صلاح سالم *
في كل عام وفي 14 من شهر (شباط/ فبراير) يحتفل كثيرون، في بقاعٍ مختلفة من العالَم بـ “عيد الحبّ”، الذي تُروى قصصٌ كثيرة عن نشأته، بعضها يحمل “تيمات” أسطوريّة، لا نسعى هنا إلى استدعائها، بل نحاول مُقارَبة تلك العاطفة المحُتفى بها، وما تنطوي عليه من أبعادٍ وجوديّة تكاد تَجعل منها كيمياءً كونيّة، فهي لاصقٌ روحيٌّ، ينطوي على جلّ العواطف السامية، ومن بينها عاطفة الإيمان الدّينيّ نفسه، التي لا تعدو أن تكون تنويعة على لحن تلك العاطفة الكونيّة؛ فكون الله مطلقاً اعتقاديّاً، يفرض المحبّة البشريّة (مُطلقاً أخلاقيّاً)، حيث الإيمان والحبّ يصدران عن نبعٍ واحد، يتطلّبان تطهيراً نفسانيّاً، ويفترضان سموّاً روحيّاً، مع تبايُنٍ في ذات المحبوب الذي تتوجّه إليه العاطفة، فهي الذات الإلهيّة/ المطلقة في حال الإيمان، والذات الإنسانيّة/ العاديّة في حال الحبّ.
لذا يُصبح المؤمن الحقيقي هو الأقدر على تمثُّل مشاعر الحبّ، فيَعشق الناسَ والكون، امتناناً لخالقهما العظيم. كما يصير المُحِبّ الصادق هو الأقدر على اكتساب روحانيّة الإيمان، ففي الحبّ سرٌّ قدسيٌّ يكاد يشبه نشوى المتصوّفة: فناء الهندوسيّ في روح البراهمن الخالدة، دخول البوذي إلى عالَم النيرفانا الساكن، استواء الكونفوشيوسي على طريق الجين القويم.
ولعلّ هذا يُفسِّر لنا كيف أنّ المؤمنين حقّاً يحبّون الناس جميعاً، ولو كانوا على غير دينهم، وأنّ المؤمنين زيفاً يسعون إلى تدمير غيرهم ولو كانوا على دينهم؟ ولماذا شهدت عقود التأسلُم العنيف فقراً حضاريّا ًكاملاً، وذبولاً عاطفيّاً واضحاً؟ فمَن يؤمن باللّه حقّاً لا بدّ وأن يحبّ الإنسان فعلاً، ومَن يتنكّر للإنسان فعلاً إنّما يتنكّر لله حقّاً. الأمر هنا يشبه قضيّة رياضيّة، يُمكن إخضاعها لمنطقِ الحركة بين محورَيْن: أحدهما رأسيّ يُمثِّل اللهُ ذروةَ ارتفاعِه، والآخر أفقيٌّ يمثِّل الإنسانُ غايةَ امتداده.
المحور الرأسي (ص) يؤسِّس للعلاقةِ بين الله والإنسان على قاعدة الحريّة الوجوديّة؛ فاللّه هو قطب الوجود الأوّل، خالِق الكَون والإنسان والزمان، الحائز على كمال الذّات والصفات، إذ لا يعتريه نقصٌ ولا يخضع لتحوّل، ولا يُمكن للعقل أن يحيط به، ولا للزمان أن يحتويه. أمّا الإنسانُ فعابِرٌ ومؤقَّت، مخلوقٌ فانٍ، مولودٌ وميّت. لكنّه في الوقت نفسه الخليفةُ الأرضيّ، قطبُ الوجود الثاني، الذي أُمرت الملائكةُ بالسجود له، حتّى أنّ الملاك الذي رَفَضَ ذلك (إبليس) قد حُرِم من الملكوت الإلهيّ، واعتُبر رمزاً مُطلقاً للشرّ. وعلى هذا الأساس تدور العلاقةُ المُبدعة بين الله والإنسان على محورَيْ الإيمان/ العبادة من جهة، والعناية/ الرّحمة من جهةٍ أخرى. إنّها العلاقة التي يُمكن اكتشافها في الكمال الإلهي نفسه، الذي يتوَّج بصفتَيْ الرّحمة والغفران. وعلى الرّغم من وجود صفاتٍ أخرى تعادلهما كالجبّار والقهّار، فإنّ الأخيرة تبقى صفاتٍ ثانويّة مُضافَة إلى الصفات الأوّليّة في الذّات الإلهيّة، إذ تبقى الرحمةُ دائمةً وأبديّة، فيما العذاب يبقى مشروطاً بخطايا العبد ومرهوناً بعفو الله. وهكذا تلعب صفات القهر دَورَ السلب، فليست هي إلّا تحدّياً عارضاً يعوق انسيابَ حركةِ الروح. أمّا صفاتُ الرّحمة فتمثّل دَورَ الإيجاب، أي المسار الرئيس لحركة الروح
