محمد تركي الربيعو *
اعتاد القرّاء العرب عند القراءة أو الكتابة عن مصر، التطرّق لتواريخ مدينة القاهرة أو الإسكندرية، بوصفهما المدينتان الأكثر تعبيراً عن واقع البلاد وتحولاتها في القرن العشرين. ولعل هذا الأمر مرتبط، بلا شك، بأهمية وموقع المدينتين تاريخياً، وأيضا لكون القاهرة بالأخص قد شكّلت الحاضنة الثقافية لمصر وما حولها. ولذلك كان لا بد أن تكون في مقدمة أي مشروع كتابي عن أم الدنيا كما يقال.
في مقابل هذا التوجّه، توجد اليوم محاولات جديدة لإعادة النظر في تواريخ اجتماعية مصرية أخرى، مثل أعمال الروائي الراحل حمدي أبو جليل حول الفيوم وقبيلته البدوية. ومؤخراً نرى ذات الشيء مع صدور كتاب غني بعنوان «44 أصوان.. مدينة أسوان في جيل العقاد» تأليف الأكاديمية المصرية عائشة خليل عبد الكريم، الصادرة عن دار ديوان. والمؤلفة هي ابنة أسرة من أسوان، ولدت وعاشت طفولتها في القاهرة، ثم أكملت دراستها في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية في الدراسات الثقافية. لكنها عادت في السنوات الأخيرة للكتابة عن تاريخ المدينة المهمش (أسوان) الواقعة على الحدود مع السودان.
هذا وقد اختارت الدكتورة عائشة الكتابة عن المدينة من خلال تاريخ عائلتها. ولأنّ التاريخ العائلي هو تاريخ ذاتي، وفي الوقت ذاته شفوي، نراها تعتمد بشكل أساسي على الروايات الشفوية وألبومات الصور وبعض المصادر الهامشية الأخرى. ومن خلال إعادة كتابتها لهذا التاريخ الشخصي، ستتمكن من كتابة تاريخ آخر للمدينة، وهو تاريخ بقي شفوياً أيضاً، وبعيداً عن أقلام الكتاب المصريين، إلا ما ندر.
ألو أسوان..
وعن سبب اختيارها لعنوان (44 أصوان) تشير المؤلفة إلى أنّ هذا الرقم هو رقم هاتف جدها في الأربعينيات. وتبدو المدينة من خلال السير الشفوية حتى نهاية القرن التاسع عشر عبارة عن مركز تجاري صغير يضم بضع حوانيت ومقاهي، مع ذلك فقد تميز هذا السوق بالبضائع التي تجلب من السودان. أما أهلها فينتمون إلى العرب، وهناك من لديه أصول فارسية أو تركية أو من البوشناق، وقد وفدوا إليها مع قوافل التجارة، أو مع سرايا الجيوش، ثم انصهروا في المدينة على مدار قرون.
كان جدها الأكبر تاجراً (جد والدها) وتلقى تعليمه على أيدي رجال دين محليين، ثم عمل بالمحكمة الشرعية، وبعد ذلك تزوج. توفيت زوجته بدايات القرن العشرين من الكوليرا، وعاش والدها في كنف جدته. وهنا نعثر، من خلال الروايات الشفوية عن هذه المرحلة، على أسلوب حياة النساء في هذه المدينة، وكيف كن يدخن، ويشربن القهوة، ويثرثرن، ويروين الروايات والحكايات. وتنتقد المؤلفة هنا الرواية الاستشراقية من خلال اقتباسها لإحدى مقولات عباس العقاد (ابن أسوان): «فالحريم اللاتي يشعر الفرنجة بالشفقة تجاههن يستمتعن بالحياة لكن على شرط وحيد: عدم وجود أي رجل».
بدأ تحوّل المدينة مع الاحتلال البريطاني لمصر في 1882، وقد غدت مركزا عسكريا لمحاربة الدراويش في السودان. وأخذ سردار الجيش المصري كتشنر ينقل ضباطا وجنودا بعتادهم ومعداتهم إلى السودان. وبعد فترة من الزمن شرع كتشنر في تنفيذ خطة سكة حديدية تربط بين مواقع في السودان وأسوان، مما أدى إلى اختصار الرحلات من أسبوعين ليوم واحد. ومع هذا التحول الجديد غدت المدينة أكثر حيوية وقرباً. كما عمل البريطانيون على إعادة تخطيطها من جديد دون السؤال عن تأثير هذه المخططات على حياة المدنيين. فمثلا لم يرق للبريطانيين اللون الطيني للطوب اللبني، الذي كانت الدور في مصر تبنى به إلى ذلك الوقت، ولذلك فرضوا عليهم طلاءً كثيفا يضعف التهوية الطبيعية للمنازل.
