حليم الصالح *
مقدمة:
بدأت هذه المرحلة (1963- 1970) بانقلاب بعثي- ناصري، بمساعدة بعض الضباط المستقلين، نسقته اللجنة العسكرية التي كانت قد تشكلت في أثناء فترة الوحدة مع مصر عامي 1959- 1960، كتنظيم سري فريد اتخذ منذ البداية طابعًا أقلويًا بنفوذ طاغٍ للضباط العلويين، من دون أن يرتبط ذلك بالضرورة بمشاعر طائفية، في مرحلةٍ طغت عليها التوجهات السياسية العقائدية. وكان نجاح اللجنة العسكرية في تثبيت سلطتها تدريجيًا بهذا العدد القليل من الضباط وصغر رتبهم أشبهَ بمعجزة، وقد لعبت السرية والظروف والمصادفات والإجراءات التنظيمية والدراسات[1] دورًا لم يكن يحلم به حتى أعضاء اللجنة العسكرية أنفسهم.
تختلف مرحلة 1963- 1970 عن سابقاتها بتصاعد حمى السباق للاستحواذ على السلطة، وزيادة عدد الضحايا، وتزايد شدة العنف المستخدم في أثناء الانقلابات، وشموله أعدادًا أكبر من الناس، فضلًا عن تزايد عمليات التعذيب[2] والإعدامات، بما يشبه فترة الوحدة وربما أكثر، وأصبح “تقرير بسيط على ورقة رفاقية، تبدأ بأمة عربية واحدة وتنتهي بالخلود لرسالتنا، يعني شهورًا في الزنزانة، وإنسانًا محطمًا طوال الحياة”[3]. وفي حين كانت مشاركة النخب العلوية متواضعة، سواء في مجريات الانقلابات العسكرية أو الحياة السياسية في أثنائها أو في الفترات التي تخللتها، فقد صار العلويون بعد انقلاب 8 آذار/ مارس 1963 في قلب الأحداث السياسية والعسكرية، بل صاروا محركها الرئيس في كثير من الأحيان. وإن هيمنة الضباط العلويين[4] وبروز دورهم بعد هذا الانقلاب، مقارنة بضباط باقي الأقليات الدينية، يعود إلى كونهم ينتسبون إلى الأقلية الأكبر (العلوية) من جهة، وإلى كثافة عملية الانتساب إلى الكلية العسكرية والتشجيع عليها من جهة ثانية، فضلًا عن التصفيات المتتالية التي طالت ضباط باقي المكونات.
في هذه الفترة، تقلصت الحياة السياسية شيئًا فشيئًا لصالح حزب واحد هو حزب البعث[5]، الذي سيتكرس دوره تدريجيًا كقائد للدولة والمجتمع. وبرزت في هذه الفترة مصطلحات عقائدية- سياسية- عسكرية جديدة، مثل الجيش العقائدي[6]، بعد عام 1966، ومجلس قيادة الثورة (المجلس الوطني لقيادة الثورة)، والقيادتين القومية والقطرية لحزب البعث، وحرب التحرير الشعبية وغيرها. ولم يعد لمؤسسات الدولة والتقاليد الديمقراطية دور يُذكر في ظلّ هيمنة هيئات حزب البعث وصراعاتها في المؤسستين المدنية والعسكرية، وتحوّلت رئاسة الدولة ومجلس الوزراء إلى مؤسسات شكلية خاضعة للمؤسسات الثورية وشرعيتها، فضلًا عن غياب الحياة البرلمانية.
بعد انقلاب الثامن من آذار/ مارس، تتابعت الصراعات السياسية بحدة أكبر، ليس داخل صفوف الضباط من الأقليات وبينهم وبين الآخرين وحسب، بل بين الضباط العلويين أنفسهم، إلى أن تمكّن حافظ الأسد، الذي كان يغلف حس السلطة لديه بالسلوك المتحفظ وبدماثة السلوك المهذب[7]، من إنشاء نظامه الأمني الشمولي على نحو منهجي متدرج، النظام الذي طوى مراحل الديمقراطية الهشة والانقلابات العسكرية[8]، فدخلت سورية مرحلة طويلة من الاستقرار الخادع.