أمّا المحور الأفقيّ (س) فيؤسّس للمَحبّة البشريّة بين الإنسان والإنسان على قاعدة المُساواة، كوجهٍ آخر لوحدانيّة الله المُطلقة وشراكة المؤمنين فيه. وهنا يتعيّن على المؤمن الحقّ أن ينشغل بإنماء عوالمه الداخليّة، ليجعلَ من إيمانه ملكةً روحيّةً يتعاطف بها مع الآخرين، جسراً أرضيّاً يحتضن البشريّةَ ويَرعى مُثلها العليا كالعدالة والخَير والحبّ، حيث يكون الإنسانُ مرفأً ورفيقاً لأخيه، وتكون البسمةُ في وجه القريب صدقة، ويكون الجميعُ إخواناً في مَملكة الله، مَعنيّين بعمارة الأرض وتحسينها وتمدّنها. يتجلّى هذا قرآنيّاً في الخطاب الإلهي إلى عموم البشر (الناس) كشركاء في عهد الاستخلاف، فيما يُخاطب المؤمنين به باعتبارهم (المسلمين). ولأنّ غاية العهد هي العمران، فإنّه يتأسّس على الأخوّة البشريّة الكاملة وليس على الكراهيّة، فمِن غير المعقول أن يقوم البعض بمهمّة العمران، وأن يتفرّغَ البعضُ الآخر للتدمير وإزالة ما يُقام من قواعد ويُرسَّخُ من أصول.
الإيمان مشروطاً بمحبّة الإنسان:
وإذ تُصبح المحبّةُ البشريّة هي الصمغ الضروري للوجود الإنساني، فإنّ الحركة على الإحداثي الصادي تخضع لمنطق الإحداثي السيني، ويصير الإيمان باللّه مشروطاً بمحبّة الإنسان؛ فكلّ سلوك يؤلم الآخرين أو يهدر العمران، لا يُمكن أن يَصدر عن أمرٍ إلهي، لأنّه شرٌّ وجودي، والله لا يأمر بشرٍّ قطّ. قد يَقبل الله أخطاءَ الإنسان على أنّها شرٌّ طارئ، ينتج عن ضعف الإنسان وضغط الحواس، يُمكن تجاوزه بالاستقامة من جديد، ما يَجعل من شرّه مجرّد انحناءٍ عَرَضيّ في صيرورة وجوده.
هذا الفَهْم تسنده الشريعة الإسلاميّة، مثلاً، عندما تحدّد مقاصدَها العليا في صَوْن الحرمات الخمس الأساسيّة وهي: النَّفس والمال والعرض والعقل والدّين، لا يجوز لأحدٍ النَّيْل منها تحت أيّ مسمّى، ومَن نالَ منها يُحرَّم عليه الغفران الإلهيّ، فاللّهُ يغفرُ كلَّ خطايا الإنسان مهما عظمت في حقّ ذاته العليّة، عدا الشرك به، لكنّه لا يغفر خطايا الإنسان في حقّ آخر، إلّا إذا سامحه، كما أنّه لا يطلب من أحد عقابَ أحدٍ على الشرك به، فهذا شأنٌ خاصّ به بينما يُطالِب الحكّامُ والقضاةُ بتحقيق العدل بين الناس على الأرض عبر القصاص، ولو أدّى القصاص إلى موتِ بعض الخاطئين جزاء ما اقترفوا من ذنوب. وهكذا يُقيِّد اللهُ غفرانَه للإنسان بتسامُحِ المظلوم، لأنّه يعلم بحكمته كم تؤلِم تلك الخطايا البشرَ الضعفاء. أمّا هو – جلّ شأنه – فلا يتألّم من شيء، بل يملك من القوّة والجبروت ما يستطيع به أن يجبر الإنسان على طاعته، بل وأن يحيله ملاكاً يُسبِّح بحمده ويطوف في فلكِه، لكنّه أراد له أن يبقى إنساناً مريداً، وإن كان خطّاء، يسعى إلى الله بروح المحبّة لا قوّة الإرغام.
