الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

بين «المباراة الصفرية» و«معادلة رابح – رابح».. فلسطين مثالاً

محمد عبدالشفيع عيسى *

المباراة التي يخوضها «سيئ الذكر» «الإسرائيلي» هذه الأيام، وخاصة بعد (السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023)، تسمّى في لغة الإحصاء وفي «نظرية المباريات» أو «الألعاب»، مباراة صفرية ZeroــSum game. وفيها يسعى طرف من أطراف المباراة- أو جميع الأطراف- إلى العمل من أجل أن يكون كل المكسب له هو بالذات، وأن الخسارة تكون من نصيب «الخصم» الذي يجري حرمانه من أي مكسب، بغير منازعة أو جدال.

ولذا- مثلاً- يسعى «سيئ الذكر» إلى تحقيق مطلبين له في حرب «غزة» الحالية، في مواجهة المقاومة الفلسطينية البطلة بقيادة «حركة حماس»، وهما، كما يكرر وأذنابه المقربون:

أ ــ القضاء على حركة حماس (وأحياناً: القضاء على القدرات العسكرية لحركة حماس).

ب ــ الإفراج عن رهائنه المحتجزين لدى المقاومة بالقوة، دون مقابل وبغير شرط.

هذا عن فترة الحرب، أما ما بعد فترة الحرب، أو ما يسمى «اليوم التالي» ــ أي «ما بعد الحرب» فلا مكان لمنظمات المقاومة المسلحة سواء بالوجود العيني الملموس، أم بتولّي مهمة إدارة دفّة الحكم في قطاع غزة. ومن وجهة نظر «سيئ الصيت» فإن أمامه: إما إعادة احتلال قطاع غزة، عسكرياً وسياسياً، وإما أن يُنصّب نظام حكم يرضى عنه، ولو من شركاء (غير مقاومين)، من الضفة الغربية أو «القطاع».

والخلاصة من الأمر في هذا السياق، أن ما يسمى باليمين الصهيوني المتطرف في النظام السياسي (الإسرائيلي) يريد كل شيء، كل شيء، بينما لا ينال الخصم المقاوم شيئاً.

ويصل الأمر إلى منتهاه حين يصرّح بعض قادة هذا اليمين المزعوم، بأن الشعب الفلسطيني (وهو صاحب الأرض والحق) لا مكان له في (إسرائيل الكبرى) وأن نصيبه «الطرد» عبْر ما يسمى بالنزوح القسري. وحينئذ يحل محله رهط كثيف من (قطعان الهمج الصهاينة): المستوطنون الغزاة. ولذا يدعو قادة ذلك المسمى باليمين الصهيوني المتطرف إلى «تسليح» الأفراد (الإسرائيليين) بذريعة الدفاع عن أنفسهم (حق الدفاع عن النفس للأفراد وللكيان السياسي..!!) بينما يتم استبعاد الفلسطينيين عُنوةً بالسيوف الحديدية أو بالبندقية أو بالخناجر المسمومة، لا فرق.

ذلك ما يدعون إليه، ويكون المسار المتصور للحركة عندهم هو استمرار ما يسمى (الحرب) حتى تتحقق أهدافهم (المستحيلة…!) دون الاضطرار إلى تقديم أي تنازل أو تنازلات.

ولذا، يقومون الآن بنوع من تمهيد «الأرضية» للنزوح القسري ولأسطورة «اليوم التالي» بواسطة استمرار القصف العبثي العشوائي على الأشخاص الآمنين في بيوتهم، من أهل غزة الأبطال، وعبر محاولة جرّهم إلى معارك «صفرية» أو ربما إزاحتهم إلى منطقة الحدود مع مصر العربية عند ما يسمى (محور فيلادلفيا).. أملاً (مستحيلاً) في سلبهم من وطنهم، وتحويلهم إلى العيش في معسكرات اللجوء على الجانب الآخر من الحدود.