وفي هذه الفترة، يمكن عزل عنصرين سياسيين- عسكريين كانا الأكثر تأثيرًا، أو أنهما احتويا مجمل الصراعات على السلطة، وهما حزب البعث بقيادتيه القومية والقطرية، واللجنة العسكرية بضباطها الفاعلين من الأقليات المذهبية بصورة أساسية.
………………..
يمكنكم قراءة البحث كاملًا من خلال الضغط على علامة التحميل: تحميل الموضوع
هوامش:
[1] مما يمكن ذكره في هذا الصدد أن صلاح جديد عمل دراسة عن الضباط حين كان مسرحًا في عهد الانفصال، وعندما تسلّم إدارة شؤون الضباط بعد الانقلاب، طلب من الضباط البعثيين العائدين إلى الجيش أن يلتحقوا بالقطعات الميدانية، وأن لا يختاروا وظائف مكتبية تحت طائلة فصلهم من الحزب، في حين كان الضباط الناصريون يتزاحمون على الوجاهة والامتيازات، فعندما تندلع الصراعات فإن القطعات العسكرية الميدانية هي التي تحسم الأمر. انظر: صقر أبو فخر، سورية وحطام المراكب المبعثرة، ص 297- 298.
[2] تحدث محمد معروف، الضابط العلوي السابق، عن مشاهداته حين تم الزج به في سجن الحلبوني من قبل عبد الكريم الجندي، رئيس الأمن القومي- المخابرات، خريف عام 1967 بعد عودته من المنفى بلبنان، وكيف كان يُجلد المساجين ويعذبون وينزفون. انظر: محمد معروف، أيام عشتها، ص 298.
[3] سامي الجندي، البعث، ص 132- 133.
[4] يعتبر عبد الكريم النحلاوي قائد انقلاب الانفصال بأن 4 أشخاص أرادوا أن يتحكموا بالجيش من خلال إدخال العلويين فيه هم: أكرم الحوراني وأمين الحافظ وعبد العني قنوت ومصطفى حمدون. يمثل رأي النحلاوي هنا نوعًا من الاتهام الضمني للبعثيين من خلال هذه الأسماء. انظر: عبد الكريم النحلاوي: 4 أشخاص دمروا سورية، حاوره عبد الله الغضوي ومحمد الحاج بكري، موقع العربي الجديد، 28 أيلول/ سبتمبر 2021، شوهد في 15 شباط/ فبراير 2023. http://surl.li/iuujk .
[5] من الطريف ما قاله سامي الجندي عن البعث، الحزب الخيالي، بأنه، وبعد سنوات على تأسيسه، لم تُجب قياداته أبدًا عن سؤال بسيط: ما هو البعث؟ انظر: سامي الجندي، البعث، ص 69.
[6] صار يُطلق على منتسبي الجيش غير العقائديين رفاق السلاح، وقد تم تهميشهم ولم يبق منهم أحد بحلول الثمانينيات. انظر: عزمي بشارة، الجيش والسياسة، إشكاليات نظرية ونماذج عربية، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت، 2017)، ص 117- 118.
[7] باتريك سيل، الأسد والصراع على الشرق الأوسط، ص 134.
[8] إن الفضيلة الوحيدة للانقلاب/ الحكم العسكري هي سرعة الإنجازات، ولكن هذه الإنجازات تنفرغ بسرعة، وهي تبدأ بثوار وتنتهي بسياسيين، وتمهد لانقلاب عسكري آخر. يمكن أن يفسر ذلك بسبب طموح نخب الدول المتخلفة الخارجة من تحت السيطرة الاستعمارية لردم الهوة الحضارية، مع عدم توافر الإمكانات اللازمة للحكم، أي حكم. انظر: منيف الرزاز، التجربة المرة، (مؤسسة منيف الرزاز للدراسات القومية، الطبعة الأولى، 1986)، ص 40.
ـــــــــــــــــــــ
* كاتب أكاديمي وباحث سوري
المصدر: مركز حرمون في 26 تموز/ يوليو 2023