ينبثق عن مفهوم المحبّة البشريّة بهذا المعنى الواسع، ظاهرة الحبّ الرومانسي، تلك العاطفة بين الرجل والمرأة، المُفترَض منها، حال صدقها، أن تُغيّر في كيانهما معاً. فالقيمة الكبرى للحبّ تكمن في قدرته على إخراجنا من كهفِ الوحدة وأسرِ الذّات، وإدماجنا في الوجود الرحيب، بحيث نتعامل مع الآخرين كذواتٍ حيّة وليس كموضوعات، بل ويدفعنا إلى التعامُل مع الجمادات نفسها على أنّها حيّة. ولذا كان الحبّ دوماً فعلاً أخلاقيّاً وسلوكاً نبيلا ًيُقدّره حتّى أولئك الذين لم يجرّبوه، لأنّ ثمّة شعوراً لديهم بأنّ في صدور المُحبّين، يَقبع شيءٌ جميل وخيِّر، يستطيع تخليصنا من أَسر الكراهيّة والحقد، وتحريرنا من قسوة العنف والشرّ، كي لا تصير دنيانا مَقتلة كبرى للروح أو مقبرة ضيّقة للجسد.
يدّعي البعضُ أنَّ الحبّ ظاهرة غربيّة، رابطاً بين الرومانسيّة وعصر النهضة، حيث توافَر للناس وقتٌ للفراغ مع القدرة على التعبير عن مشاعرهم وأيضاً على تدوينها، لتُصبح الرومانسيّة ابنةً للآداب والفنون الإنسانيّة. غير أنّ ذلك الفَهْم ليس إلّا وهْماً ثقافيّاً أَزْكَته المركزيّة الأوروبيّة، يَنبع من خلْطٍ واضح بين الوجود الفعلي للظاهرة وبين التعبير عنها. فالتعبير الأدبي عن الحبّ، ليس إلّا غلافاً خارجيّاً يَفترض تطوّراً حضاريّاً. أمّا الحبّ نفسه فقديمٌ قِدَم الوجود الإنساني، عبَّرت عنه جلّ التراثيّات الثقافيّة بأشكالٍ مُختلفة.
فمثلاً، عبَّر عنه شعراء الجاهليّة العرب في قصائد ومعلّقات بعضها كان شفهيّاً، وبعضها جرى تدوينه فانتقلَ إلينا مُشكِّلاً جزءاً يُعتَدّ به من أدبنا الرومانسي؛ بل إنّ ثمّة توقيراً للحبّ في التراث الإسلامي نفسه، نُطالعه لدى أدباءٍ كالجاحظ، ومتصوّفة كالتوحيدي، بل لدى فقهاءٍ كابن حزم، الظاهري، في كِتابه الأشهر “طوق الحمامة”، إذ يصف الحبّ قائلاً: “دقَّت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تُدرك حقيقتُها إلّا بالمُعاناة وليس بمُنكرٍ في الديانة ولا بمحظورٍ في الشريعة”.
يصف البعضُ الحبَّ بالأنانيّة المقنَّعة، فالمُحِبّ الذي يتألّم لفراق محبوبه، إنّما يتألّم لنفسه التي فَقدت امتدادَها، والعاشقُ الذي يحرص على وصالِ معشوقه، إنّما يعكس رغبةً في تملُّكِ جسده. غير أنّ هذا التصوّر يبدو متشائماً جدّاً، لأنّ حبّ الذّات حقيقةٌ تتخلّل كلّ العلاقات من دون أن تنفيها.
فحتّى علاقة الأمومة، أسمى العلاقات الكونيّة، مسكونة برغبة المرأة في توكيد ذاتها الأنثويّة. غير أنّ هذا لا ينفي مفهوم الأمومة. ولا شكّ في أنّ بعضَ المُحبّين أنانيّون، لا تعدو قصصهم حكايات صغيرة وتافهة، لكنْ ثمّة عشّاق حقيقيّون، حكاياتهم أكبر وأعمق، حتّى أنّهم يُغلقون دنياهم على ذكرى محبوبيهم، ويقصرون رغبتهم في التواصل على الأشياء المُنتمية إلى عالَم المحبوب، التي ربّما لمَسها بيده أو رمَقها بعينَيْه، إذ يشعرون معها بامتدادٍ ودفءٍ لا يجدونهما وسط الآخرين. فالذكريات الجميلة، ولو كانت بعيدة، تحيط المُحِبّ بأطيافٍ دافئة، تُعانقه على الدوام وتَحول دون شعوره بالوحشة والغربة.
