(الحرية أولاً) ينشر حصرياً الكتاب المفقود «في الفكر السياسي» بجزئيه، للمفكرين “الأربعة الكبار”، وهذه الحلقة الثانية والثلاثون من الجزء الأول– ملامح نشوء التفكير الاشتراكي(1/3)؛ بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”
ملامح نشوء التفكير الاشتراكي(1/3)
لكل قضية إنسانية تاريخها، والاشتراكية التي تمثل في العصر الحديث، إرادة البشر في التحرر الكلي من كل ما يقيد انسانيتهم ويضيعها، ومن كل مستبد بمصائرهم من ظروف اجتماعية واقتصادية، هي من القضايا التي ملأت تاريخ النضال الإنساني الحديث، سواء في مجالات التفكير النظري أو على صعيد العمل السياسي والكفاح الشعبي، أو في مستوى التنهيج والتطبيق، هذا التا ريخ لم يعد يخص منطقة متقدمة من العالم دون غيرها (كأوروبا الصناعية مثلاً)، ولا هو ملك لدولة أو لكتلة من الدول، ولا هو مرتبط بحزب أو بحركة واحدة. إنه تاريخ تجربة إنسانية، تتغذى من نضال الشعوب ويتفتح عليها وعي الشعوب كل يوم، ويتغذى منها تقدم الانسانية ونضالها التحرري في شتى أقطار الدنيا.
لقد نزلت الفكرة الاشتراكية من بروج التأمل المجرد ومن عالم المطامح المثالية، إلى أرض الواقع فامتزجت بعرق وعناء الكادحين، لتصبح النور الذي يفتح وعي الانسان المظلوم على وضعه وعلى طبيعة الظلم، فيكشف طاقته وإمكانه ويكشف الروابط الوثيقة التي تربطه بجميع الكادحين والمظلومين الذين يعيشون من حوله، فالاشتراكية أصبحت أداة وعي ويقظة، ودستور نضال لحركات وأحزاب وشعوب.
ولكن هذه الاشتراكية، سواء في أفكارها ومنطقها ومبادئها، أو في الحركات الشعبية والنظم التي تقوم عليها، لها سيرتها ولها ظروف نشأت فيها وتولدت عنها، ولها تطورها، وتقدمها وانتشارها، أن لها تاريخها الذي بدأ وما زال يصعد.
والذي يميز الإنسان والتفكير الانساني، أن له تاريخ، وأنه يستطيع أن يفيد في حاضره من جميع مكتسبات الماضي وخبراته، كما يستطيع أن يستشف المستقبل بهدي هذه التجارب والخبرات، وأن يكون أداة فعالة في صنع هذا المستقبل. فرجل العلم، عندما يعود الى تاريخ العلم فيدرسه، وإلی نتائج تجارب واختبارات السالفين فيدقق في أسسها وطرائقها، إنما يتزود بخبرة ومعرفة تمكنه من إقامة بنائه العلمي الجديد على أساس أحدث وأمكن، إنه لا يعود إلى حيث بدأت تلك التجارب والدراسات السابقة، بل هو يبدأ من حيث انتهت ويستخلص حصيلة جهودها، ليضيف إليها جهده وليبني تجربته الخاصة به، ليصبح نجاح تجربته تجاوزاً للتجارب السابقة وتقدماً عليها. والتفكير الاشتراكي الذي يريد الانعتاق من الفلسفات الميتافيزيقية ومن طرح المسائل اللانهائية، ليكتسب طابع العلم فيستنطق الوقائع ويندمج بتاريخ البشر، هذا التفكير لا بد أن يضع نفسه في الموضع الصحيح من تاريخ تطور الفكر الإنساني، ومن تاريخ تطور الخبرات والتجارب الإنسانية في المجال