غانية ملحيس *
خلافاً للزلازل الطبيعية التي تليها هزات ارتدادية (توابع) تقع في محيطها الجغرافي نتيجة محاولة الصفائح التكتونية- التكوينية العودة إلى مكانها على طول خط الصدع بعد حدوث الزلزال الأشد. وتتسم بقوة خلال الفترات الزمنية الأولى التي تعقب حدوثه، ثم تنخفض تدريجياً إلى أن تتلاشى. فإن الهزات الارتدادية التي تعقب الزلازل التي يتسبب بها البشر وتُحدث صدوعاً تكوينية في حياة الشعوب، تكون محدودة وضعيفة في مركزها ومحيطها الجغرافي خلال الفترات الأولى التي تعقب الزلزال، ثم تتزايد وتتضاعف قوتها تدريجياً، وتتوسع جغرافياً إلى أن تتمكن الشعوب التي استهدفها التصدع من الخروج من الصدمة وتشّرع بالنهوض. وتتلاشى فقط- كما توابع الزلازل الطبيعية- عندما تتمكن الشعوب الحية من استعادة مكانها ومكانتها.
وزلزال غزة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023- هو الهزة الارتدادية الأشد في جنوب فلسطين، والأعنف بين الهزات الارتدادية المتتالية التي شهدتها المنطقة العربية- الإسلامية الممتدة، منذ الزلزال الأكبر الذي ضربها قبل أكثر من قرن، وتسبب فيه التحالف الاستعماري- الغربي- الصهيوني- العنصري لإعادة هندستها بنيوياً، وأحدث صدوعاً تكوينية جغرافية وديموغرافية وسياسية واقتصادية واجتماعية عميقة. لم تقتصر على مركز الزلزال الذي انتزع فلسطين وشعبها من الخريطة الجغرافية والسياسية العربية والإقليمية والدولية. واستبدلها بكيان- استعماري- استيطاني صهيوني هجين، تم تخليقه في الغرب الأوروبي (مطابق لسابقه الإفرنجي- الصليبي) الذي زرعه الغزاة الأوروبيين قبل عشرة قرون. عندما نجحوا باحتلال البلاد بعد أن تفرق أهلها وتصارع حكامها على النفوذ. ونجح الكيان الاستعماري- الاستيطاني- الإفرنجي الذي أقاموه، آنذاك، في فلسطين بإدامة السيطرة الاستعمارية الغربية على عموم المنطقة الجيو- استراتيجية الأهم قرابة قرنين. قبل أن يُعاود أهلها النهوض ويحرروها في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 1187.
ومثلما جرى في الماضي البعيد. أسند التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري للكيان الاستيطاني المستحدث، الذي تم تخليقه في الغرب خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، لتجهيزه للتحكم بحركة الصفائح التكوينية المستجدة- بعد الزلزال الأكبر الذي يعقب الحرب الكونية الأولى لإعادة تشكيل المنطقة العربية- الإسلامية الممتدة. والسيطرة على توابع الهزات الارتدادية على امتداد خط الصدع فيها.
ولم يكد العالم يألف الاستقرار الجبري الذي فرضه النظام الدولي الذي أنشأه التحالف المنتصر في ثلاثة حروب كونية شهدها القرن العشرين وحصدت أرواح نحو 200 مليون إنسان (اثنتان قصيرتان داميتان بين الأقطاب المتنافسة على القيادة الدولية. وثالثة- لا تقل ضراوة- تواصلت حلقاتها لأكثر من أربعة عقود، وعُرفت بالباردة لأنها جرت بالوكالة عبر شعوب العالم الثالث، الذين يعتبرهم الغرب الاستعماري العنصري مخلوقات أدنى عرقياً، يتوجب إخضاعهم وبلادهم ومواردهم لخدمته ورفاهه.
بدايةً بالسيطرة المباشرة لترسيخ البنى المستحدثة بالقوة. ولاحقاً بتكليف النخب المحلية المتغربة الموالية الأقل كلفة، بالتحكم بحركة الصدوع والسيطرة على الهزات الارتدادية عند تمرد الشعوب.
