يوسف سلامة *
أولى الخصائص النوعية التي تمتاز بها الثورة السورية التي اندلعت في 15 آذار/ مارس لعام 2011 أنها ثورة أصيلة قد توافرت لها جملة الشروط التي جعلتها تتخذ صورة (انتفاضة شعبية) على النظام السوري المستبد والفاقد لكل صور الشرعية، السياسية والاجتماعية والأخلاقية. ولم تكن كذلك إلا تكيفًا مع الشروط غير الإنسانية التي فرضها النظام المستبد، وتمكن بواسطتها من تحويل ملايين السوريين إلى جزر منفردة يعسر على الجميع فيها التواصل مع الجميع بسبب السطوة الوحشية لأجهزة الأمن. فكانت النتيجة أن تحول كل سوري إلى أن يكون حبيس ذاته.
وعلى الرغم من الصعوبات كلها وشراسة الأعداء الذين ناصبوا الثورة السورية العداء، فقد ظلت هذه الثورة ذات بعد حضاري يتمثل في التطلع إلى تحقيق الانعتاق الذاتي للذوات البشرية، وإطلاق طاقاتها الحرة في شتى ميادين الحياة. تلك الطاقات التي عطلها النظام حتى كاد البشر يتحولون إلى بقايا إنسانية قد ضخ فيها الاستبداد مضموناً مناقضاً لكل ما هو إنساني، ومجافياً لكل ما تقتضيه الكرامة الإنسانية من حرية وعقلانية وقدرة على اختيار المعنى والماهية الذين من حق كل فرد أن يعيّن، انطلاقاً منهما، ذاته بصورة حرة بعيداً عن كل أشكال الإجبار والإكراه والتعسف.
وسيظل هذا البعد الحضاري الإنساني صفة مميزة للثورة السورية على الرغم من كل التشوهات التي لحقت بها. مثل الصور المختلفة للأسلمة وما اقترن بها من صور الاستتباع العسكري والسياسي للأطراف الإقليمية والدولية. فمعظم هذه النتائج السلبية راجع إلى الجهد المنظم لقيادة النظام في دمشق وحلفائه الإيرانيين الذين أغرقوا البلاد بميليشيات شيعية متخلفة لم تلبث أطراف أخرى أن أنتجت ميليشيات سنية لا تقل تخلفًا عن نظيرتها الشيعية وذلك كله يعني أن (الأسلمة)- مهما كانت صورتها- لا تزيد عن كونها قشرة أريد لها أن تكون بديلًا من المضمون الحضاري والإنساني الذي يميز الثورة السورية.
إنجازات الثورة:
وعلى الرغم من كل المحاولات الرامية إلى تلطيخ سمعة (الثورة السورية) ودمغها بوصمة الإرهاب من جانب النظام وحلفائه، فقد استطاعت الثورة أن تقدم إنجازات عظيمة، لم ينتبه إليها كثير من المحللين والمراقبين، ومن ثم لم تحظ بما تستحقه من الإبراز والتحليل.
ومن الممكن القول: إن الانجاز الأكبر للثورة السورية سيظل متمثلًا في كشفها عن أن (الفكرة الجامعة) التي فرضها النظام على الشعب السوري بالحديد والنار قد شاخت وماتت، حتى ليتعذر على أي عاقل أن يدعو إلى أن تحكم سوريا والسوريين بها من جديد.
وأما الإنجاز الثاني، فيتمثل في الإلحاح على ضرورة الانتقال السياسي إلى نظام جديد يتجاوز النظام السوري القائم بكل استبداده وديكتاتوريته. وفي هذا الإطار لا تشير المناقشات المتعثرة حول الانتقال السياسي في (جنيف) إلا إلى شيء واحد هو موت الأفكار التي حكم بها النظام سوريا من جهة، وإلى تجاوز وعي السوريين جميعًا لهذه الأفكار من جهة أخرى.