الذي يتناوله هذا التفكير الاشتراكي. فالذي يقول بتجديد التفكير الاشتراكي أو بنهج خاص في التنظيم الاشتراكي، أو الذي يقول- وهو على حق- أن الاشتراكية ليست نموذجاً واحداً يطبق على جميع البلاد، بل هي تنبت على أرض الواقع الاجتماعي لبلد معين وشعب معين وفي مرحلة معينة من تطور القوى الاقتصادية والوسائل الانتاجية لهذا البلد ومن يقظة الوعي الشعبي والنضال فيه؛ إن كل ما يعطيه هذا القائل لنزعته الاشتراكية من جدة ومن تخصيص، لا يعفيه من أن يعرف بدقة المذاهب والتطبيقات الاشتراكية الأخرى، ومن أن يعرف كيف بدأت وإلى أين وصلت والمراحل التي مرت بها والخطوات التي تعثرت فيها وفشلت أو نجحت وأنجزت… بل ان موقفه الذي يؤكد به محاولة تقديم شيء جدید، لا يعني شيئاً ويصبح تخطيطاً في الفراغ، إذ لم يأت عن تحليل لتجارب الآخرين وعن معاناة واعية لما قامت عليه في الواقع. إن كل جيل يبدأ حيث انتهى الآخرون، ويغتني من تجارب الآخرين ومعارفهم كما يغتني من تحليل أخطائهم ومعرفة الصعوبات التي واجهوها وأساليب مواجهتهم لهذه الصعوبات. هذه هي طريق البناء الاشتراكي الذي يريد أن يتحقق ويرسخ وهذه هي طريق التفكير الاشتراكي الملتزم الذي يؤمن بأن الإنسان هو الذي يصنع التاريخ وهو الذي يملك القدرة على تبديل شروط حياته لينتقل بها إلى مرحلة أرقى وإلى تنظيم اجتماعي أفضل، وهذه هي طريق الانسان الذي يؤمن بوحدة الحقيقية والمشاركة الإنسانية.
إن للتفكير الاشتراكي تاريخه.. نشوؤه وتطوره.
وإن للنضال الاشتراكي تاريخه أيضاً وحركاته وثوراته.
وإن للتطبيق الاشتراكي نماذجه وأساليبه?
فما هو المنطلق الذي بدأ منه هذا التفكير وذلك النضال، وما هي الأهداف التي يرمي إليها التنظيم الاشتراكي، وكيف كان البدء?
هناك من يرجعون بالاشتراكية إلى أقدم العصور، فالاشتراكية عندهم هي «صرخة الإنسان الذي يطالب بالعدالة الاجتماعية»، ولقد وجد منذ أقدم العصور، إنسانيون ومصلحون نادوا بالعدالة الاجتماعية وبتحقيق العدالة بين البشر على الأرض. وهناك مثاليون حاولوا منذ القديم أن يرسموا للبشر صورة «للمملكة العادلة» و«الجمهورية الفاضلة». ولقد امتلأ القرن الماضي بالكثير من المفكرين النظريين الذين راحوا يضعون مبادئ هذا النظام العادل وأسس التنظيم الاقتصادي الذي يقوم عليه. ولكن الكثيرين منهم انطلقوا من مثل انسانية ومن مبادئ، مجردة لم يكن محكها الواقع الملموس، فاستحقت نظرياتهم وأفكارهم اسم «الاشتراكية الخيالية»، ولو أن منهم من حاولوا أن يأتوا ببرهانهم من التاريخ. ولكنهم كانوا يحوّرون التاريخ ليخضعوه لنظرياتهم. وكل من أراد منهم إثبات المبدأ الذي وضعه مسبقاً وبناه من تأملاته، كان يحاول أن يجد له جذوراً في أعماق الماضي، فيستقرئ التاريخ الإنساني ويرسم خطواته، وكأنه بدأ من نقطة وسار في وجهة معينة ليؤدي إلى تحقيق هذا المبدأ.