وبدا أن استقرار منطقتنا الذي بدأ قسرياً، قد بات طوعياً بعد انهيار عصر الثنائية القطبية في أواخر ثمانينيات القرن العشرين وتفرد الولايات المتحدة الأمريكية بالقيادة الدولية. ورضوخ نخب مكوناتها الأصيلة وتسليمها بالواقع المستجد بعد استنزاف بلادها وشعوبها في صراعات داخلية وبينية ضارية، قربت الغرباء وباعدت بين الأشقاء. وأعيّت النظام السياسي الفصائلي الفلسطيني الذي واصل التنقل بين المناهج والخيارات لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني دون جدوى. فرضخ قادته المتعبون للقدر الذي رسمه طغاة العالم من الأعداء وذوي القُربى، حد استجداء رئيسه المسالم العالم الأصم في الأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر 2022، ومطالبته الالتفات لشعبه المظلوم، ولو بأقل من حقوق الإنسان.
فخالَ المتربصون من الأعداء والأصدقاء والأشقاء أن الوقت قد حان لحل الصراع. بتغييب الشعب الفلسطيني المشاكس الذي أعياهم استعصاءه طوال 75 عام. وتوافقوا جميعاً على تجاوز حقوقه الإنسانية والوطنية. واستثناءه في الترتيبات المستقبلية للمنطقة وعموم الإقليم. بعد أن تم ردم الصدوع في مراكزه وأطرافه، وأوشكت إعادة هندسته أمنياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً على بلوغ نهاياتها. فبات مؤهلاً لاستيلاد الشرق أوسط الجديد الذي طال انتظاره. واستكمل الكيان الصهيوني جاهزيته (عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً وإدارياً وإعلامياً) لقيادته. وتم استرضاء القوى الإقليمية الأصيلة- غير العربية- المتنافسة على موقع القيادة ببعض جوائز الترضية في الأراضي العربية المستباحة:
- تركيا العضو غير الغربي في الحلف الأطلسي.
- وإيران، الساعية لفك الحصار الأمريكي والغربي المؤلم الطويل، عبر تجديد التفاهمات بشأن برنامجها النووي، بحيث توافق على إيقاف تطويره لقاء رفع العقوبات عنها وقبولها مجدداً في المجتمع الدولي.
وأذعنت الأقطار العربية- التي استحدثتها اتفاقات سايكس بيكو بغية منع نشوء إقليم عربي وازن- لقرار الالتحاق بالإقليم الهجين فرادى. وتصالحها مع الكيان الاستيطاني الغربي الصهيوني المستحدث في مركز وصل الإقليم المعاد هندسته. وتشريع وجوده بإبرام معاهدات سلام معه. بدءاً بدولة المركز مصر في العام 1979. والأردن العام 1994 (بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، الذي رعته الولايات المتحدة الأمريكية لتسريع التطبيع العربي والإسلامي).
وعلى الرغم من انسحاب الكيان الصهيوني من اتفاق أوسلو عمليا في العام 2002 (عندما أعاد رئيس وزرائه أرئيل شارون اجتياح مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني، وحاصر رئيس السلطة الفلسطينية في اليوم التالي مباشرة لإطلاق مبادرة السلام العربية في مؤتمر القمة المنعقد في بيروت). لم يتوقف قطار التطبيع، بل تباطأت سرعته. لمحاولة التقاط السلطة الفلسطينية المعدلة في العام 2005- للحاجة إليها لاستكمال مهمة دمج الكيان الصهيوني في المنطقة- بعد إعادة تأهيلها سياسياً وأمنياً تحت إشراف الجنرال الأمريكي دايتون. واقتصادياً تحت إشراف البنك الدولي والدول المانحة.
فتم إضعاف مناعة الشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 لتقويض فرص قيام دولة فلسطينية عليها:
- جغرافياً بتقليص سيطرة الشعب الفلسطيني على أراضيه وموارده.
- وديموغرافياً بتراجع وزنه النسبي إلى إجمالي السكان عبر تكثيف وتسريع الاستيطان الصهيوني.
- وسياسياً بانقسام النظام السياسي الفصائلي الفلسطيني.
- وأمنياً بقصر مهمة التنسيق الأمني على حماية المحتل وملاحقة المقاومين.