                                                                  *           *           *

فماذا يبقى من سبيل لدى «المقاومة الفلسطينية» في مواجهة كل ذاك…؟ لا يبقى أمام المقاومة إلا خوض «المباراة الصفرية المضادّة» أو «المعاكسة»، أي الإصرار على تحقيق كل مطالبها الوطنية دون أدنى تنازل للعدوّ الأثيم. ويكون من المنطقي إذن، أن تسعى المقاومة- بقيادة «حركة حماس» في الزمن الراهن كمثال- إلى التشبث بمواقعها، وإيقاع أكبر عدد ممكن وأهم «نوعية» من نخبة جنود العدوّ بين قتيل وجريح. ومن هنا يجيء إصرار المقاومة أيضاً على أن «تستنقذ» أفرادها الأبطال، وأن تحرم العدو من ميزة ومن (لذّة) الانتصار الموهوم.

ذلك ما نفهمه أيضاً من ترديد «سيئ الذكر والصيت»، من أنه لا بدّ محقّقٌ لهدفيْه بالقوة المسلحة: القضاء على المقاومة عسكرياً، وإخراج رهائنه سالمين..!. وإلا فإنه بذلك يكون قد خسر الحرب..!

في المقابل، وعلى النقيض، تسعى المقاومة إلى تحقيق هدفها التحرري، ولكن بالأسلوب ذاته: المباراة الصفرية، مع استبعاد قاعدة الكسب المتبادل (رابح- رابح) winــwin: فيكون لها كل شيء (النصر أو الشهادة) بينما الصفر للخصم الأثيم..!

ولكنْ تاريخياً، هل هناك من جديد، أم أنه كما قال «عنترة العبسي»- قبل قرابة ألف وخمسمائة سنة- وهو على صهوة جواده الأصيل:

   (هل غادر الشعراءُ من متردّمِ ..؟ أم هل عرفت الدار بعد توهّمِ ..؟).

وذلك تدليلاً على استمرار التقليد الشعري العربي التليد، البادئ دائماً بالبكاء على الأطلال ومناجاة «الغائب الحاضر»، والبحث عن أطلال الدار المفقودة للحبيب..!

نعم هو ذاك؛ إذْ (لا يفلّ الحديد إلا الحديد) حسب الحكمة العربية التقليدية، ووفق ما يشي به التاريخ الطويل للمواجهة الحاسمة، في العصر الحديث كمثال، حيث الاستعمار بجميع أشكاله ومضامينه: (اقتصادي استغلالي- سكني استيطاني- إحلالي أو «اقتلاعي» لأهل البلد- استيعاب أو إدماج ثقافي للأهالي ضمن ثقافة المستعمِر والتحدث والتفكير بلغته ولكنتهُ الأجنبية Assimilation.. إلخ). وعلى الضفة الأخرى: حركة التحرر الوطنى بجميع أشكالها ومضامينها أيضاً: مقاومة سلمية على النمط «الهندي- الغاندي»، ومقاومة مسلحة على النمط الجزائري الثوري وخاصة خلال حرب التحرير (1954- 1962)، وكذلك الفيتنامي خلال ستينيات القرن المنصرم، وبينهما طيف عريض..

هذا إذن قانون التحرر- كما يحكي «فرانز فانون»- فلا حرية إلا كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي منذ نحو مائة عام:

       (وللحرية الحمراء بابٌ.. بكل يدٍ مضرّجةٍ يُدَقّ).

هكذا إذن، لا رابح في معركة التحرر الوطني الجذري والكفاح المسلح سوى قوى المقاومة الوطنية، ولا مكان لقاعدة (رابح- رابح) وإنما مباراة صفرية بامتياز. وإن هذا ما يفهمه العدو أيضاً، ويطبقه كل يوم، كما طبّقه «الاستعمار» لقرون طوال العصر الحديث، وكما يمثله «الكيان الصهيوني» و«سيئ الذِّكر» راهناً.

وإلا فلتبقَ المقاومة الوطنية إذن كما كان أسلافها السابقون: لا تراجع ولا استسلام، بل قتال مظفّر حتى النصر.. خط متصل، واصل إلى فلسطين الجريحة… وإنه لخط النصر الأكيد، بمنطق «الضرورة»- أي (الحتمية)- التاريخية الإنسانية التحررية.

* كاتب وباحث مصري في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.