ومن المهم أن نبين أن تركيز المناقشات حول مفهوم (الانتقال السياسي) وحول (الدستور الجديد) يشير إلى أن المجتمع الدولي، إلى جانب السوريين، مُجّمع على أن النظام السياسي السوري وطريقته في الحكم قد أصبحت متناقضة مع الوقائع الجديدة التي خلقتها الثورة السورية. وليس ثمة ما يعوق اليوم تحقيق الانتقال السياسي وصياغة الدستور الجديد إلا المزاد العلني الذي جعل النظام بموجبه سوريا رهينة لمصالح القوى الإقليمية والدولية، برجاء إبقائه في السلطة نظير ما يتنازل عنه من سيادة وطنية ومواقع جغرافية.
إن رعاية (المجتمع الدولي)، على الرغم من الصعوبات كلها التي تواجهها فكرة الانتقال السياسي، تعني أن الجميع يعترفون بالحاجة الملحة إلى استحداث (فكرة جامعة جديدة) تسمح للسوريين بأن يحكموا أنفسهم وفقًا لمثل مستمدة من المبادئ الديمقراطية والحرية السياسية والعدالة الاجتماعية المتوافقة مع القانون الدولي، والمراعية لمواثيق حقوق الإنسان. وهذه الرعاية تشير أيضا إلى أن المبادئ الأساسية التي يتكون منها أسلوب الحكم الذي كان سائدا قبل الثورة، قد أصبح متناقضًا مع القيم الحضارية التي حركت السوريين في دعوتهم إلى إسقاط النظام. وهذا يشير إلى ضرورة أن يسرع السوريون إلى استجماع الدلالات والمعاني والوقائع التي أبدعوها في ثورتهم، وصياغة ذلك كله في منظومة فكرية وسياسية تكون قادرة على عقلنة الحياة ضمن أنماطها وقيمها الجديدة. وما هذه المنظومة، في الحقيقة، إلا ما نطلق عليه في هذا السياق مصطلح (الفكرة الجامعة) التي ستتأسس عليها الجمهورية السورية.
آليات العمل: الحوار والإجماع
وفي ضوء ذلك كله، يصبح من واجب السوريين الانخراط في إنتاج الأفكار التي من شأنها أن ترسم سبل العيش المشترك المفضي إلى مستقبل يتسم بالاستقرار السياسي والاقتصادي والتنمية المستدامة في الصعد كلها. وليس من شك في أن هذا الأمر مشروط بتبني آليتين لا بد منهما في كل عمل سياسي، ولكل توافق اجتماعي، وهما (الحوار والإجماع). ولذا يبدو أن أي تقدم في الحياة السورية قد أصبح مشروطاً بنجاح الحوار فيما بين السوريين الذي لا بد أن يفضي إلى (إجماع سوري واسع نسبيا) على استبعاد دور الفاعلين الإقليميين والدوليين –بصورة مؤقتة- في مجرى ما يحدث اليوم في سوريا. على أن هذا الاستبعاد المؤقت للمؤثرات غير السورية، بصورها وأشكالها كلها لا بد
من العودة إليه ومناقشته في ضوء ما ينتهي إليه الإجماع السوري من قرارات أو مبادئ تتصل بمستقبل سوريا من منظور الإجماع السوري الذي سيشكل ضمانة كبرى لاستقلال سوريا ووحدة أرضها وشعبها بمكوناته وأطيافه كلها في وجه كل الضغوط الوافدة من خارج الإقليم أو الساحات الدولية.