- واقتصادياً بإنهاء التكامل الداخلي الأفقي والعمودي بين وحدات الإنتاج السلعي والخدمي، وبينها وبين الأسواق الفلسطينية. لتقويض القدرة الذاتية الانتاجية والتشغيلية والمالية للاقتصاد الفلسطيني، وزيادة الاعتماد في نموه على الطلب الاستهلاكي والاستيراد من الكيان الصهيوني وعبره. وتمويل الاستهلاك الخاص والعام بالدخل المتأتي من ضريبة المقاصة، وتحويلات العمالة في الاقتصاد الصهيوني (إسرائيل والمستعمرات الاستيطانية المقامة في الأراضي المحتلة منذ العام 1967). ومن المساعدات والقروض الخارجية المشروطة. والتسهيلات الائتمانية التي يقدمها القطاع المصرفي لقاء الرهن العقاري ورهن الرواتب إلخ.. ما أسفر بعد أقل من عقد عن تعميق الارتهان الاقتصادي والمعيشي الفلسطيني للكيان الصهيوني ورعاته الدوليين وأتباعهم) .
ومكن ذلك لتكثيف الضغوط المعيشية لتطويع السلطة الفلسطينية المحدثة لإجبارها على مقايضة احتياجات الشعب الفلسطيني المعيشية بحقوقه الوطنية. وعندما تمسكت بدولة فلسطينية مقيدة منزوعة السلاح. تم معاقبتها بإقصائها سياسياً، مع الإبقاء عليها للحاجة لدورها الإداري والأمني. حيث الصيغة المتوافق عليها إسرائيلياً وأمريكياً وأوروبياً لتسوية الصراع والمقبولة من غالبية أطراف النظام العربي الرسمي، لا تتعدى حكماً ذاتياً إدارياً محدوداً للسكان يقلص كلفة الاحتلال، ويبقي السيطرة الصهيونية على فلسطين من البحر إلى النهر.
ووجد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي تولى الرئاسة في العام 2016، أن الوضع قد بات جاهزا لاستيلاد الشرق أوسط الجديد بعد استكمال موجبات انبثاقه. وتأهل “إسرائيل” لقيادته. واستبعاد إيران ومحاصرتها لترويضها وطمأنة منافسيها. وتجاوز السلطة الفلسطينية في ترتيبات تسوية الصراع. وتقدم مسيرة التطبيع مع الدول العربية.
ما سيتيح للولايات المتحدة الأمريكية إمكانية التحلل من أعباء إدارة إقليم الشرق أوسط المعاد هندسته. والتفرغ لمواجهة مخاطر توسع النفوذ الصيني عالميا، الذي يشكل تواصله التهديد الرئيس لنظام الأحادية القطبية والتفرد الأمريكي بالقيادة الدولية. فأطلق صفقة القرن في مطلع العام 2020 لتثبيت الهيمنة الصهيونية رسمياً على كامل فلسطين الانتدابية. ورعى اتفاقات السلام الإبراهيمي بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب. وشدد الضغوط الأمنية والسياسية والاقتصادية على السعودية لإجبارها على الالتحاق بركب التطبيع . وأقصى السلطة الفلسطينية.
وواصل سلفه الرئيس بايدن ذات المسار. فكثف الضغوط على السعودية تارة بالتهديد، وأخرى بالترغيب والتفاوض حول صيغة الضمانات الأمنية الأمريكية للانضمام إلى السلام الإبراهيمي، الذي بات يتقدم باضطراد. ما دفع برئيس وزراء الكيان الصهيوني للتلويح في خطابه بالأمم المتحدة في 22/9/2023 بخريطة لبلاده في كامل فلسطين الانتدابية، وخريطة للشرق أوسط الجديد، الذي قال أنه بات واقعاً بفضل اقتراب إنجاز “السلام التاريخي”، بعد فشل جهود السلام في الماضي “لأنها قامت على فكرة خاطئة، بأن الدول العربية لن تطبع علاقاتها مع إسرائيل إذا لم يتم أولاً إبرام اتفاق سلام مع الفلسطينيين”. وأضاف مزهواً بانتصاره: “إن الفلسطينيين- الذين يمثلون 2% فقط من العالم العربي- سيضطرون للتخلي عن حلمهم الوهمي. عندما يرون أن معظم العالم العربي يتعايش مع دولة إسرائيل”.
وكان شديد الوثوق من أن، ذلك، “سيشجع المزيد من التصالح الأوسع:
- بين اليهودية والإسلام.
- وبين القدس ومكة.