ولكن الاشتراكية لم تعد مجرد دعوة أخلاقية أو نظرية في العدالة، كما وأنها ليست شيئاً خارجاً عن حياة البشر وعلاقاتهم وإرادتهم، إنها ليست مبدأ في التاريخ ولا حتمية يسير إليها التاريخ من تلقاء نفسه وبعفوية ودون نضال، إنها نزعة نبتت من واقع الصراع البشري، إنها تستنطق التاريخ لتندمج في تياره ولتكوّن وجهة جديدة فيه، إنها تحلل الواقع وإمكاناته لتبدل هذا الواقع، فهي قد أصبحت إرادة إنسانية ومطلباً من مطاليب الجماهير الكادحة، التي تثور على الواقع وتصنع التاريخ. فالاشتراكية أصبحت صورة حية للبناء الاجتماعي الاقتصادي للدولة الحديثة، تتطلع اليها الجماهير في نضالها الدائب.
إن الأفكار والمطالب الاشتراكية ما هي بالشيء العتيق العريق في القدم، بل هي وليدة ظروف تاريخية وسياسية واقتصادية لمجتمعات بشرية في مراحل معينة من تطورها، وهي مرحلة نضج في الأفكار ووليدة تطور في العلاقات الاقتصادية والإنتاجية بين الناس. إن الاشتراكية هي بنت القرنين التاسع عشر والعشرين، أما ما قبل ذلك، فهو ما قبل التاريخ بالنسبة للاشتراكية، سواء من الوجهة النظرية أو الوجهة التطبيقية. ولكن هناك من تشاء مصالحهم، أو مثالياتهم، أن يقولوا أيضاً بالاشتراكية والعدالة الاجتماعية، ولكنهم وقد أداروا ظهرهم للتاريخ، يتوقفون بأفكارهم على ما «قبل ذلك التاريخ» لتصبح نظرياتهم في الاشتراكية ضرباً من النزعات والمطالب الاصلاحية، تستند إلى مبادىء ونظم فات أوانها.
فالاشتراكية من حيث المبدأ، تهدف إلى تحرير الإنسان من الاستغلال. وهي إنما تستند إلى الحل الاقتصادي، لا لأن الحل الاقتصادي يضمن لوحده إلغاء الاستغلال، بل لقناعتها المستمدة من تحليل الواقع الاجتماعي، وصراع المصالح، في أن عبودية الإنسان في النظام الرأسمالي، وخضوعه لسلطان الآلة الضخمة التي يملكها الرأسمالي، هي آخر وأوسع شكل من أشكال ضياع الحرية الإنسانية، وأن قلب النظام الرأسمالي وتبديل العلاقات الإنتاجية بين البشر بإلغاء الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، يخلقان الشروط الموضوعية المواتية لانعتاق الانسان وخلاصه من الضياع ومن الاستغلال.
وكلمة «الاشتراكية» منذ أن وجدت واستعملت كمصطلح في مطلع القرن التاسع عشر (منذ بداية الثورة الصناعية وانتشار الآلة وتعميمها في إنكلترا وأوروبا الغربية) طرح القائلون بها في البداية المشكلة في هذه الحدود: نحن أمام ظروف اقتصادية جديدة تتطلب حلولاً انسانية جديدة. فالاشتراكية جاءت هنا تقدم نفسها كحل للمشاكل الإنسانية والاجتماعية التي نشأت عن تطور النظام الاقتصادي عند انتشار الآلة، وما رافق ذلك من فقر ومن أوضاع استغلالية ومن ظروف اجتماعية معينة. والاشتراكية جاءت لتؤكد من حيث المبدأ «إمكان استبدال المبادرة الحرة للأفراد بعمل المجموع بصورة مشتركة في الإنتاج وفي توزيع الثروة».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع.. الحلقة الثالثة والثلاثون بعنوان: ملامح نشوء التفكير الاشتراكي(2/3)؛ بقلم الدكتور “جمال الأتاسي”