أسيد الحوتري *
يرى المنهاج النقدي الاجتماعي/ الماركسي أن الأدب والمجتمع يرتبطان بعلاقة جدلية، بمعنى أن كل منهما يؤثر في الآخر. فالمجتمع يؤثر في الأدب وخصوصا من حيث الثيمات، التي يطرحها وأسلوب تقديمها. كذلك يؤثر الأدب في فكر ومشاعر، وسلوك القارئ، الذي هو جزء لا يتجزأ من مجتمعه.
المتمعن في رواية «الماضي يموت غدا» للكاتب هارون الصبيحي يلاحظ تأثير المجتمع على ثيمات الرواية، فقد تطرق الكاتب إلى مجموعة من الآفات والمشاكل الاجتماعية، التي انعكست من أرض الواقع إلى صفحات الرواية. تجدر الإشارة هنا إلى أن المجتمع الذي عكس الكاتب عواره مجتمع عربي غير محدد بمكان، فلم يذكر الكاتب اسما للمدينة أو الدولة، التي تدور فيها الأحداث، وهذا مما يحسب للكاتب من باب أن كل المشاكل الاجتماعية التي عالجتها الرواية هي مشاكل عربية وليست حكرا على قُطر بعينه. أما هذه الآفات فجاءت كما يلي:
أولا، الفقر: تبدأ الرواية بسرد حكاية أبو خليل الذي يعاني من فقر مدقع لدرجة أنه لا يجد ما يصلح به جرس باب بيته، «لماذا لا نصلح الجرس أو نشتري جرسا جديدا؟». يؤكد أبو خليل أن الفقر هو السبب، «نحن فقراء وربما أقل من الفقراء». الفقر ثيمة رئيسة في الرواية وهي سبب معظم الشرور كما سيتضح لاحقا.
ثانيا، تسرب الطلبة من المدارس: عندما تيتّم خليل قرر أن يترك الدراسة وأن يعمل حتى يعيل أسرته، «أنا يمّا بدي أترك المدرسة وأدور على شغل». وهنا يريد الكاتب أن يلفت الأنظار إلى الأخطار الناجمة عن التسرب من المدارس كالأمية والجهل، والتحول إلى عمالة غير ماهرة، والوقوع في شرك الجريمة.
ثالثا، عمالة الأطفال: عندما فقد خليل والده، ترك الدراسة واتجه نحو سوق العمل ليعمل في التحميل والتنزيل، ثم في بيع الجوارب، «مضت ساعة تقريبا وعماد وخليل يعملان على تنزيل صناديق الخضار، دفع لهما التاجر أربعة دنانير». لاشك أن عمالة الأطفال تتسبب بخسارة كبيرة على المستوى النفسي، وقد تجعل من الأطفال مجرمين لتعاملهم مع من هم أقوى منهم، وهذا ما حدث لاحقا لخليل وعماد حين عملا في توزيع المخدرات.
رابعا، البطالة والبطالة المقنعة. في الحديث عن البطالة ذات المعدلات العالية قال خليل لعماد: «البلد غرقانة بالبطالة». أما البطالة المقنعة فكثيرون هم من يقومون بأعمال لا توفر لهم الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية. وكان العمل في العتالة أحد أشكال البطالة المقنعة. قال خليل لوالدته: «التقيت بصديق في السوق كان معي في المدرسة، واشتغلت معه في سوق الخضار بالتحميل والتزيل». بعد ذلك عمل خليل في بيع الجوارب، و»بسبب كثرة المشاكل والمشاجرات في سوق الخضار ترك السوق وبحث عن عمل آخر، أصبح بائعاً متجولا». كما تطرق الصبيحي لمن امتهنوا مضطرين البحث في حاويات القمامة، «توقفتْ شاحنة صغيرة (بيك أب) بجانب حاوية النفايات، قفز من صندوقها الخلفي شاب، نظر إلى داخل الحاوية، أخرج منها علبا معدنية».
خامسا: النفاق والخداع: وكان سعيد، شخصية في قصة كتبها أبو محمود، خير مثال على شخصية المنافق، الذي يكيل المديح للآخرين لأسباب عدة محصلتها تحقيق مصالحه الشخصية. أطلق سعيد على نفاقه اسم «خطة نفخ البالون»، والتي من خلالها سيمدح مديره مدحاً شديداً ليورطه مع الوزير فيما بعد ليتخلص منه ويحل محله في نهاية المطاف.