- وبين أبناء إسحق وأبناء إسماعيل”.
وبدا أن الظروف قد باتت مهيأة تماما لبلوغ أهداف التحالف كافة. إذ كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أطلقت في العاشر من أيلول/ سبتمبر 2023- على هامش اجتماع قمة العشرين بالهند- خطتها الطموحة لتكريس الواقع الجيو- سياسي الجديد، بتكامل اقتصادي يربط الموانئ البحرية في الهند بأوروبا من خلال شبكة سكك حديدية تربط الدول العربية الخليجية، مروراً بالأردن، ووصلها بموانئ إسرائيل البحرية. لتأمين تدفق صادرات الطاقة والتجارة من الخليج إلى أوروبا بسرعة أكبر وكلفة أقل. وتوفير بديل مستقر للطاقة الروسية. ما يمكن من:
- إضعاف وعزل روسيا الجاري استنزافها في أوكرانيا من جهة.
- وإخضاع الأوروبيين للهيمنة الأمريكية من جهة ثانية.
- وتقويض النفوذ المتنامي للصين في المنطقة من جهة ثالثة عبر توفير بديل اعتراضي لمبادرتها “الحزام والطريق” الرامية إلى تطوير العلاقات التجارية بين دول آسيا وأوروبا وإفريقيا، عبر بناء المجمعات الصناعية، والموانئ والسكك الحديدية والمطارات. وبذلك، إدامة النظام الدولي أحادي القطب الذي تنفرد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادته.
فتفاجأ الجميع في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بانفجار بركان الأقصى الكامن منذ 75 عام في مركز الزلزال الأكبر بفلسطين. ليقلب الأمور رأساً على عقب. فيهز أساسات المستعمرة الصهيونية التي كانت قد استقرت فوق أنقاض الشعب الفلسطيني. ويربك انتشار لهيبة على طول خط الصدع في الإقليم. ويهدد بتقويض إنجازات التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري. التي راكمها عبر قرنين في الإقليم المعاد هندسته. ويطال بتأثيراته الجيو- استراتيجية العالم بأسره. بسبب تواصل الإخفاق الدولي للشهر الخامس على التوالي، في تبين موجبات ومستلزمات إخماده.
قد يخال البعض أنني أُغالي القول بشأن التداعيات الإقليمية والعالمية لطوفان الأقصى، وتأثير حرب الإبادة الجماعية لوقف تدفقه. التي يشنها التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري بكل قوته على قطاع غزة، متناهي الصغر في المساحة (1.3% من إجمالي مساحة فلسطين الانتدابية، و 0.000.18% من مساحة الكرة الأرضية) وفي عدد السكان (15.7% من إجمالي الشعب الفلسطيني و31.5% من إجمالي المقيمين منه في فلسطين الانتدابية، و0.0000028% من إجمالي سكان العالم).
وأحسب أنني لست الوحيدة في اعتقادي بأن حرب الإبادة الجماعية المحتدمة حالياً في قطاع غزة واحدة من الاستثناءات النادرة في التاريخ، التي تجعل تأثير حرب إبادة ضد شعب صغير ضعيف أعزل تواطأ الكون بأسره لاستئصاله، يفوق في حجمه وتداعياته واتساع نطاقه، تأثير حروب إبادة أكبر وأشد ضراوة في رواندا والكونغو والسودان وليبيا وسوريا والعراق واليمن إلخ … حيث دُمرت الأوطان وأبيد الملايين، ولم يكترث العالم.
والمؤكد أن تفوق تأثير حرب الإبادة الجماعية الجارية في قطاع غزة، لا يعود إلى الاهتمام العربي والإسلامي والإقليمي والدولي بحياة الشعب الفلسطيني المستباحة منذ أكثر من قرن، فجميعهم يكتفون بمتابعة وقائعها ولا يحركون ساكناً باستثناء دولة جنوب إفريقيا الفاعلة، وقلة قليلة من الدول المتضامنة، وغالبية شعوب العالم المُصادر قرارها من قلة نيوليبرالية معولمة تتناقص باضطراد.