تعريف الجامعة السورية:
وفي الإجابة عن السؤال: ما الجامعة السورية؟ نقول: الجامعة السورية هي تحول جذري صريح من الإيديولوجيات الإمبراطورية –المتمثلة في الجامعة الإسلامية والجامعة العربية والجامعة البروليتارية- إلى إنتاج (مواطنة سورية) أو (وطنية سورية) أو (جامعة سورية) نحاول من خلالها، بوصفنا سوريين، أن نبني وطنًا موحدًا قويًا وعادلًا ومنصفًا وقادرًا على توحيد أبنائه جميعهم بإثنياتهم المختلفة ودياناتهم المتنوعة وطوائفهم المتباينة. الجامعة السورية هي إذن الوطنية السورية الجديدة التي تستهدف تنمية الوعي السوري بذاته بوصفه وعيًا وطنيًا يجمع بين العرب والكرد والسريان والآشوريين والتركمان والأرمن والشركس وغيرهم. ولا يستهدف الوعي السوري التقريب بين الإثنيات ذوات الثقافات المختلفة، واحترامها فقط، بل التقريب أيضًا في ما بين جميع المنتسبين إلى الديانات والطوائف السورية، بما تتخذه الجامعة السورية من موقف محايد منها جميعًا، وبالوقوف على مسافة واحدة منها جميعًا، ومن دون أن تكون معنية بمناقشة أي من الجوانب العقائدية واللاهوتية التي تخص أي دين أو طائفة. كل ما تستهدفه (الجامعة السورية) هو تسهيل الحوار وجعله ممكنًا بين المنتسبين إليها بوصفهم مواطنين بالمعنى السياسي والمدني للمواطنة وما من شك في أن مصلحة أي سوري اليوم- بصرف النظر عن إثنيته وديانته وطائفته- تتمثل في العثور على وسائل الحوار والتواصل التي تمكن من بناء وطن واحد وجامع، والعيش في كنفه بسلام. فمن شأن ذلك أن يمكن الجميع من العمل على خلق أفضل الأوضاع المنتجة للتنمية البشرية المستدامة التي تتخذ من (الإنسان الفرد)، في حد ذاته، هدفًا لها. وجلي أنه لا سبيل إلى تحقيق هذا الهدف إلا بتوفير الشروط الضرورية لاحترام الشخصية الإنسانية والكرامة البشرية لكل فرد بوصفه شخصية حرة، حقها في النقد والانتقاد لا يحده حد، على اعتبار أن الحرية ذاتها لا حد لها إلا الحرية، ولا شيء غير الحرية.
الطابع المزدوج لمفهومات الجامعة السورية:
ومن ذلك يستبين أن مهمة (الجامعة السورية) التصدي لمجموعة من المهمات هي ذاتها التي تشكل مضمون هذه الجامعة. وهذا يعني أن علينا من أجل عرض مضمون (الجامعة السورية) أن نبين، بادئ ذي بدء، أن المفهومات الأساسية المكونة لتصورنا عنها تنطوي على ازدواج واضح يجمع بين المفهومات المكونة لهذه الجامعة وبين الإجراءات والعمليات التي لا تتحقق هذه الجامعة إلا بها. والخلاصة هي أن المفهومات المستخدمة في بناء مفهوم (الجامعة السورية) هي نفسها ما ينبغي ترجمته عبر التعينات التاريخية لهذه المفهومات. ففي الجامعة السورية لا انفصال بين النظر والعمل، وذلك لأن المفهومات المكونة لها، على الرغم من تنوعها –سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وغير ذلك- تشكل الإطار المنطقي الذي لا انفصال له عن المضمون التاريخي الحي لعملية البناء الفعلي لهذه الجامعة مجسدة في (الجمهورية السورية).
الديمقراطية قاعدة الجامعة السورية:
ولو تساءلنا عما يميز الجامعة السورية من غيرها من الأفكار والإيديولوجيات المطروحة على الساحة السورية هذه الأيام، لقلنا: إنها تستهدف ترسيخ الديمقراطية، أسلوبًا في الحكم وطريقة في العيش للمجتمع السوري، أفرادًا وجماعات. ومن الواضح أن هذا التقابل بين الفرد والجماعة واحد من العناصر التي قد تضع الممارسة الديمقراطية موضع الشك والتساؤل، ذلك لأنه من الصعب رسم الحدود، بصورة مسبقة، لإطار الممارسة في المجتمع الديمقراطي بميادين السياسة والاقتصاد، ولا سيما أنه لا ديمقراطية من غير تنافسية في شتى حقول الحياة.
وربما كان من الأفضل أن نضع المسألة المتعلقة بالممارسة الديمقراطية في صورتها الحقيقية، أي الأكثر جذرية. فالديمقراطية، وإن كانت تشير إلى حكم الشعب لنفسه عبر ممثليه المنتخبين- وهذا صحيح فعلًا- ولكن التحليل الأعمق يكشف لنا عن تقابل داخلي –بل حتى تناقض- لا تكون الديمقراطية ديمقراطية إلا إذا نجح المجتمع بالتوصل إلى حل مرن لهذا التقابل أو التناقض، بحيث يتغير أو يتطور هذا الحل في حدود تحافظ، ما أمكن، على نوع من التوازن الحرج لعناصر هذا الحل.
