(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الخامسة والثلاثون من الجزء الأول– حول تجربة حزب البعث(I)؛ بقلم الأستاذ “ياسين الحافظ”
حول تجربة حزب البعث
(I)
« ان حركة جماهيرية تقوم على أسس موضوعية في هيكل المجتمع لا ينبغي أن تهاب الحقيقة ، فاذا هي لم تجد بعد في نفسها الشجاعة المعنوية لتجاهر بنقدها الذاتي فلن يكون ذلك سوى لأنها لم تصل بعد إلى المستوى الذي تبرهن فيه على أنها تعبير موضوعي عن حركة التاريخ ».
عن التقرير المذهبي للاتحاد الوطني للقوى الشعبية في المغرب
أولاً- الصورة العامة للحزب(1)
ليس الغرض من هذه الدراسة تقديم تقويم كامل للدور الذي قام به حزب البعث العربي الاشتراكي في ميدان النضال العربي، وإنما هو محاولة لدراسة الجوانب السلبية في هذه التجربة، لبيان الأسباب التي عاقت هذا الحزب عن تحقيق أهدافه على نحو أحسن وأكمل.
كان حزب البعث العربي الاشتراكي حزب الجماهير فعلاً، فقد استطاع أن يبلور- على نحو عام وعريض وبسيط- مطامح الجماهير، وأصبحت الشعارات التي أطلقها شعارات الجماهير العربية فعلا، وتواكب الحزب والجماهير في خط واحد وفي مسيرة واحدة ، لذا كان- من حيث المبدأ- الحركة المؤهلة، أكثر من غيرها، لقيادة النضال العربي في المشرق العربي بوجه خاص.
إلا أن حزب البعث العربي الاشتراكي- رغم الوشائج الوثيقة التي ربطه بالجماهير- لم يستطع أن يلعب دور الطليعة الفعلية للجماهير… لم يستطع أن يمارس دور القائد، مع أن المهمة الاساسية لكل حزب (وأحزاب التحويل الاجتماعي بصورة خاصة) هي تنظيم الجماهير وقيادتها.
وفي الوقت الذي تبنت فيه الجماهير الشعارات التي أطلقها الحزب، بقي السواد الأعظم منها (وبصورة خاصة جماهير العمال) خارج نطاق النفوذ المباشر للحزب وتنظيماته. لقد حرك الحزب الجماهير ووضعها على تخوم مشاكلها المباشرة، ولكن لأنه لم ينضج فكرياً وسياسياُ، بقي يسبح مع عفوية الجماهير وبين الجماهير، فبقي.. وأبقى الجماهير في حالة خام، فلم يستطع أن ينقلها إلى حالة من الوعي والنضج يكفل تأهيلها لمعارك متتابعة دوماً ومنتصرة دوماً. لذا بقيت الجماهير في حدود الرفض للواقع دون تصميم إيجابي للوصول إلى واقع جديد. وهذا هو التفسير الصحيح لكون الحزب قد صنع- بصورة أساسية- الوحدة بين سورية ومصر، ولكنه عجز عن المساهمة بإمساك دفة القيادة فيما بَلْهَ الإمساك بها بصورة أساسية وفعالة.
إن حزب البعث العربي الاشتراكي الذي ساهم مساهمة أساسية بصنع أول ظفر ثوري تاريخي للعرب في العصر الحديث، عندما هيأ المناخ للوحدة وأرسى قواعدها، إلا أنه إذ عجز عن تنظيم الجماهير وقيادتها أسلمها مبعثرة لعبد الناصر.. الذي زاد في بعثرتها وفي حماسها أيضاً، وهكذا تُركت الجماهير في منتصف الطريق تهزها آفاقه وتعرقلها عثراته.
إن الحزب بإسلامه الزمام لعبد الناصر قد برهن على إيمان بالوحدة مفعم بنكران الذات(2)، إلا أنه برهن في نفس الوقت على فقر إيديولوجي أيضاً. إن الدور التاريخي الذي لعبه عبد الناصر في حياة العرب الحديثة لا يبرر أبدأ تسليمه الزمام كاملاً ومنفرداً, فالنضال الجماهيري والمصير التاريخي لأمة بكاملها لا يجوز أن يكون «قفزة إلى مجهول» وإن تسليم الزمام لفرد هو ضرب من القفز إلى المجهول؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فان عظمة دور عبد الناصر وأهميته لا تعني بالضرورة وجوب اعتباره النموذج الثوري لحركة ثورية وجماهيرية لو كان المستوى الإيديولوجي للحزب في درجة أعلى من النظام الناصري.