وباستقراء التاريخ، يمكن إرجاع تفوق تأثير حرب غزة إقليمياً ودولياً على سواها إلى مجموعة من الأسباب التي يحتاج تناولها بتفصيل إلى مقالات عدة، لكنني سأكتفي في هذا المقال بتناول عناوينها:
السبب الأول: وربما الأكثر أهمية. يتصل بفكرة تمرد شعب صغير فقير ضعيف أعزل محاصر على العبودية والاستعمار. والتي أدت تاريخياً إلى تحرر الشعوب وهزيمة إمبراطوريات عظمى.
فبالرغم من توالي الثورات والهبّات الفلسطينية على امتداد أكثر من قرن، إلا أن طوفان الأقصى شكل تطوراً نوعياً في التحدي للتحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري المهيمن على العالم بأسره.
ثانياً: أنها المرة الأولى التي ينجح فيها نحو ألفين من أبناء اللاجئين الفلسطينيين بمباغتة عدوهم الوجودي الذي استقر فوق أنقاض آبائهم وأجدادهم. والمتفوق في موازين القوى على دول الإقليم كافة . ويتمكنوا، بأسلحتهم البدائية محلية الصنع من اختراق حصنه المنيع بسهولة وسرعة فائقة أربكته ورعاته الدوليين واتباعهم. وتكبيده في بضع ساعات خسائر فادحة غير مسبوقة فقد اعتاد التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري، المبادرة بشن حروبه المتتالية ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية على أراضيهم. والإمعان في قتل البشر وتدمير المكان دون دفع ثمن عسكري وسياسي رادع لجرائمه.
ثالثاً: أن حرب الإبادة الجارية في قطاع غزة، خلافاً لحروب الإبادة التي تخوضها الدول الاستعمارية الغربية بالوكالة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية عبر وكلائها من الأنظمة والجماعات المحلية (العرقية والدينية والطائفية والمذهبية) التي يسلحها ويمولها. ولا يعير وزناً لحياة وكلائه، لا تحظى الخسائر البشرية والمادية التي يتكبدونها نيابة عنه باهتمام سياسي أو إعلامي خارج حدودها.
فإن التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري يخوض بنفسه مباشرة حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني. وتحظى الخسائر التي يتكبدها خلال المواجهة مع المقاومة الفلسطينية الباسلة- ويصعب عليه إخفاؤها حيث تعرضها بعض وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي- بأهمية سياسية وإعلامية فائقة تجتذب اهتماماً محلياً وعربياً وإقليمياً وعالمياً واسعاً بمجريات الحرب. خصوصاً وأنه لم يعتدها في أي من حروبه السابقة مع دول وجيوش عربية مجتمعة، تفوق قوة المقاومة المحدودة والمحاصرة عدداً ومدداً وعدة. فضلاً عن دلالاتها الكاشفة للمراقبين أفراداً وشعوباً وقوى مجتمعية ودولاً ومحاور. على قدرة الإرادة الذاتية عند تفعيلها على التغيير.
رابعاً: أن حرب الإبادة الجماعية المتواصلة للشهر الخامس على التوالي في قطاع غزة- الأعلى كثافة سكانية في العالم- هي جزء من حرب الإبادة الأطول زمنياً في التاريخ (107أعوام). التي تواطأ فيها العالم، عندما تنكر لحق فلسطين في الوجود واستبدلها بإسرائيل. وأنكر وجود شعبها العربي الفلسطيني وتنكر لحقه في الحياة لاستبداله بالغزاة المستوطنين الصهاينة. فأصبح نصفه مهجر في مخيمات اللجوء خارج وطنه منذ 75 عام. وأخضع نصفه الآخر الباقي على أرض وطنه للتجزئة بين أربع وحدات جغرافية وأنظمة سياسية وقانونية وإدارية متباينة. وأخضعوا تباعاً لاستعمار استيطاني صهيوني عنصري ينفرد بخاصية إجلائية- إحلالية. وتم محاصرة سكان قطاع غزة وضعفيهم من اللاجئين إليه، بعد نكبة 1948 في بقعة صغيرة (365كم2) تكاد لا ترى بالعين المجردة على خريطة الكون. وتواصل استهدافهم في حروب متتالية منذ الغزوة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية الكبرى لفلسطين عام 1948، وعام 1956 (حيث تم احتلاله خمسة أشهر)، و1967(6 أيام انتهت بإعادة احتلاله منذ ذلك الحين) وتواصل استهدافه طوال عقدي سبعينات وثمانينات القرن الماضي. وسنوات الانتفاضتين الأولى (1987-1993) والثانية (2000-2004) وتكثفت الحروب عليه براً وبحراً وجواً في السنوات 2008/2009 (21 يوماً) 20012(8 أيام) 2014 (50 يوماً) و2021، (11 يوماً) 2022 (3 أيام). وأشدها وطأة حرب الإبادة الجماعية الأعنف في التاريخ الحديث، والمتواصلة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى اليوم.