ما نعنيه بهذا التقابل أو ذاك التناقض هو أن الديمقراطية تتكون من عنصرين ضروريين في الممارسة الديمقراطية. ومن شأن طغيان أحدهما على الآخر أن يفضي إلى تدمير الممارسة الديمقراطية. ومن شأن ذلك أن يصبح أكثر وضوحًا عندما نعلم أن الديمقراطية تتكون من حدين لا انفصال لأحدهما عن الآخر، وهما: (الحرية والمساواة). ولا يخفى على أحد مقدار الصعوبة المترتبة على الجمع بينهما، حتى لقد مضى بعضهم إلى نفي كل إمكان للجمع بينهما في نظام واحد. وهذا ما يفسر لنا حقيقة النظم الاستبدادية التي تدعي أنها نظم تقيم العدالة بتنكرها للفرد. غير أنها، في الحقيقة، سرعان ما تتنكر للمجتمع أيضًا، فتتحول إلى أن تكون نظام الفرد المستبد. وفي المقابل، فإن النظم التي تطلق الحرية المطلقة للفرد على حساب الجماعة والمجتمع سرعان ما تتحول هي الأخرى إلى ليبراليات سياسية واقتصادية، بعيدة عن أن تكون ديمقراطية. لأن العدالة هي المعيار الذي ينبغي استخدامه في قياس التوازن بين الحرية والمساواة. ويبدو أنه ليس ثمة حل لإقامة الديمقراطية واستمرارها إلا صيغة تحافظ على حدي الديمقراطية المتقابلين، وتحاول، في الوقت نفسه، ابتكار الحلول التي تسمح باستدامة التوازن في ما بينهما.
والحل الذي نقترحه لإقامة الديمقراطية واستدامتها في إطار (الفكرة الجامعة) التي نطلق عليها اسم (الجامعة السورية) ينطلق من العمل على استكشاف كل الأساليب الممكنة التي توزع (القوة) أو (السلطة) داخل المجتمع، وبأكبر قدر ممكن من العدالة. وهذا يعني أن الديمقراطية بالجامعة السورية ستقوم على ثلاثة حدود متكاملة متفاعلة، وهي: الحرية والمساواة والعدالة.
وانطلاقًا من هذه الثلاثية، نرى أنه من شأن توزيع القوة أو السلطة على أكبر عدد من الأفراد، ولدى أكبر عدد من المنظمات المدنية والسلطات التشريعية، التمكن من خلق صور متتابعة ومتعاقبة للتوازن بين الحرية والمساواة مترجمًا عنها في صيغ متطورة للعدالة. صحيح أن كل مواطن في المجتمع الديمقراطي يملك صوتًا انتخابيًا، وهو مصدر مهم من مصادر توزيع القوة أو السلطة داخل المجتمع، ولكنه يظل غير كاف، ويظل المجتمع في حاجة إلى استكشاف وابتكار طرق أخرى لتوزيع القوة أو السلطة على نحو يجعل انفراد بعضهم بها أمرًا أشد صعوبة.
ومن شأن هذه المسائل مجتمعة أن تؤكد الدور الجوهري الذي تلعبه مؤسسات المجتمع المدني في كل نظام ديمقراطي. فهي قادرة على إحداث الفرق، إلى حد كبير، في عملية التوازن الضرورية بين الحرية والمساواة داخل الدولة الديمقراطية، بما تتمتع به تلك المنظمات من حقوق تمكنها من الدفاع عن الفرد في مواجهة الدولة، مثلما تتمكن من الدفاعَ عن حقوق الجماعات المستضعفة التي قد تكون تعرضت للظلم من الدولة أو من أي طرف آخر في صيرورة الحياة الاجتماعية.