سادسا: الاعتقال والتعذيب: كان صبري الذي يتجول في الحارة وهو سكران النموذج، الذي قدمه الصبيحي على فساد المنظومة الأمنية في التعامل مع الإنسان، لقد «كان صبري مسجوناً في دولة عربية وتعرض للتعذيب». الاعتقال والتعذيب تسبب بأذى نفسي وجسدي لصبري، وجعله يعاقر الخمر، ويقضي حياته مشردا في الطرقات.
سابعا، أولاد العلاقات غير الشرعية: وكانت شخصية باسم هي من استدعت هذه الآفة الاجتماعية بكل ما تحمله من تهور وجهل ولا مبالاة وألم كبير لهؤلاء الأولاد، الذين جنى عليهم والديهم ولم يجنوا على أحد. يعترف باسم لأبي محمود فيقول:» أنا ابن حرام، لقيط، لا أعرف أمي وأبي.. لا تحتقرني يا أبو محمود، والله أنا بحبك وبحب الناس.. أنا مخنوق».
ثامنا، المفاهيم السلبية: وفي انتقاده لمفهوم (دبر حالك) أحد المفاهيم السلبية المنتشرة في المجتمع، والتي ينتج عنها الكثير من الشرور قال الصبيحي: «هو منهج حياة للكثير من الناس، وهو مرض مزمن ومعدي، (دبر حالك) وهذا يعني بالمفهوم الشعبي أن تفعل أي شيء حتى تتجاوز مشاكلك الشخصية…». (دبر حالك) هو مبدأ يحمل فكرة الغاية تبرر الوسيلة، ولا ينتج عنه إلا كل ما هو سلبي وضار للمجتمع مثل «الكذب والنفاق والرشوة والسرقة والجريمة وكل موبقات الدنيا».
تاسعا، السرقة: وهي من نتائج مبدأ (دبر حالك) سالف الذكر. فالمساعدات التي تقدم للدولة يتم سرقة الجزء الأكبر منها، «ستبتلع الحيتان كل الخير القادم». وللسرقة أشكال كثيرة ذكرتها الرواية.
عاشرا، الرشوة: تطرق الصبيحي إلى موضوع الرشوة وأوضح أن من يتلقونها يبررون عملهم المشين بأنهم يأخذون جزءاّ بسيطاً لا يذكر مقارنةً مع سرقات كبار المسؤولين، أما هم فلا ينالهم إلا الفتات، وكان دحروج، شخصية في قصة كتبها أبو محمود، مثالاً للمرتشين، «قبض دحروج مبلغا من المال مقابل التوقيع على طلب غير قانوني…أصبح دحروج صاحب ثروة ومن كبار الفاسدين».
حادي عشر، انخفاض سقف الحريات: كانت حياة أبو محمود خير مثال على ذلك. لقد اعتقل وزج به في السجن بسبب ما كان يكتبه.
ثاني عشر، الدعارة: لعل هذه الآفة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالفقر، أو بالبطالة، وبالفساد الأخلاقي بكل تأكيد، لذلك لم يغض الصبيحي الطرف عنها وذكرها فيما ذكر، «توقفت سيارة على مقربة من المرأة، تكلمت مع سائقها من النافذة، يبدو أنهما يتفقان على شيء، ضحكت وصعدت بجوار السائق…». وهذه الآفة الاجتماعية مرتبطة بمجموعة من الجرائم، كالسرقة، والابتزاز، والقتل أحيانا.
ثالث عشر، العنف المجتمعي: سلط الصبيحي الضوء أيضا على مظاهر العنف المجتمعي من مشاجرات في أماكن العمل، وفي الطرقات. فعندما كان خليل يبيع الجوارب في الطريق تعرض له اثنان من الطلبة الفارين من المدرسة فأهاناه «وبدأت المشاجرة، التي تخللها صفعات ولكمات وركلات وصرخات وشتائم بذيئة..».
رابع عشر، العقوق: إن عقوق الآباء معروف مجتمعيا، لكن الروائي سلط الضوء على عقوق بعض الآباء لأبنائهم عبر ظلمهم والتسبب في هروبهم من البيت. وتجلى هذا الأمر في الظلم الذي وقع على سعاد، التي خرجت من بيت أبيها ولم تعد، واتجهت نحو المدينة للاستقرار والبحث عن عمل. قالت سعاد وهي تصف ظلم والديها لها: «أمي قاسية وأبي أكثر قسوة، كان يريد ذكورا، رزقه الله بخمس بنات، نظراته كانت تقول إنه لا يريدنا».