خامساً: أن التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري الذي يخوض حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني منذ 75 عام. هو ذاته الذي سبق أن ارتكب جريمة الإبادة الجماعية ضد يهود أوروبا في أربعينات القرن الماضي واقتلعهم من أوطانهم الأوروبية لتوطينهم في فلسطين التي ستستبدل بإسرائيل، ولإحلالهم محل شعبها العربي الفلسطيني الأصلاني. من أجل تجنيدهم في تنفيذ المشروع الصهيوني الخاص بإقامة كيان استعماري استيطاني يهودي تسيطر عليه الحركة الصهيونية. ويمكنها من احتكار تمثيل يهود العالم. ويؤهلها، بذلك، للشراكة مع الغرب الاستعماري عبر توظيف الكيان الاستيطاني الصهيوني المستحدث في تنفيذ المشروع الإمبريالي الغربي العام للاستيلاء على المنطقة العربية- الإسلامية الممتدة. التي تقع في مركز العالم. وتشرف على خطوط التجارة والملاحة والمواصلات والاتصالات الدولية. وتمتلك ثروات طبيعية ومعدنية وفيرة. وطاقة أحفورية ما تزال تشكل عصب الاقتصاد الدولي. وتلعب السيطرة عليها الدور الرئيس في ترجيح موازين القوى على المستوى الدولي.
بمعنى أن التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني قد ارتكب جريمة إبادة مزدوجة لتحقيق أهدافه:
- فهو المسؤول عن حل المسألة اليهودية الناجمة عن العنصرية الأوروبية ومعاداة السامية في أوروبا طوال قرون، عبر الإبادة والتهجير القسري ليهود أوروبا لتوطينهم في فلسطين وإقحامهم في تنفيذ مشروعه الاستعماري للسيطرة على المنطقة.
- وهو ذاته المسؤول عن خلق المسألة الفلسطينية بتكرار ذات النهج لإبادة واستئصال الشعب العربي الفلسطيني من أرض وطنه. لإدامة هيمنته الإقليمية والدولية. بربط مصير ضحاياه الشعب الفلسطيني، ويهود إسرائيل الذين يواصل تسليحهم وتمويلهم لمواصلة الصراع الوجودي لخدمة أهدافه.
سادساً: أنها حرب الإبادة الأولى في التاريخ، التي تستهدف الإنسان والمكان والذاكرة، وتنقل وقائعها بالبث الحي صوتاً وصورة على مدار الساعة. وتخالف كافة القوانين السماوية والوضعية، والقيم الإنسانية والأخلاقية. وتتجاوز الأعراف المتصلة بالحروب منذ فجر التاريخ. وتستهدف- بقرار سياسي- المواليد الخدج والأطفال والنساء والشيوخ والمرضى والكادر الطبي والصحفيين. وتدمر البيوت والمستشفيات والمراكز الصحية وسيارات الإسعاف والمدارس والجامعات والمؤسسات الثقافية والكنائس والجوامع ومراكز الإيواء. وتقطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء والوقود والاتصالات، ويراقبها العالم أجمع. ما يجعلها تختلف عن سائر حروب الإبادة الأخرى التي سمع بها العالم بعد حدوثها، ولم ترها العيون. فلا يعود بالإمكان إنكارها، أو الطعن والتشكيك في صحتها وبشاعتها، ما يجعل من المتعذر تبريرها. والإفلات من عواقبها.
سابعاً: تزامنَ حرب الإبادة في قطاع غزة مع تحولات استراتيجية بنيوية داخل الدول وعالمياً، بفعل تداعيات النيوليبرالية والعولمة. ويمكن تلخيص أهم هذه التحولات بما يلي:
أ- تراجع الدولة القومية النقية عرقياً، لصالح الدولة الوطنية متعددة الأعراق والألوان والأجناس والثقافات. دون أن يواكب ذلك تطوراً نوعياً على مستوى الإدارة والسياسات الداخلية والخارجية بما يحفظ التوازن ويديم الاستقرار الذي تقوضه الانقسامات المتنامية بين المكونات المجتمعية داخل الدول، وبينها.