إن توزيع القوة ما أمكن، وتمكين أكبر عدد من الأفراد والمنظمات والمؤسسات من امتلاك مقادير معقولة منها، إضافة إلى الدور الإيجابي الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني، ذلك كله يشكل خطوة أولى في اتجاه توزيع أعدل لمصادر القوة داخل الجامعة السورية. وهذا الجهد كله ضروري من أجل المحافظة على جوهر الديمقراطية الذي يجمع بين الحرية والمساواة اللتين لا يمكن التخلي عن إحداهما بحال من الأحوال تجنبًا لضياع الديمقراطية.
ولا يكون ذلك ممكنًا إلا بعدّ (العدالة) قيمة أساسية توحد أو تركب بين الحرية والمساواة، بل إن الحرية والمساواة لا تستمدان مضمونهما، ولا يمكن أن يكون لهما وجود حقيقي، إلا أن تكون قيمتهما ووجودهما مستمدين من قيمة العدالة ذاتها.
مبادئ عامة للجامعة السورية:
بعد أن أبرزنا الديمقراطية بوصفها جوهر الجامعة السورية وماهيتها، فإننا نحاول فيما يأتي أن نقدم مزيدًا من المبادئ الناظمة للجامعة السورية، ولا تزيد في الحقيقة عن كونها محض محاولة أخرى لشرح وتوسيع هذه القاعدة الديمقراطية التي تستند الجامعة السورية إليها في قيمها. وهذا يعني أن الأفكار التالية، التي نعدها بمنزلة مبادئ أساسية، تشكل محاولة أخرى لتعميق الحس الديمقراطي، فكرًا وممارسة، لدى السوريين جميعًا. وفيما يلي عرض لبعض هذه المبادئ.
أولًا: إرادة العيش المشترك
وهنا يتم الانطلاق من المصالح المتبادلة والمتكاملة بين جميع مكونات الشعب السوري التي ترى أن لها مصلحة في تشكيل كيان سوري موحد. وهذه هي القاعدة التي تضمن وحدة هذه المكونات وتفاعلها المفضي إلى إنتاج كيان سوري أخلاقي وروحي واجتماعي وسياسي متجاوز لما يتصف به كل مكون بصورة منفردة. وهذا الكيان هو (الجمهورية السورية)، و(الجولان المحتل) جزء لا يتجزأ من هذه الجمهورية.
ثانيًا: (الجمهورية السورية)
مفهوم جيواستراتيجي وظيفته حفظ الجغرافية السورية الواقعة بين درعا جنوبًا والحدود الدولية التركية شمالًا، ومن البحر المتوسط غربًا حتى آخر نقطة جغرافية واقعة على الحدود السورية العراقية شرقًا. والجولان أرض سورية يجب العمل بالوسائل كلها على عودتها إلى السيادة السورية من جديد.
ثالثًا: وحدة الأرض السورية
ينص مفهوم الجامعة السورية صراحة على أن كل شبر من الأرض السورية هو ملك للسوريين جميعهم، ومن ثم فليس من حق أي فرد أو مكون من المكونات السورية الانفراد بالادعاء بأن هذا الجزء أو ذاك من الأرض السورية تعود ملكيته له وحده من دون بقية السوريين. فالأرض السورية وحدة واحدة غير قابلة للتقسيم أو التجزئة تحت أي سبب أو ادعاء.
رابعًا: الجمهورية السورية رؤية سياسية
من مهماتها الاضطلاع بتقديم الأسس والمبررات التي تسمح للمكونات السورية جميعها بالتعرف على أنفسها بوصفها مكونات ذات خصائص معينة من الناحية الثقافية من جهة، ولكنها، من جهة أخرى، تهيئ الشروط الضرورية لخلق الوحدة السياسية في ما بين هذه المكونات الثقافية التي تتألف منها الجمهورية السورية.
خامسًا: المواطنة
مبدأ المواطنة المتساوية -الذي ستقوم عليه الجمهورية السورية الجديدة- هو الضامن لتمتع السوريين كافة بحقوق متساوية سياسيًا وقانونيًا واجتماعيًا وثقافيًا.
سادسًا: العلمانية
والعلمانية- التي تعني حياد الدولة تجاه الأديان جميعها- مبدأ مكمل وضامن وموجه للحياة السياسية والعلاقات المدنية بين الأفراد في حياتهم الشخصية ومعاملاتهم القانونية.