إن منطلقات الحزب الأساسية (وهي منطلقات ثورية ولكنها غير جذرية) كانت نقطة الانطلاق في فضح كل ما هو فاسد ومتخلف ورجعي في الوطن العربي، كانت الشرارة الأولى في نضالٍ فضح الأجهزة السياسية التقليدية في الوطن العربي وهيأ لتحطيمها. وفي وسط غارق في ظلام الرجعية العميلة والانتهازية المصلحية حيث كانت أساليب التفكير والنضال ضدها عتيقة وتقليدية، ولا تختلف عنها إلا من حيث الدرجة.. كان صوت البعث العربي هو الصوت الوحيد القوي الذي انطلق يفضح الواقع العربي الفاسد والمتخلف والمجزأ بنبرة جديدة فيها صدق وحرارة وبمنطق جديد يتميز بالجرأة والحسم، (حتى الحركات الشيوعية كانت غارقة في سياسة انتهازية يمينية مع الأجهزة السياسية والتقليدية ومع السلطات الاستعمارية).
إلا أن ثورية الحزب كان يلفها ضباب من الرومانتيك والميتافيزيك. لقد أمسك الحزب بالأهداف العامة العريضة والبعيدة للنضال العربي، إلا أنه عجز عن الإمساك بالواقع العربي الملموس بكل جوانبه وتفاصيله وتناقضاته، هذا العجز لم يتح له خلق الأدوات الموضوعية للنضال، مما جعل خططه في النضال وأساليبه في العمل اليومي أساليب «حِرَفية»- إذا صح التعبير- فلم تَرْقَ إلى مستوى الهدف ولم تستشرف الطريق إليه.
ان موضوعة: «في حركتنا الإيمان يسبق العمل» قد لخصت على نحو واضح وكامل عقل الحزب، فكلّست انطلاقه الفكري والنظري وخنقت كل محاولة فكرية جدية في الحزب وأقصتها عن التفاعل الإيجابي المثمر مع الواقع الملموس والمتطور. إن الفكر السياسي- باعتباره فكراً عملياً من حيث الأساس- لا يمكن أن ينضج إلا بانفتاح كامل على الواقع الملموس ومعاناة حيّة مباشرة له؛ ولكن الحزب إذ وضع العربة أمام الحصان (الإيمان قبل العمل) أصبح يدور ويدور حول فكرات مسبقة أصبح التسليم بها ضرباً من التدين التقليدي، وتحولت شعارات الحزب (القومية بخاصة) إلى ما يشبه (التابو) في الديانات البدائية القديمة، فَخَوتْ من أي مضمون محدد مباشر على الصعيد الطبقي والاجتماعي.. وهكذا امتنعت على الحزب الرؤية العميقة الشاملة المتطورة للواقع العميق والشامل والمتطور.
وفي انغلاق كامل عن الواقع ارتد الحزب (أو قسم هام منه على الأقل) إلى نفسه، ووضع نفسه فوق الجماهير وأخذ وضع «الأستاذ » المتعالي على «جهل» الجماهير.. وهكذا أصيب بحالة تشبه «النرجسية» أخذت تسميات عديدة : «الحزب ضرورة تاريخية» «الحزب قدر الأمة العربية» الخ. وهكذا وإذا جسد الحزب في نفسه مصلحة الأمة العربية أصبح أسير قضاياه المباشرة (حتى الصغيرة منها) ولهذا أخذت أساليبه طابع الاستفزاز والاستعلاء على صعيد العمل اليومي.. بشكل هدد بقطع الحوار مع الجماهير اللاحزبية.