خامس عشر، العنف الأسري: كان زوج سعاد يحتقرها ويعتدي عليها بالضرب، وتأكد سعاد ذلك قائلة: «كان يهينني ويضربني لأتفه الأسباب».
سادس عشر، ازدراء المرأة المطلقة: تطلقت سعاد بعد أن ذاقت الأمرين من زوجها، إهانات وضرب مبرح. مع ذلك لم يرحمها المجتمع بما في ذلك والديها، أكدت سعاد ذلك حين قالت «سجنوني في البيت، أنت مطلقة والناس تراقب وتتكلم، المطلقة مجرمة بدون محاكمة أو إدانة…».
سابع عشر، التمييز الطبقي: أضاء الكاتب على هذا التمييز في مشهد وصول مصابين من حادث سير إلى المستشفى، حيث كانت تعمل سعاد، وطلب أحد المسؤولين من مراد أن يتنازل عن شكواه ضد ابن البيك، الذي صدمه بالسيارة، وعندما رفض قال له المسؤول: «بدك تتنازل والكندرة فوق راسك وتقول إنه أنت اللي رميت حالك أمام السيارة، إنتو حشرات، ابن البيك ما يدخل السجن شو ما صار».
ثامن عشر، الانتحار: ومن المشاكل الاجتماعية التي لم يغفل عنها الروائي كان الانتحار، والذي هو نتيجة لليأس الناجم عن الفقر أو عن أمراض نفسية تتسبب بها مشاكل وضغوط اجتماعية. صور الكاتب رجلا وقد صعد على ظهر مجمع حكومي مكون من (10) طوابق لينتحر، أخذ الرجل بالصراخ قائلا: «ولادي جوعانين، بردانين، نحن بناكل من حاويات الزبالة ما في شغل إلا بالواسطة…الأسعار كل يوم بترتفع، الحرامية الكبار ما تركولنا شي…».
تاسع عشر، المخدرات: ولعل هذه هي الآفة الاجتماعية الأبرز في الرواية. تطرق الصبيحي لموضوع المخدرات بالتفصيل، فذكر كيف أن كثيرا من مروجي المخدرات يعملون تحت غطاء تجاري، وكيف يوزعون المخدرات عبر موظفين يعملون بتوصيل البضائع. كما قام بتوضيح أن الربح المادي من المخدرات ليس هو الهدف الوحيد من هذه التجارة، بل إن تخدير الشعوب هو أحد أهداف الساسة المستبدين لتحييد الشعوب واستبعادهم عن المشهد السياسي. يقول المدعو سلطان بيك أحد تجار المخدرات الكبار: «المطلوب توزيع كميات أكثر بكثير، وتخفيض سعر الحشيش والحبوب، بدنا تكون في متناول الجميع، الحشيش والحبوب بتنسي الناس الهموم والمشاكل وبتفرحهم. وتشغل تفكيرهم تماما عن التظاهر والاحتجاج، بدنا شعب مسطول سطلان».
كما تأثرت الرواية بهذا الكم الكبير من المشاكل الاجتماعية، حاولت الرواية بدورها أن تؤثر في المجتمع عبر تقديم نهاية موجعة تدق ناقوس الخطر وتمس المجتمع بكل طبقاته. قدمت الرواية أشكالا كثيرة للمشاكل الاجتماعية وجعلتها تتدحرج ككرة الثلج فتكبر وتكبر حتى تصل شكوى إلى الزعيم تحذره من تدهور الأوضاع وسيرها نحو الهاوية، ولكن لا يتخذ ولي الأمر أي إجراء يحول دون خروج الأمور عن السيطرة، فتنقسم الأحزاب السياسية حول ما آلت إليه الأمور، كما تنقسم القبائل إلى معارضة وموالاة، وتُختم الرواية بالتلميح إلى هبوب رياح ثورة على النظام القائم يدفع الجميع ثمنها كباقي الثورات، التي عاشتها المنطقة فيما أطلق عليه اسم «الربيع العربي».
نهاية تستفز الجميع أنظمة وشعوبا، وتؤثر فيهم بقوة حتى تدفعهم للتغيير السلمي لكل هذه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المترهلة، قبل أن يقع الفأس في الرأس.
هكذا اتضحت العلاقة الجدلية بين الرواية والمجتمع، فعندما تأثرت الرواية بالمجتمع عكست آلامه وآماله، وحاولت التأثير في المجتمع عبر دق ناقوس الخطر والتنبؤ بثورة قد تحرق الأخضر واليابس.
* روائي وناقد أردني
المصدر: القدس العربي