التقليد والحداثة: محاولة للتأقلم
وفي ظل هذه التغيرات ترى المؤلفة، من خلال ما سمعته من مرويات، أنّ جيل جدها قد تعايش مع الحضارة الغربية، فحافظوا على التقاليد الشرقية في البيت، بينما تعاملوا مع حضارة أوروبا في الفضاء العام. وستظهر أولى نتائج هذا التأقلم من خلال إقبالهم على تعليم أولادهم وبناتهم بشكل أكبر، وهذا ما نراه مثلا في صورة رحلة مدرسية لخالتيها تعود إلى أواخر الثلاثينيات، وتبدوان في نحو الثانية عشر من العمر، وزيهما المدرسي متماثل. الملفت أيضا تغير القناعات تجاه بعض الأحداث الاجتماعية مثل الطلاق، إذ يبدو أنّ تعدد الطلاق وحتى الزواج قد تراجع في هذه الفترة (أي الثلاثينيات والأربعينيات) ونرى هذا التراجع في القاهرة أيضاً في هذه الفترة تقريبا. فقد لاحظ المؤرخ الأمريكي كينيث كونو في كتابه (الزواج والحداثة) أنّ هناك عوامل برزت في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مثل تراجع سوق الرق، وكتابات قاسم أمين ومحمد عبده، ومحاولة الأسرة الخديوية الظهور بوصفها عائلة حداثوية، وانتشار التعليم، كلها عوامل لعبت دورا في تراجع نسب الزواج من ثانية، وأيضا الطلاق. ولذلك نرى جيل الأربعينيات في أسوان، قد بدا متأثرا بفكرة الزواج الأحادي. لكن هذا الأمر لن يستمر طويلا، فمع فترة الستينيات والسبعينيات ستعود ظاهرة تعدد الزيجات مرة أخرى.
تحية كاريوكا في أسوان:
تبدو أسوان في الخمسينيات مقبلة على تحولات ثقافية أخرى جراء دخول السينما لشوارعها. ففي إحدى الإعلانات المنشورة بجريدة الصعيد الأقصى، والتي كانت تصدر بأسوان، نقرأ إعلانا عن عرض فيلم «ما قدرش» عام 1946، الفيلم الذي قامت ببطولته تحية كاريوكا مع الفنان فريد الأطرش. ويبدو أنّ السينما أثّرت في أزياء نساء أسوان ورجالها، فأخذ الرجال يدهنون شعرهم ويخرجون كاشفين الرأس مثل أنور وجدي، وكذلك نرى فتيات أسوان وهن يقصرن من فساتينهن، ليظهرن شبيهات بكاريوكا. لكن في الثمانينيات ستعيش المدينة، كما حال باقي المدن المصرية، موجة جديدة من ارتداء الحجاب. وبذلك تبدو أسوان بقدر ما هي بعيدة بعض الشيء جغرافيا عن القاهرة، لكنها في المقابل قريبة للغاية من التغيرات التي كانت تشهدها القاهرة في الستينيات والسبعينيات.
البرغر والطهي: البارد والحار
لا تبدو المؤلفة في كتابها أحيانا مولعة بالتحولات الثقافة والحضرية التي عاشتها المدينة. بل نراها تحذر من خسارة الثقافة المحلية لصالح ثقافة سائلة يعيشها الجيل الجديد من أبناء أسوان. ولتوضيح فكرتها هنا، نراها تلتقط زاوية الطعام وتاريخه في المدينة لرصد ما باتت تعيشه هي وباقي المدن من تحولات قلقة.
كان الأنثربولوجي الفرنسي كلود ليفي شتراوس قد ميز بين نوعين من الطعام؛ الأول المطبوخ والذي يحمل دلالات اجتماعية واسعة، والثاني المشوي، والذي يعكس في أحد جوانبه معنىً يتعلق بالسرعة. وذات الشيء نراه في تاريخ طعام أسوان في القرن العشرين، إذ نرى أنّ جيل جد المؤلفة فضّل الطعام المبني على المرق في مطبخهم (الملوخية والويكة). كما اعتادوا إعداد الطعام داخل المنزل، فإما داخل الدار وإما في دور الأصدقاء والأقارب. في المقابل نرى اليوم افتتاح محلات أكلات الوجبات السريعة مثل البرغر، ووفدت إليها مشروبات مثل النسكافيه والكابتشينو لتزيح القهوة التقليدية جانبا، ولتغيب معها أيضا ذاكرة وعوالم من القصص والحكايا…
* كاتب سوري
المصدر: القدس العربي