إلا أن هذه الحقيقة هي نصف الصورة.. هي جانب من الحزب، أما الجانب الآخر منه فمغاير إلى درجة التناقض. لقد تخطى هذا القسم من الحزب «التابو» واخترق الضباب الميتافيزيكي ليغرق في حمأة الواقع بصورة مبتذلة . فالانفتاح على الواقع إذا لم يُغذه العقل العلمي والثقافة الفنية وإذا لم تحركه الروح المبدئية والأساليب الثورية يتحول إلى انتهازية رخيصة مبتذلة تحمل الاستسلام المتدرج الأكيد للواقع الفاسد. لذا فإن اندماج الحزبين «البعث العربي» و«العربي الاشتراكي» في التشكيل الجديد الذي سمي بحزب البعث العربي الاشتراكي بقي بمجرد التصاق (لا صهر)، كفلقتي حبة الفول التي تلفهما القشرة فقط. وجاء التشكيل الجديد حاملاً ملامح «العربي الاشتراكي» أكثر من «البعث العربي»، جاء حاملاً إصرار البعث العربي على الوحدة العربية وإيمانه المطلق بها، إلا أنه حمل من العربي الاشتراكي نفحته الشعبية من جهة وانتهازيته من جهة اخرى.
في التشكيل الجديد بدأت تخبو، رويداً رويداً، الجذور الثورية للبعث العربي القديم، إن العربي الاشتراكي، رغم السيماء الشعبية لقسم هام من قواعده ورغم أنه نشأ في معمعان نضال فعلي مباشر ضد الاقطاع (وهذا ما افتقده البعث العربي)، إلا أن قيادته الاقطاعية الصغيرة (التي لم تصف الرواسب القديمة في ذهنها وطريقة عملها) دفعته إلى الركض وراء الكسب السريع، والركض وراء الكسب السريع أوقعها في الكسب الرخيص، والكسب الرخيص عاد بها من جديد إلى انحرافات الواقع الاقطاعي- البورجوازي. ولهذا جر التشكيل الجديد بكامله إلى إطارات الحكم التقليدية الرجعية.
إن انفلاق حبة الفول قد كرّس نهائياً انتهازية المرتدين، فقد استطاعت الرجعية «تدجينهم»، فخانوا الجماهير نهائياً مع أحدات ۲۸ أيلول 1961، وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الأجهزة السياسية التقليدية، سواء كانوا داخل إطار الحكم أو خارجه فهم وإن تحولوا إلى المعارضة سيلعبون حتماً دور «معارضة صاحبة الجلالة».
لم ينفصل المرتدون عن الجماهير نتيجة خطأ في التقدير أو الاجتهاد، بل جاء هذا الانفصال كنتيجة حتمية لتدرج بطيء وطويل نحو مستنقعات البورجوازية. لقد ألِف هؤلاء أجواء السلطة، وهم داخل هذه الاطارات وحولها منذ عام 1949؛ بحيث أصبحت السلطة جزءاً من تكتيكهم في «النضال !!»، وإن تناقضاتهم المتقطعة مع السلطة الرجعية كانت دائماً سطحية وعابرة ومؤقتة وجزئية.
………………..
الهوامش:
(1) تتناول هذه الدراسة حزب البعث العربي الاشتراكي في القطر السوري. ولكن هذا الفرع وإن كان «الأم» للحزب كله، إلا أن فروع الحزب الأخرى، وبصورة خاصه في العراق، له ملامحه الخاصة، حيث حفظت نشأته النضالية في ظروف الكفاح السري تماسكه من جهة وروحه الثورية العميقة العارمة من جهة أخرى، أن هذا الفرع بخاصة مُطالب بصورة ملحة وأساسية بالإمساك بزمام المبادرة لتجسيد واقعه الثوري على الصعيد الإيديولوجي وحل مشاكل مجموع الحزب الفكرية والتنظيمية في جميع الأقطار، وبالتالي إعطاء مضمون نظري, ثوري, وعلمي لشعارات الحزب، تتيح انفتاحاً كاملاً واعياً على الواقع العربي.
(2) تجلى هذا النكران للذات في أعضاء الحزب وجماهيره بخاصة، ولسنا بصدد الحديث عن الأسباب المباشرة لموقف بعض الأوساط القيادية في الحزب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع.. الحلقة السادسة والثلاثون بعنوان: حول تجربة حزب البعث(II)؛ بقلم الأستاذ “ياسين الحافظ”