سابعًا: مسألة الأقليات
من شأن المبادئ السابقة أن تجعل مفهوم الجامعة السورية مفهومًا قادرًا على التعامل مع مسألة الأقليات السورية، الدينية والإثنية. فبمقتضى المبادئ المشار إليها أعلاه يصبح السوريون، بمختلف إثنياتهم وثقافاتهم وأديانهم وطوائفهم أكثرية أو أكثريات. فالفكرة الموجهة للجامعة السورية هي التوازن في ما بين المصالح، مصالح الأفراد ومصالح المكونات. وبمقتضى ذلك لا يجوز اتخاذ أي قرار إلا بالاستناد إلى صورة من صور (الإجماع) بين ممثلي المكونات السورية جميعها في المجالس التمثيلية والتشريعية. والمقصود بالتوازن، كما هو واضح، تطبيق مفهوم العدالة الذي تستمد الحرية والمساواة معناها منه.
ثامنًا: حرية العمل السياسي
الجامعة السورية مفهوم يضمن حرية العمل السياسي للأفراد والأحزاب المرخصة قانونيًا، فوق كل أرض (الجمهورية السورية). إذ من حق أي حزب أن تكون الجغرافية السورية بأكملها ميدان لنشاطه، شريطة ألا يكون للأحزاب طابع إثني أو ديني.
تاسعًا: الحرية الشخصية
الحرية الشخصية وحرية الضمير والاعتقاد أحد المبادئ الجوهرية للجامعة السورية. والسوريون، بوصفهم أفرادًا متساوين في امتلاك هذا الحق وممارسته، أحرار، وليس من حق أحد فرض معتقداته أو أفكاره على الغير مستخدمًا أي صورة من صور الإكراه أو العنف، حتى وإن بدت بعض هذه الأفكار لأصحابها سامية أو مقدسة.
عاشرًا: حرية التعبير
ومن المبادئ الأساسية التي تعلي الجامعة السورية من شأنها حرية التعبير السياسي من خلال الحياة الحزبية والكتابة الصحافية في شتى وسائل الإعلام والاتصال.
أحد عشر: حرية التعبير الثقافي
واستخدام اللغة التي تخص هذا المكون السوري أو ذاك حق يكفله القانون. وفي هذا الإطار يحق لكل مكون سوري استخدام لغته في التعليم والإعلام فوق أرض الجمهورية السورية بأكملها في حدود القانون.
اثنا عشر: حرية العمل والربح
وتكوين المشروعات الخاصة أمر مكفول في حدود القانون. ومما يشمله هذا المبدأ ويقتضيه احترام الملكية الخاصة وحرية التصرف بها أيضًا في حدود القانون.
تلكم هي بعض الأفكار والمبادئ والمفهومات الناظمة لتصورنا عن الجامعة السورية. ونرى- بإخلاص وصدق- أن هذا المفهوم ينطوي على قدر كبير من الاتساق مع روح العصر والانسجام مع متطلبات الحياة الديمقراطية ومراعاة المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان. ولهذه الأسباب مجتمعة فهو مفهوم يمكن وصفه بأنه وعي متطابق، أو على الأقل، أقرب ما يكون إلى التطابق مع جملة الوقائع والقيم التي خلقتها الثورة السورية. نعني بذلك أن هذا المفهوم يستجيب بصورة بناءة للمقتضيات الأساسية التي تسمح للسوريين- شريطة النجاح في التوصل إلى صورة من صور الإجماع السياسي حولها- بالشروع في مناقشة أهم المشكلات التي تواجه حاضر الوطن السوري ومستقبله، والعمل بدأب وصبر على استكشاف الحلول الملائمة لها. ونؤكد مرة أخرى بأن بناء نوع من الإجماع السوري شرط ضروري لمواجهة مقتضيات المراحل المقبلة من أزمات الوطن السوري وما أكثرها.
* كاتب أكاديمي وباحث سوري- فلسطيني راحل، رحمهُ الله
المصدر: موقع تلفزيون سوريا في 11 تموز/ يوليو 2019