عن الحقوق الوطنية. غير أن توفر الفرص لتحقيق إنجازات سياسية وجغرافية ملموسة، لا يعني تحققها. فالقفز عن توفير الشروط الذاتية والموضوعية الواجبة، كما حدث في مفاصل تاريخية سابقة، وأدى إلى تبديدها وتسبب في زيادة معاناة الشعب الفلسطيني، وأضعف مناعته، ورفع كلفة نضاله التحرري. واستثمار الفرص التي تتيحها التضحيات الجسيمة للمقاومة الفلسطينية الباسلة عموما، والصمود الأسطوري لقطاع غزة خصوصا، يحتاج تبينها إلى تضافر جهود الباحثين لدراسة التغيرات الجوهرية المتسارعة فلسطينياً وعربياً وإقليمياً ودولياً. ويحتاج أكثر إلى الارتقاء بالفكر والأداء السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والاجتماعي والتنظيمي والإداري الفلسطيني شديد التدني. وارتفاعه إلى مستوى الأداء الكفاحي لقطاع غزة. ويحتاج إلى وحدة وطنية فلسطينية حول القاسم المشترك الأعظم. وإلى ثورة تنظيمية ومؤسسية تعيد لمنظمة التحرير الفلسطينية شرعيتها لتمثيل الشعب الفلسطيني في كافة مناطق تواجده داخل الوطن وخارجه. وتؤهلها لقيادة نضاله التحرري في مرحلة تاريخية حاسمة. لتمكنه من التقدم بثبات نحو بلوغ المستقبل المستهدف، الذي يسترشد- كما سبقت الإشارة- ببوصلة الحقوق الوطنية والتاريخية الثابتة غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني في أرض وطنه. وينفتح على حلول إبداعية للتعامل مع التداعيات الديموغرافية للصراع، وإمكانية التعايش حصريا مع اليهود المعادين للصهيونية، والمنخرطين فعليا في النضال التحرري لهزيمتها. بتفكيك الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري، وبناء دولة وطنية يتساوى مواطنوها بعد تحريرها وعودة اللاجئين الفلسطينيين من مواطن اللجوء. فقد سبق لليهود أن عاشوا في المنطقة كأهلها طوال قرون. قبل نجاح الاستعمار الغربي الصهيوني في التغلغل بيننا، وغزو بلادنا.
* كاتبة أكاديمية وباحثة اقتصادية وسياسية فلسطينية
المصدر: موقع ملتقى فلسطين