كيمياءٌ خاصّة للحبّ:
يشعر العاشقون وكأنّهم يسيرون فوق السحاب، وهو ما يفسّره العِلمُ الحديث بوجود كيمياءٍ خاصّة للحبّ تبدأ تفاعُلَها بالتقاءِ العيون وتلامُسِ الأيدي وتسري إلى الدماغ على نحوٍ يَبعث النشوة في روحِ الإنسان وجسدِه. كما يربطون بين الحبّ والأمل، قائلين مع القدّيس بولس “المحبّة تؤمن بكلّ شيء وترجو كلّ شيء”، ومع الكاتب الفرنسي ستندال: “الحبّ نصف الحياة، بل النصف الأجمل فيها”. غير أنّ الحبّ لا يعني أن يرفل المحبّ في سعادة أبديّة وأملٍ دائم، بل ربّما صارَ الحبُّ نفسه باباً للألم، عندما ينقضي باختفاء المحبوب أو يذبل بصدّه، فعندها يشعر المُحبّ وكأنّه لم يَعُد شيئاً في هذا العالَم بعدما كان كلّ شيء فيه. لكنّ الألم المتولِّد عن الحبّ يبقى خَيراً من افتقاده.
فالحبّ، كالإيمان، ضرورة بشريّة لمُلامَسَة قلب الوجود الدّافق. وإذا كان وقوعُ المؤمن في المَعصية لا ينفي أهميّة الإيمان، فإنّ شعور المُحبّ بالألم، لا يُقلِّل من جدوى الحبّ. في الإيمان تنهض التوبة بتجديد العهد مع الله، وفي الحبّ يقوم النسيان بمدّ الجسور مع الكون، وهنا نقترب من قول الفيلسوف الوجودي كيركيغارد: “اليأس مرضٌ من تلك الأمراض التي يجب أن نعرفها، لأنّ يقظة الروح لا يُمكن أن تتحقّق إلّا من خلال اليأس”. لا يقصد كيركيغارد هنا اليأس كمصيرٍ محتوم أو غايةٍ مرجوّة لذاتها، بل كعرضٍ جانبي لأملٍ شاهقٍ ضائع؛ فالروح اليقظى، ولو كانت مُتألِّمَة، أفضل كثيراً للإنسان من روحٍ خاملة يُحيطها العبث ويحاصرها الخواء، فالألم قد يزيل الفرح، غير أنّه لا يَقتل المعنى الضروري للحياة.
يتبدّى المُحِبّ رقيقاً هادئاً، ولكنّه ينطوي جوهريّاً على قوّةٍ مضاعفة وصلابةٍ واضحة، تتغذّى على ذاتِ المحبوب، وتنمو بامتداده؛ لذا فإنّ الحبّ يصنع المعجزات حقّاً، لو أحسنّا فهْمَ المعجزة باعتبارها إرادة الإنسان نفسه عندما تبلغ ذروتها.
فالحبّ عامل تفجير للإرادة، يكشف للإنسان حدود قدراته التي كان يجهلها. وفي المقابل، يدفعه إلى الرضا عن حظوظه وأقداره، لأنّ امتلاءه الداخلي وسموَّه الوجداني يُقلّلان من حاجته إلى الأشياء الخارجيّة كالمال والسلطان، فيبدو غنيّاً جدّاً وقويّاً جدّاً من دون ثروة أو سلطة، لأنّ مركز إلهامه ينبع من داخله، وقوّة حضوره تتركّز في ذاته، وليس في ما يُحيط بها؛ لذا يبقى تأثيرُ هذا المحيط عليه ضئيلاً، إذ لا يُمكن للآخرين أن ينتزعوا منه شيئاً عزيزاً عليه، فيما هُم لا يرون هذا الشيء ولا يُمكن أن يلمسوه، ومن ثمّ يتألَّق وجوده في العالَم.
* كاتب مصري
المصدر: موقع مؤسسة الفكر العربي