ب- تفاقم التباين المفاهيمي وتعمق الفجوات بين الأجيال على الصعد القيمية والحقوقية المتصلة بالحريات والمساواة الإنسانية والعدالة ..إلخ. وعلى الصعد المعرفية بسبب التطور العلمي والتكنولوجي وتقدم وسائل المواصلات والاتصالات.
ج- تنامي الصراع على الموارد بين الدول وداخلها. واتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة. فوفقاً لتقرير منظمة أوكسفام الصادر في 15/1/2024 حول توزيع الثروة. فإن أغنى 1% في العالم يمتلكون 59% من جميع الأصول المالية العالمية. إذ زادت الثروة المجمعة لأغنى 5 أشخاص في العالم بمقدار 464 مليار دولار خلال السنوات الثلاث الماضية، في الوقت الذي انخفض فيه إجمالي ثروات أفقر 4.77 مليار شخص، يشكلون 60% من سكان العالم بنسبة 0.2% بالقيمة الحقيقية.
وأصبح مليارديرات العالم أكثر ثراء بمقدار 3.3 تريليون دولار مما كانوا عليه في العام 2020، رغم الأزمات العديدة التي أثرت على الاقتصاد العالمي منذ بداية هذا العقد، وخصوصاً بفعل تداعيات فيروس كورونا. فقد نمت ثرواتهم أسرع بثلاث مرات من معدل التضخم. وتناول التقرير العوامل التي أدت إلى نمو ثرواتهم، والتي تعود أساساً إلى تنامي نفوذ الأثرياء بفعل تحالف الثروة والقوة والسلطة من خلال:
- خصخصة الدول.
- زيادة الضغط على أجور العاملين لإثراء كبار المساهمين.
- التأثير على أسعار المواد الغذائية والأدوية التي يستخدمها عامة الناس.
- الامتيازات الضريبية الممنوحة للشركات الكبرى بذريعة تشجيع الاستثمار.
- محاباة الأثرياء بتقليص العبء الضريبي، فقد أشار التقرير إلى انخفاض الضرائب على الشركات في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ( OECD) إلى أقل من النصف (من 48 % العام 1980 إلى 23,1 % العام 2022).
- علاوة عن التهرب الضريبي وتراجع إسهام القطاع الخاص في تمويل الموازنة.
- وتراجع الإنفاق العام على البنى التحتية (التعليم والصحة والخدمات ..إلخ). ما فاقم الفجوات بين الأغنياء والفقراء وعمق الانقسامات داخل الدول وحول العالم.
د- تراجع قوة الردع للولايات المتحدة الأمريكية، التي انفردت بقيادة العالم منذ انتهاء عصر الثنائية القطبية. بعد توالي إخفاقاتها في العراق، واليمن وأفغانستان وليبيا والسودان. وفشل عملية التسوية السياسية في أوسلو، وتنامي النفوذ الإيراني والروسي والصيني.
هـ- تعثر الحرب التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها “بالوكالة” ضد روسيا في أوكرانيا. وبدء التحول في ميزان القوة العسكرية لصالح روسيا. فقد فاقمت حرب غزة مشكلة أوكرانيا لتحول اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية وعموم الغرب باتجاه الشرق الأوسط، وتراجع الدعم الرسمي والشعبي لتمويل الحرب في أوكرانيا. وتحويل الأسلحة والموارد لإنقاذ المعقل الاستعماري الاستيطاني الغربي الصهيوني الأهم والأخير في جنوب الكرة الأرضية.
ويكتسب تزامن حرب الإبادة في قطاع غزة مع تفاعل هذه العوامل مجتمعة أهمية استثنائية، إذ تؤذنْ بتحولات استراتيجية لا تقتصر تداعياتها على فلسطين وإسرائيل والعرب والإقليم، بل تمتد لتطال غالبية دول العالم، والنظام الدولي ومؤسساته، والتي ستكون محور الجزء الثاني القادم من هذا المقال.
* كاتبة أكاديمية وباحثة اقتصادية وسياسية فلسطينية
المصدر: موقع ملتقى فلسطين